أخبروهُ بأنّ هديلَ المريضةَ
|
نامتْ أخيراً،
|
ونقَّلَها الاحتضارُ على راحتيهِ
|
كتفاحةٍ من شقاءْ!
|
أخبروهُ بأنّ الطفولةَ
|
راحتْ لتلعبَ في العيدِ فرحانةً
|
ثم أرجحها الموتُ
|
فوقَ براري الحداءْ!
|
بالأغاني التي حفظتها
|
وكلّ الدموعِ التي ذرفتها
|
على زهرةِ الفلّ
|
وهي تودّع قبلَ الرحيلِ
|
مراييلها المدرسيهْ
|
أخبروهُ
|
فما زالَ يحرثُ في الأرضِ فلاّحُ هذا الخريفِ
|
ويبحثُ عن زهرةٍ للرثاءْ!
|
أخبروهُ
|
فما زالَ حطّابُ أحزانها
|
يقطعُ الريحَ،
|
يجتثّها من جذوعِ المراثي
|
ليدفئَ أعمارنا في الشتاءْ!
|
كان يدركُ أنّ المواويلَ
|
أطعنُ من خنجرٍ
|
يغرسُ الحزنُ نصلته في وريدِ الهواءْ
|
كانَ يدركُ أن الدموعَ
|
أشقُّ على المرءِ من طعنةِ الظهرِ
|
أجرحُ من جرعةِ الخمرِ في الروحِ
|
قبلَ العذابِ
|
فغيّمَ في الريحِ
|
ثم تهاوى على جثّة بالبكاءْ!
|
كانَ يعلمُ أنّ الحمامةَ طارتْ مع الغيم
|
نحو حقولِ الغيابِ
|
فردّ إلى جهةِ القلب يسراهُ
|
ثم استدارَ إلى مغربِ الشمسِ
|
حيث تنوحُ المواويلُ فوق أعالي الألمْ!
|
حيث تبكي قصاصاتُ أرواحنا
|
الأرجوانَ الحزينَ،
|
وتتبعُ شمسَ الندمْ
|
لينادي على البحرِ:
|
يا أيها البحرُ!
|
يا مالئ الروحِ حزناً،
|
وغاسلَ أردانها بالدموعِ،
|
أما عدتَ تذكرُ تلك الصغيرةَ
|
وهي تحبّر بالماءِ زرقتها في الصباحِ،
|
وتدرجُ مثل الطيورِ على الرملِ؟
|
ما عدتَ تذكرُ تلكَ الشقائقَ
|
في خدّها المتورّدِ
|
وهي تفورُ احمراراً ودمْ؟
|
خانها الوردْ
|
واستلّها طائرُ الموتِ قبلَ الأوان،
|
وزهّرَ من دمعنا
|
فوق تربتها البيلسانُ
|
الحزينُ ندمْ!
|
كيف يمكنني أن أكفّنَ
|
شلالَ شَعْرٍ،
|
وزوبعةً من حمامْ؟
|
كيف يمكنني أن أحرّرَ زهرةَ قطنٍ
|
يحاصرها بالسوادِ قطيعُ الغمامْ؟
|
كيفَ أرثي فتاةَ الطفولةِ،
|
مطلعَ أغنية حملتها الرياحُ مع الغيمِ
|
حتى أقاصي المواويل،
|
فاسترسلتْ بالغناءِ
|
وصارتْ نداءَ الخريفِ الذي
|
يوجعُ الروحَ كلّ خريفْ
|
كيفَ أرثي هديلَ التي
|
لا تزالُ كشجرةِ سروٍ
|
تنادمُ شباكنا بالحفيفْ؟
|
كيفَ ألمسُ شالاً من الثلجِ
|
في شفقٍ ناشجٍ بالحليبِ،
|
وناياً يحلّقُ في أفقِ الدمعِ
|
مثل الكنارِ الكفيفْ؟
|
كيف أرثي هديلَ التي لا يداعبها النومُ
|
إلاَّ على مغزل الصوفِ
|
وهي تحوكُ سوادَ الليالي الشفيفْ؟
|
لم تمتْ!
|
هكذا أخبرتني اليمامةُ
|
وهي تنوحُ على شجرِ اللوزِ..
|
أخبرني طائرُ الوردِ
|
وهو يدوسُ على الثلجِ أوّلَ مرهْ
|
هكذا أخبرتني رياحُ الخماسينِ
|
وهي تقصّفُ راخيةَ الخيزرانِ العجوزِ
|
على حائطِ المقبرهْ
|
هكذا أخبرتني الأمومةُ
|
وهي تهدهدُ مهدَ هديلَ القديمَ
|
بأغنيةٍ مقفرهْ
|
أخبرتني الطيورُ التي بلّها الدمعُ
|
آخرَ مرهْ
|
قبِّلوها إذن!
|
قبلوها بنفسِ الشفاهِ التي قبلتها على المهدِ
|
وهي تناغي على مطلعِ الصبح
|
زهرةَ دمعٍ ولوزْ
|
كفّنوها!
|
بنفس الثيابِ التي لبستها
|
وراحتْ إلى الحقلِ
|
تركضُ مثلَ الزغاريدِ
|
خلفَ طيور الإوزّ
|
كفنوها!
|
وتهرمُ زيتونةٌ فجأةً
|
ثم تسقطُ أيقونةٌ بالبكاءِ
|
ويبكي الحمامْ
|
وهديلُ الحساسين قبل ولادتها المغربيّةِ
|
من مدمع الصبحِ
|
قبلَ ولادةِ أحزانها في الغمامْ
|
وقصاصةُ حزنٍ
|
تسيلُ على حسرةٍ تائههْ
|
في الظلامْ
|
وهديلُ غناءٌ أخيرٌ على مغربِ الشمسِ،
|
بنتٌ تطيرُ عكس الغيومِ جدائلها
|
كي تنامْ
|
وهديل (..)
|
سأبكي
|
وأنشرُ روحي كمحرمةٍ لدموعِ هلالِ الأماسيِّ
|
حينَ يمرُّ على سطحنا
|
قمراً بدويَّ الهيامْ
|
سأكوّرُ حزنيْ ككأسِ النبيذِ
|
وأدعوهُ مثلَ النبيّ
|
بسبع شموعٍ،
|
لتدمعَ عيناهُ في كأس روحي الحرامْ
|
فأنا الآنَ كهلٌ ضريرٌ
|
وكلُّ الحياةِ ظلامْ
|
"وهديلُ..
|
سألتُ الهلالَ على العاصيَ المترامي
|
فأخبرني أنّ بنتاً من اللوزِ
|
كانتْ تجيءُ إلى النهرِ كلّ مساءٍ
|
وتجلسُ في الصمت ذاهلةً
|
بانتظارِ لفيفِ الإوزّ
|
فما أن تحطّ على الماءِ تلك الكؤوسُ من اللازوردِ
|
المذهّبِ
|
حتى تغيبْ
|
وسألتُ لفيفَ الإوزّ فأخبرني
|
أنها عمّرتْ بيتها في المغيبْ"
|
*العاصي : نهر العاصي الذي يمر بمدينة حمص
|