"مودنان مروان"
إن التاريخ الحقيقي لحياة الشعوب في طبيعة تفكيرها، ونمط تعبيرها وأشكال انفعالها وأساليب فعلها وفي همومها وآمالها وشقائها وطموحاتها، ما يزال تاريخا غير مكتوب إلى اليوم، والدراسات التي يظنها المرء قريبة من الشعب، مثل دراسة الآداب والفنون والتاريخ وسير الرجال، هي دراسات أكثر بعدا عن الشعوب، على الرغم مما تبدو عليه من قرب في المظاهر.
إن تاريخ الأدب يعنى بأشكال وأنواع، هي نتاج فئة من المجتمع، وليست نتاج الشعب نفسه، ولا شك في أن تلك الفئة هي جزء من المجتمع، ولكنها لا تعبر في الأغلب عن وجهة نظره، ولا تمثله في ثقافتها المتميزة و مزاجها الخاص، والأدب ليس بصادر عن المجتمع وإنما هو موجه إليه، فليست الغاية منه هي التعبير عنه، وإنما التأثير فيه.
وأما التاريخ، فقد كان وما يزال إلى اليوم، معنيا بسير العظماء وتاريخ حياتهم، وأثرهم في الحياة العامة، ونتائح الأحداث ودورها في المجتمعات، ولكن التاريخ الحقيقي للمجتمع، في همومه وعذابه وآلامه وشقائه، وفي أفراحه وطموحاته وآماله وكفاحه، وفي تفكيره وانفعاله، وفي فعله وتعبيره، ولا يمكن أن يتحقق إلا بالبحث في نتاج يقدمه المجتمع نفسه.
ولقد عني الدارسون الأوائل بالمرويات الشعبية، وحفظوها، وصنفوا فيها، وأبرزوا قيمتها، مثلها في ذلك مثل الأدب الذي يبدعه كبار الأدباء، أو الأقوال التي يقولها كبار الفلاسفة، ولا يذكر في هذا المجال أفذاذ عنوا بالمرويات الشعبية، أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي والأصفهاني فحسب، وإنما يذكر غيرهم أيضا من كبار الأدباء، أمثال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن عبد ربه.
ومما لا شك فيه، أن العناية اليوم بالتراث الشعبي، ليست كالعناية به في القديم، ولاسيما في الأساليب والمناهج، ولكن عناية الأقدمين به تظل ذات دلالة على موقف سليم.
1 ـ مفهوم التراث :
تعد كلمة التراث من الألفاظ الشائعة الاستخدام في اللغة العربية الفصحى وفي لهجاتها المختلفة، وهي اسم مشتق من الفعل "ورث، يرث، إرثا"، وهو كل ما يخلفه الرجل لورثته من بعده، فهو متوارث وقابل للإيراث من بعده بحكم التقادم و الانتقال.
وجاء في لسان العرب لابن منظور: «ورث من الوارث، وهي صفة من صفات الله عز وجل، فهو الباقي الدائم، الذي يرث الخلائق كلها، ويبقى بعد فنائهم».
كما وردت كلمة تراث في القرآن الكريم، وذلك في قوله سبحانه و تعالى :"وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما"، ثم أيضا في قوله تعالى :"ثم أورثنا الكتاب"، كما أتت كلمة تراث في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، إضافة إلى ورودها في الشعر الجاهلي.
يبدو جليا انطلاقا من هذه الأمثلة أن كلمة "تراث"، أصيلة في نخاع الثقافة العربية والإسلامية.
2 – مفهوم التراث الشعبي :
لعل من أهم مشاكل هذا المصطلح، هو عدم الاتفاق على تعريف واحد يفسره، وذلك راجع لكونه من مصطلحات العلوم الاجتماعية التي تتأثر بالخلفيات العلمية والسياسية، ولكننا سندرج أهم التعاريف، بالاعتماد على تجربة رائدة في مجال توثيق التراث بعالمنا العربي، وهو "مكنز التراث الشعبي المغربي".
نجد أول تعريف للتراث الشعبي على أنه :"الموروث الشعبي من أفعال وعادات وتقاليد وسلوكات وأقوال، تتناول مظاهر الحياة العامة والخاصة، وطرائق الاتصال بين الأفراد والجماعات الصغيرة، والحفاظ على العلاقات الودية في المناسبات المختلفة بوسائل متعددة، والاحتفال بالمناسبات التي يبدو في طرائقها عدد كبير من معتقدات الشعب الدينية والروحية والتاريخية".
وحسب "سيدني هارتلاند" فالتراث :"هو تلك الدائرة الكاملة من الفكر والممارسة والعرف والمعتقدات والطقوس والحكايات والموسيقى والأغاني والرقصات وسائر التسليات الأخرى، والفلسفة والخرافات والسنن التي تنتقل مشافهة من جيل إلى جيل، عبر عصور غير مذكورة، وباختصار، هو ذلك الكل من الظواهر السيكولوجية للإنسان غير المتحضر".
فالتراث في المفهوم العربي، هو ذلك الفولكلور، أي الكيان الإنساني الذي يحتوي مجموع النشاطات التي عرفها الإنسان في المجتمعات السابقة، والتي تصلح كمصدر لمعرفة ماضي هذه المجتمعات، ويلاحظ استعمال مصطلح فولكلور بكثرة في المفهوم الغربي للتراث، حيث يتكون من "فولك" التي تعني العامة من الناس، و"لور"وتعني الحكمة، وقد اعتمده أول الأمر الكاتب الإنجليزي "وليام جون تومز"، للدلالة على حقل دراسات العادات والتقاليد والممارسات والخرافات والملاحم والأمثال.
وقد قسم التراث الشعبي إلى أربعة أقسام رئيسية :
أ – الأدب الشعبي
ب – المعتقدات والمعارف
ج – العادات والتقاليد الشعبية
د – الفنون الشعبية والثقافة المادية
إشكالية توثيق التراث الشعبي :
يعتبر التراث الشعبي بكل تنوعاته، رافدا مهما من روافد إغناء ذاكرة الشعوب، لما يحتويه من قيم متنوعة يمكنها أن تطور المجالات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية للمجتمع، خاصة إذا تم استغلالها بمنطق جاد وهادف، وبأساليب وتقنيات ومناهج دقيقة ضمن مخططات وبرامج تنموية.
وإن مسؤولية جمع التراث وتوثيقه، تلقى على عاتق الباحثين والدارسين، فإذا كانت النظرة السائدة للتراث الشعبي نظرة احتقار ودونية، مقارنة بالأشكال الأخرى، فإن من الواجب علينا نحن، الباحثين فيه والدارسين له، أن نحلل ظواهره ضمن إشكاليات علمية، تفتح الآفاق وتكون همزة وصل بين حاملي التراث والمادة التراثية.
إن النص التراثي بالنسبة للباحث في التراث الشعبي، يجب أن ينجز، أي أن يتحقق ويصبح ملموسا على المستوى المادي، وهذه المهمة تفترض تدخل إجرائيات : الجمع والتدوين والتحقيق، وهذا يفترض تداخل مجموعة من المختصين، بدءا بالباحث في النص التراثي والعالم اللغوي والفيلولوجي أحيانا.
والنص التراثي، لا يوجد ولا يتحقق إلا من خلال جملة من الروايات للنص الواحد؛ يمكن أن نتكلم عن نص نواة، لكن تعدد الروايات يجعل هذا النص يأخذ تفريعات وتلوينات من حيث اللغة والشخصيات والمعجم والصور حسب سياق التداول، وما يميزه من وقائع وعلامات.فهذا النص يمكن أن يحمل بعض العناصر التكوينية مثل المعجم والصور التي تكون مخالفة لما نجده في منطقة أخرى، في نفس الوقت لا يمكن أن نصف رواية معينة من الروايات بأنها الرواية الحجة.
ولهذا فعلى المهتمين بالظواهر التراثية القيام بمهمة أساسية، والتي يعبر عنها بإشكالية توثيق التراث الشعبي، ذلك أنها تفصل بين الداء والدواء، فمشكل التراث الشعبي، هو أنه في مجمله شفاهي، هذا بالنسبة إلى نوع من أنواع التراث الشعبي، الذي تندرج فيه الأغاني والأمثال والنكت والأحاجي...، إذن فهو أكثر عرضة للضياع والاندثار، إذا لم يتم جمعه، وتصنيفه وتوثيقه، وبذلك يحفظ جزء مهم من تاريخ وحضارة الأمة، وبالتالي إنعاش الذاكرة المفقودة، ونفض الغبار عنها، قصد تعريفها وطنيا و دوليا.
إذن،هناك حاجة ضرورية الآن، للقيام بتوثيق علمي متقدم، ورصد لعناصر التراث الشعبي، سيرا على نهج التجارب الرائدة، واعتمادا على كل الوسائل المتاحة، من أجل تقديمه إلى الدارسين والباحثين، للاستفادة منه، وإبراز تجذر الهوية و تفاعلها المشترك مع باقي الهويات الأخرى.
المصادر والمراجع :
1- بدير حلمي، أثر الأدب الشعبي في الأدب الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1986، ص15
2- ابن منظور، لسان العرب، دار بيروت، ج2، ص199ـ 200، مادة ورث.
1- مكنز التراث الشعبي المغربي، د.سعيدة عزيزي، دار القرويين، ط1،2008، ص27.
2- المصدر نفسه،، ص28-29.
1- المصدر نفسه، ص30.