سقوط الآقنعة
كان لقاءهما بعد سنين طويلة من الفراق يشبه الحلم… وبالرغم من ترددها في السعي إليه بعد هاتفه المفاجئ، إلا أنها لم تتأخر من التقاط اللحظة الأليمة التي تفرقا فيها -متوجهاً كل منهما إلى مصيره وحياته
- معتبرة بأن الزمن قد توقف عند الساعة السادسة مساء يوم الخميس، السادس من شهر أيلول، منذ ستة وعشرين عاماً !؟.
وبأن اليوم السابع من الأسبوع هو اليوم الضائع من حياتها، والذي كان عليها أن تسترده، لتتربع به على عرش السكون وترتاح !؟.
وكانت وهي ترتمي بين ذراعيه، تستغرب هذه المفارقة العجيبة، وهي أن تأخذ عقارب الساعة مسيرها المعتاد، بعد كل هذه السنوات، ومن نفس اللحظة التي توقفت عندها !؟
.ولهذا فهي لم تتوان لحظة واحدة من إخراج عقدها البسيط، المكون من حصاة كبيرة حفرت عليها أولى الحروف من اسميهما… بعد أن لبست الصدرية المطرزة التي يحبها، وأسقطت شعرها على كتفيها العاريين، حتى يتسنى له رؤية وتقبيل (الشامة) علامتها الفارقة المحببة لديه !؟
.وبالرغم من الجهد الواضح الذي بذلته لكي تبدو أصغر سناً كما تركها، إلا إنها لم تستطع أن تخفي خطوط الزمن الواضحة على وجنتيها، والكثير من البقع البنية التي بدأت بالانتشار في كل مكان حول رقبتها، بالرغم مما أضافته عليها من مساحيق.
والشعور بالفرح العارم الذي لمسته في عينيه وهو يضمها إليه، لم يمنحها الجراءة الكافية للابتعاد عن صدره، بعد إن أسندت رأسها الصغير عليه، وقد طوقته بكلا ساعديها… خوفاً من أن تقرأ في وجهه شيئاً آخراً غير ما تتمناه !؟.
فلقد بدا لها وسيماً جداً بهامته الرزينة وأكثر جاذبية من قبل، وقد أضفت الخطوط البيضاء اللامعة على شعره الكث الأسود الكثير من الوقار… فأطبقت عليه بشدة تنشد بعضاً من المؤازرة، وهي تستنشق عبير جسده الممزوج بعطره المعتاد.لتأخذ بها تلك الرائحة الذكية التي تعشقها، إلى لحظات خلوتهما القليلة، وتزيد من خفقان قلبها وترعش مفاصلها، كعصفور صغير وقع لتوه في الأسر !؟.
فتراءت لها صورة أول لقائها به -أمام مدرسته الثانوية- يستند إلى دراجته الهوائية وهو يرمقها بنظراته الحنونة وابتسامته البريئة كالأطفال !؟.ولم تكن تعلم بأن ابتسامتها الساخرة منه، سيكون لها ذلك التأثير السحري عليه، ليبدأ في مطاردتها ويكرس بكل جدية قصة حب من طرف واحد !؟.
فلقد كانت -بحكم تقارب السن فيما بينهما- تعتبره مراهقاً حالماً، في حين تتمتع هي بكل عوامل التعقل والرشد، ولم تجاره في لعبته إلا مواساة وشفقة عليه، لأنها تدرك تماماً بأنه يحتاج لأكثر من عشر سنوات حتى يبني نفسه فيها، في حين تكون قد تزوجت وأنجبت واستقرت.وبأن قوانين المجتمع الذي تعيش فيه، لن تترك لها عذراً واحداً لكي تأخذ مبادرته بحبها، واهتمامه بها على محمل الجد !؟.
ولم تشعر بوقوعها في فخ لعبتها تلك، وبصدق مشاعرها نحوه، إلا بعد أن افترق عنها تاركاً خلفه تلك الآثار البسيطة، المكونة من بضع رسائل ومنديل، وهذا العقد البسيط المصنوع من خيط القنب، والمعلق عليه حصاة لامعة كان قد تفنن في نقش حروف اسميهما عليها، وبعض من الورود الجافة التي احتفظت بها في صندوق صغير كانت قد أودعته بيت والديها ولم تفرج عنه إلا منذ أيام !؟.
ولهذا فلقد كانت تعتبر ظهوره ثانية في حياتها، هو الملاذ الأخير الآمن من الوحدة القاتلة التي تعيشها بعد أن ترملت، واخذ كل من أولادها طريقه في الحياة.وبأن عليها وقد وجدت نفسها في حضنه الدافئ، يوزع قبلاته العطشى عليها، هامساً في أذنيها كلماته العذبة الحنونة، أن تستسلم له بكل جوارحها.فلقد آن الأوان لها أن تكشف عن صدق مشاعرها، وعظمة ذلك الحب الذي تحفظه له، وأن تتخلص وللأبد من أقنعتها المزيفة الواهية التي كانت تظهر بها أمامه !؟.
ولكي لا يفهم صمتها على أنه استسلام من له دين عليها، بادرت في عناقه بحرارة وشوق، وهي تلتصق به، متكورة في حضنه، كجنين لم يغادر رحم أمه بعد.
بقلم : يحيي الصوفي