كان يقف شامخًا يزخر بكنوز علمية تسجل فيه مصر تاريخها الحضاري والعلمي، محتضنًا خيرة العلماء والمفكرين، لكنه تحول الآن إلى مبنى مهجور محترق! إنه المجمع العلمي أو رمز العلم في مصر، الذي تعرض للحريق منذ يومين خلال أحداث مجلس الوزراء المصري الأخيرة، واحترق وضاع منه وثائق وتاريخ مصر منذ عام 1798, مسجلة في 200 ألف كتاب نادر وعلى رأسها كتاب وصف مصر، بتكلفة تقدر بنحو 100 مليون جنيه مصري.
ويقع مبنى المجمع العلمي عند مدخل شارع الشيخ ريحان بين (ميدان التحرير وشارع مجلس الوزراء) الذي كان مركزًا لمواجهات دامية بين القوات العسكرية والمتظاهرين، وكان المجمع بعيدًا عن الاشتباكات حتى اللحظة التي اعتلى فيها أشخاص بزي مدني -قال المتظاهرون إنهم من قوات الأمن- سطح المجمع المكون من طابقين فقط، وأمطروا المتظاهرين بالحجارة وبعدها تحولت البناية لمركز للمواجهات خصوصًاً أن قوات من الجيش كانت تتمركز على بعد أمتار منها.
ورد عشرات المتظاهرين على استهدافهم بالحجارة بالمثل، وظلوا على مدار ساعات يرشقون المبنى ومن يعتليه بالحجارة، قبل أن يتطور الأمر إلى إلقاء زجاجات مولوتوف دخلت بعضها من شرفات البناية لتندلع الحرائق داخله، ويبدو أن الكتب والأوراق والأسطح الخشبية في مبنى المجمع العلمي قد ساعدت على اشتعال النيران بشكل كبير، لتلتهم عشرات من أمهات الكتب التاريخية .
وبحسب الأمين العام للمجمع الدكتور: (محمد الشرنوبي) فإن القيمة المادية للمبنى والكتب ليست المهم، وإنما الأهم هو القيمة المعنوية، حيث تمثل هذه الكتب والوثائق كنوز التراث المصري، مشيرًا إلى أن المجمع كان يضم نحو 200 ألف كتاب أتى الحريق عليها كلها.
المجمع العلمي الذي بناه الغازي الفرنسي (نابليون بونابرت) يعد من أقدم الأماكن التاريخية في مصر، ولعل كانت الخسارة الأكبر في هذا الحريق -الذي لا يعرف أحد حتى الآن من المسئول عنه؟- احتراق النسخة الأصلية لكتاب (وصف مصر) المكون من 20 مجلدًا، والذي وضعه مائة وخمسين عالمًا وأكثر من ألفي متخصص، ليصبح أكبر وأشمل موسوعة للأراضي والآثار المصرية، وكان له الفضل الريادي في مجالات الدراسات المصرية على وجه العموم.
كما ضم المجمع أصول الكتب التي خطها الرحالة الأجانب، الذين زاروا مصر في القرون (الـ 16، الـ 17، الـ 18) إضافة إلى كتب نادرة اقتناها المجمع في إطار اتفاقات تبادل مع المجامع المماثلة،
واحتفظ المجمع على مدى سنوات بنحو 700 كتاب من نوادر المطبوعات، وهي كتب طُبعت في أوروبا في القرنين (الـ 17، الـ 18) ولم يتبق منها إلا 3 أو 4 نسخ على مستوى العالم حرقت إحداها في المجمع العلمي المصري.
ويضم المجمع مكتبة ضخمة، وينشر مجلة سنوية ومطبوعات خاصة، وتمكن في فترة وجيزة أن يقيم مطبعة عربية وأخرى فرنسية، وينشئ جريدتين فرنسيتين واحدة سياسية وأخرى علمية اقتصادية.
ويأتي هذا الحريق في ظروف عصيبة وموجة من الأحداث العنيفة المتوالية التي تمر بها مصر، وتساؤلات حول من يريد الفوضى والخراب للبلاد وتاريخها العريق، خاصة مع وجود شبهة التعمد في هذه الحوادث، وآخرها حريق المجمع العلمي حيث تشير أصابع الاتهام لجهات محسوبة على النظام السابق، وجهات أخرى داخلية وخارجية تريد إحداث الفوضى من خلال العبث بمقتنيات مصر العلمية والتاريخية، كخطوة أولى في سيناريو التخريب خاصة مع تحقيق الإسلاميين لمكاسب كبيرة في الانتخابات الجارية.
وقد فجر عالم الآثار وعضو المجمع العلمي المحترق د. عبد الحليم نور الدين مفاجأة كبيرة بعد حريق المجمع، قال فيها: "إن بعض المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية تداولت في مساء الجمعة خبر إحراق مبنى المجمع، بينما لم يتعرض المجمع حتى ذلك الوقت لأي أذى، حيث توجه أمين عام المجمع إلى المبنى فور إعلان الخبر، وتأكد بنفسه أن البناية لم تتعرض للحريق ولا حتى لرشق الحجارة، مشيرًا إلى أن إشاعة ذلك الخبر في حينها كانت تمهيدًاً لإحراق المبنى يوم السبت، وأن جهة ما كانت وراء تسريب الخبر وهي في الغالب المسئولة عن ارتكاب تلك الجريمة".
والآن وقد تحول المجمع العلمي الذي كان يضم التاريخ العلمي للدولة المصرية الحديثة إلى مبنى مهجور ومحروق ومسلوب، يظل السؤال مطروحًا أي أيادي خفية وراء هذه الفاجعة، وهل ستتكرر؟ وهل سيمكن لتاريخ مصر أن يستعيد عافيته بعد ما لحقه دمار؟
تقرير إخباري: إيمان الشرقاوي