الإصلاح في السعودية: حيث لا شيء محسوم

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : نضال البيابي | المصدر : www.middle-east-online.com

من المؤلم لنا نحن السعوديين أن نكون وسيلة للتندر عبر وسائل الإعلام العالمية بسبب قضايا اعتقالات الكتّاب، الجلد، حقوق المرأة، والحسبة، ومحاكم التفتيش الأصولية.
 
ميدل ايست أونلاين

بقلم: نضال البيابي

لماذا هذا الخوف الكابوسي من التجديد في السعودية؟
هل لأن الأفكار الجديدة مشكوك بها وعادة يتم معارضتها، ليس لشيء لكن لأنها ليست شائعة كما يقول جون لوك؟ يأتي الجواب من الداخل السعودي مكتظاً بالتشاؤم: الخصوصية السعودية أعمق من ذلك بكثير!
فالذي يحد من انطلاقة الفكر الحر هو عدم توافر ما يكفي من مساحات الحرية تارة، وعدم وضوح الرؤية الذاتية تارة أخرى.
لأن العراقيل التي تقف أمام محاولات التجديد اليتيمة في السعودية سواء كانت على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي أو حتى الديني، ليست حصراً بالإرادة السياسية – وإن كان لها دور مهم لا يستهان به، بل هي مع الأسف خاصية انبنائية اجتماعية عميقة الغور ترسبت عبر عقود في نسيج المجتمع السعودي حتى أصبحت مسلمات لا تُمس. وكلاهما- أي الإرادة السياسية والبنى الاجتماعية- تساهم بحجة أو بأخرى في ديمومة المهمة الرتيبة للمواطن سيزيف.
قد يقول قائل: إن أهم أسباب الازدهار الثقافي في أي مجتمع هو توافر قدر كاف من الحريات الديموقراطية، وفي السعودية ما تزال "الثقافة" تحت إشراف الدولة التي تمارس التوجيه والرقابة من خلال الأجهزة الحكومية على كافة النوافذ الثقافية المتاحة، فعن أي إصلاح تتحدثون؟ وهذا صحيح، ولكنه ليس الحقيقة كلها.
فقصور الإرادات الحكومية في وطننا – التي لم تأتِنا من الفضاء الخارجي- لا ينبغي أن ينسينا هذا الانفصام الشيزوفريني الذي يشلّ القوى ويثبط الهمم الذي مصدره بنى متحجّرة من الأعراف والتقاليد والعادات التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من نظرتنا إلى العالم، إلى "الأنا" و"الآخر"، والتي تبدو كأنها قدرٌ يصوننا ضد أي تجديد.
فهل من المعقول بربكم في هذا العصر أن ترتعد فرائص ثقافتنا العريقة وقيمنا الأصيلة من أجل مسألة في منتهى البساطة كقيادة المرأة للسيارة؟
"والله احنا مساكين!" أليس من المؤلم لنا نحن السعوديين أن نكون وسيلة للتندر عبر وسائل الإعلام العالمية بسبب قضايا اعتقالات الكتّاب، الجلد، حقوق المرأة، والحسبة، ومحاكم التفتيش الأصولية...إلخ؟
أليست تلك المسائل العالقة يمكن أن تحل بشطحة قلم من أعلى الهرم السياسي لكي يُسدل الستار على هذه البكائيات الهزلية؟
وحتى لا يصفعنا أحد المواطنين "الصالحين" سواء كان من المطاوعة أو الليبراليين الجدد، بالاتهامات المحلية المستهلكة كالرويبضة والتغريبي وأذناب إيران وما إلى هنالك من فزاعات يُستدرج لها البسطاء ويُزج بها عند كل حراك حقوقي جاد من أجل تحويره عن دلالاته التاريخية والموضوعية نحو سياقات مشبوهة كالطائفية مثلاً، لكي يفرغ من مضامينه ذات الأبعاد الإنسانية والوطنية، من أجل دغدغة مشاعر المواطنين الصالحين البسطاء، الذين يتخذون منهم دروعاً بشرية ضد كل محاولة تجديد أو تحريك للآسن.
نقول له بهدوء: ما دمتَ مواطناً "صالحًا" فلا غرو أن ترفض كل ما يمتّ للعقل النقدي بصلة، وستظلّ على بركة الله تائهاً لا تميّز بين العقلنة المنيرة المنقذة من أوهام الجهل والتضليل الفكري والبروباغندا الإعلامية الصفراء، وبين العقلنة المزيِّفة للحق، الملبِّسة للواقع، المؤيدة للوعي المختل، والمؤسِّسة للجهل المقدس، والمؤدية في نهاية الأمر إلى نفي الذات ونبذها وإنكار شرف الإنسان وكرامته.
هذه العقلية التي تنظر إلى الوجود من خلال مقياس خصوصيتنا السعودية من جهة ومقياس أصالتنا من جهة أخرى، بمعنى: كلما ابتعدنا عن القيم "التغربيّة" أو الليبرالية إن شئتم المساواة، الحرية، التعددية، حقوق الإنسان...إلخ، ازددنا تديناً وأصبحنا أكثر تماساً بالأخلاق السعودية!
تلك الأصالة المشوهة التي تُختزل في مقدار الوفاء لأنماط تراثية معينة أكل الدهر عليها وشرب، والتي تعني بعبارة صريحة الانغلاق على الذات وتنمية الجمودية المقدسة!
وهذا ما ذهب إليه سلامة موسى في تحليله لبنية المجتمع المتخلف: كلما كان المجتمع جاهلاً تحوّل المُعالج إلى دجال!
وكل هذا يستدعي سؤالاً آخر: ألا تشكل مسألة اللا تسامح جزءاً رئيساً في بنى المجتمع السعودي؟
وكأننا لا يمكن أن نكون الـ"نحن" إلاّ إذا رفضنا "الآخر"، وإذا تساءلنا لماذا؟
سنجد السر يكمن بطبيعة الحال في التربة التي غدت أفكارنا، دوافعنا، والحقل الجوفي الذي روى خصوصيتنا.
لذلك نعاني تمزقاً وتصدعاً نفسياً بين إغواءات الحداثة وهذيان أو وسواس العودة إلى الأصول الثابتة، أوالبدايات البكر، وهذا هو على وجه التحديد ما يميز خصوصيتنا السعودية في نهاية الأمر.
ألسنا ننصاع لأنصاف المقاييس ونتكوّر في حلزونيات مبهمة شديدة التناقضات وطافحة بالتوليفات الغريبة، حيث لا شيء محسوم، ولا شيء واضح على الإطلاق؟
فأنت تريد أن تكون مسلماً أصولياً في جانب ورأسمالياً في جانب آخر، ليبرالياً في جانب حقوق المرأة على سبيل المثال، وطائفياً نزقاً أو قبلياً في جانب آخر، وهكذا دواليك.
فبين الاستبداد والديموقراطية، الحداثة والرجعية، نظلّ معلقين بين السماء والأرض.
بين انتماءاتنا السماوية وانتماءاتنا الأرضية، نظل نقطة افتراضية تطفو على سطح ما.
يقول المفكر جلال أمين: إننا نعيش فى عصر لا يسمح لنا فيه إلا برؤية ما يظهر على خشبة المسرح، دون أن يقال لنا أي شيء عما يدور فى الكواليس، بل كثيراً ما يقال لنا عكس ما يدور فيها بالضبط.
القرارات تأتى كحصيلة صراع بين العديد من المصالح والضغوط التى لا يسمح لنا بمعرفتها، ولا يترك لنا إلا حق التخمين. وأرجو أن لا يستأصل منا هذا الحق بذريعة الخصوصية السعودية درءاً للمفاسد!
والسؤال الحائر في واقعنا المحلي:
ما المعنى العميق لحياة المواطن/ة السعودي/ة، اليوم، في أفق التحولات التاريخية التي تشهدها المنطقة؟
الجواب ليس متوافراً في الصحافة الرسمية، ولا في المؤسسات المدنية التي ليس لها وجود فعلي مطلقاً على أرض الواقع، ولا في مجلس الشورى طبعاً، وبالتالي لا يمكن رصده إلاّ من خلال فضاءات الـفيس بوك والتويتر والمنتديات الإلكترونية، التي وجد فيها الشباب من كلا الجنسين متنفساً وملاذاً – ولو كان افتراضياً، لسكب كل ما يختلج في صدورهم من أفكار وطموحات واحتباسات وجدانية، كتعويض عن واقع اجتماعي طافح بالكبت والحرمان والإقصاءات ونظم أخلاقية متعسفة تطوق الأعناق باللاءات ولا تقدم بديلاً حقيقياً يمتص طاقاتهم وشحناتهم النفسية. إن أهم حلم يراود جيلنا الشبابي:
أن يكون جميع المواطنين في السعودية، رجالاً ونساءً، متساوين أمام القانون، ويحق لأي إنسان في السعودية، رجلاً كان أو امرأة، أن يُظهر رأيه في أي شأن سواء كان سياسيًا، أو دينيًا، أو اجتماعيًا، دون وصاية أو إملاء من أحد، بل تحت حماية القانون.
هذه الآمال الشبابية الخلاقة هي البذرة الأولى لنمو وازدهار مستقبل هذا الوطن، ويمكننا أن نعول عليها بشكل جدي على المدى البعيد، لو اتسعت رقعتها قليلا.
يقول الشاعر السعودي عبدالله الصيخان:
أيها الوطن
أعطنا بصراً كي نراك، وأوردةً كي تمرّ بنا..