مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي علي أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون علية ويجدون شيئا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك شعرا جاهليا يمثل حياة جاهلية انقضي عصرها بظهور الإسلام فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية بل أنا أذهب إلي أبعد من هذا فأزعم أني سأستكشف لهم طريقا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلي هذه الحياة الجاهلية أو بعبارة أصح : يصلون إلي حياة جاهلية لم يعرفوها إلي حباة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلي الشعراء الجاهلين . ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشي وإنما أسلك إليها طريقا أخري وأدرسها في نص لا سبيل إلي الشك في صحته وأدرسها في القرآن فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي ونص القرآن ثابت لا سبيل إلي الشك فيه أدرسها في القرآن وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل الإسلام بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه فلست أعرف أمه من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلي طرفة وعنترة والشماخ وبشر ابن أبي خازم . قلت : إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية وهذه القضية غريبة حين تسمعها ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا فليس من اليسر أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذة الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا علي أسراره ودقائقه وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله علي العرب فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر إنما كان القرآن جديدا في أسلوبه جديدا فيما يدعوا إلية جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ولكنه كان كتابا عربيا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي وفي القرآن رد علي الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية وفيه رد علي اليهود وفيه رد علي النصارى وفيه رد علي الصابئة والمجوس وهو لا يرد علي يهود فلسطين ولا علي نصارى الروم ومجوس الفرس وصابئة الجزيرة وحدهم وإنما يرد علي فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد الغربية نفسها ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة أفتري أحد يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر "؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية وأحفظ المسامين حين أهاجم الإسلام وأنا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء ذلك لأني أهاجم ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية وكذلك كانت الحال حين ظهور الإسلام : هاجم الوثنية فعارضه الوثنيون هاجم اليهود فعارضة اليهود وهاجم النصارى فعارضه النصارى ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلي الهجرة وأما اليهودية فقد ألبت علية وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ثم انتهت إلي الحرب والقتال وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية . لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية إنما كانت وثنية في مكة يهودية في المدينة ولو ظهر النبي في الجيرة أو في نجران للقي من نصارى هاتين المدينتين مثل ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر علي مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلي الصدام المسلح أدرك النبي أوله وانتهي به الخلفاء إلي أقصي حدوده . فأنت تري أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن ديانات ألفها العرب : فهو يبطل منها ما يبطل ويؤيد منها ما يؤيد وهو يلقي في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان علي نفوس الناس . وإذن فما ابعد الفرق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين والبحث عنها في القرآن ! فأما هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدنية المتسلطة علي النفس والمسيطرة علي الحياة العلمية وإلا فأين تجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة !أو ليس عجيبا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدنية للجاهليين ! وأما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر يمثل لنا الحياة دينية قوية تدعوا أهلها إلي أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ف'ذا رأوا أنة قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلي إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر . أفتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين ؟ كلا ! كانت قريش متدينة قوية الإيمان بدينها ولهذا الدين وللإيمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت ما ضحت وقل مثل ذلك في اليهود وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذين جاهدوا النبي عن دينهم فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدنية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدنية وحدها وإنما يمثل شيئا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي يمثل حياة عقلية قوية يمثل قدرة علي الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة علي الخصام والشدة في المحاورة وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون ؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا إلي حلها في البعث في الخلق في إمكان الاتصال بين الله والناس في المعجزة وما إلي ذلك أفتظن قوما يجادلون في هذه الأشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصاحبه بالمهارة أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين كلا لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة . وهنا يجب أن نحتاط فلم يكن العرب كلهم كذلك ولا يمثلهم القرآن كلهم كذلك؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم؛ وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ ،القرآن شاهد بهذا .