لم ينس الإسلام السنن المهمّة للطعام والشراب سواء كان الطعام في البيت أو كان دعوة خارجه, فجعل نعمة الطعام محفوفةً بسنن ظاهرة وذوقيّات باهرة تجعل من الطعام مطيةً للارتقاء في سلّم الشكر لله سبحانه وتعالى فعَن أَنَسِ ابنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :\" إِنَّ اللَّهَ لَيَرضَى عَن العَبدِ أَن يَأكُلَ الأَكلَةَ فَيَحمَدَهُ عَلَيهَا أَوْ يَشرَبَ الشَّربَةَ فَيَحمَدَهُ عَلَيهَا\".(مسلم4915). ومن هذه السنن: 1-الوضوء قبل الطعام وبعده (غسل اليدين والفم): فعَن سَلمَانَ قَالَ قَرَأتُ فِي التَّورَاةِ أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ الوُضُوءُ بَعدَهُ, فَذَكَرتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَأَخبَرتُهُ بِمَا قَرَأتُ فِي التَّورَاةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : \" بَرَكَةُ الطَّعَامِ الوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالوُضُوءُ بَعدَهُ \". (الترمذي1769). قال في تحفة الأحوذي وهو يشرح الحديث السابق: \" المراد بالوضوء غسل اليدين والفم, وهو من إطلاق الجزء على الكلّ. والحكمة في الوضوء قبل الطعام: أوّلاً: أنّ الأكل بعد غسل اليدين يكون أهنأ وأمرأ, ولأنّ اليد لا تخلو عن التلوث في تعاطي الأعمال، فغسلها أقرب إلى النظافة والنَّزاهة. ثانياً: لأنّ الأكل يقصد به الاستعانة على العبادة فهو جدير بأن يجري مجرى الطهارة من الصلاة, فيبدأ بغسل اليدين، والمراد من الوضوء الثاني غسل اليدين والفم من الدسومات. قال صلى الله عليه وسلم: \" من بات وفي يده غمر (أي: الدسومة) ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومّنّ إلا نفسه \"، أخرجه الترمذيّ، قيل ومعنى بركة الطعام من الوضوء قبله النموّ والزيادة فيه نفسه، وبعده النمو والزيادة في فوائده وآثاره بأن يكون سبباً لسكون النفس وقرارها وسبباً للطاعات وتقوية للعبادات، وجعله نفس البركة للمبالغة, وإلاّ فالمراد أنها تنشأ عنه. (تحفة الأحوذي شرح الحديث السابق). 2- ثلاثيّة الطعام: من المكروهات الذوقيّة أن يتقدّم الإنسان إلى الطعام تقدم العير إلى الماء دون أن يهتمّ بهذه النعمة العظيمة فلا يسمّي الله سبحانه وتعالى, ولا يلتزم أدب الأكل باليمين, ومن الملاحظ أنّ بعض الناس يسكب لنفسه من الطعام من أي جهة دون الاهتمام بالسنة النبوية بالالتزام بالأكل من أمامه, وبالتالي يحرج الآخرين ويأخذ حصتهم لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الثلاثية الرائعة.فعن عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَجرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَت يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي:\" يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ, وَكُلْ بِيَمِينِكَ, وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ\". (متفق عليه). قال النوويّ:\" وفي هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن الأكل وهي: التسمية والأكل باليمين، والثالثة: الأكل ممّا يليه لأنّ أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة, فقد يتقذره صاحبه لا سيّما في الأمراق وشبهها، وهذا في الثريد والأمراق وشبهها، فإن كان تمراً أو أجناساً, فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه \". (النووي على مسلم). وقد ينسى الإنسان التسمية في بدء الطعام لسبب من الأسباب, فلا بدّ أن يقولها عندما يتذكر ولو كان هذا الاستذكار في آخر الطعام, فعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:\" إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَليَذْكُر اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِن نَسِيَ أَن يَذكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ \".(أبو داود 3275). 3- عدم الأكل من وسط الطعام أو من أعلاه: من المعلوم أنّ صاحب الطعام يزيّن طعامه ببعض المحسنّات, ويضعها في أعلى الطعام حتى يظهر جمال الطعام وحسن منظره, فإذا باشر أحد المدعويين الأكل من أعلى الطعام فإنّه بذلك يذهب وجه الطعام الذي هو أحسن ما في الطعام, فعَن ابنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:\" إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُم طَعَامًا فَلَا يَأكُلْ مِن أَعْلَى الصَّحْفَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّ البَرَكَةَ تَنْزِلُ مِن أَعلَاهَا \".(أبو داود 3280). \"قال الخطابيّ: وفيه وجه آخر وهو أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا أكل مع غيره، وذلك أن وجه الطعام هو أفضله وأطيبه، فإذا كان قَصَده بالأكل كان مستأثراً به على أصحابه. وفيه من ترك الأدب وسوء العشرة ما لا خفاء به، فأما إذا أكل وحده فلا بأس به \".(عون المعبود شرح سنن أبي داود). وعَن ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:\" البَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِن حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ\". (الترمذي1727). \" قوله: (إنّ البركة تنْزل وسط الطعام) بسكون السين ويفتح، والوسط أعدل المواضع فكان أحق بنُزول البركة فيه. (ولا تأكلوا من وسطه) فيه مشروعيّة الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه. قال الرافعي وغيره: يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة، وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه, وتعقّبه الإسنويّ بأن الشافعيّ نصّ على التحريم فإنّ لفظه في الأم: فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالماً. واستدلّ بالنهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشار إلى هذا الحديث. قال الغزالي: وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قلّ الخبز فليكسر الخبر، والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام\".(تحفة الأحوذي شرح الترمذي). 4 - النَّهي عَن التَّنفُّسِ فِي الإِنَاء: عَن أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :\" إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ\". (كتاب الأشربة باب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاء). قوله: (فلا يتنفس في الإناء) زاد ابن أبي شيبة النهي عن النفخ في الإناء، وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدّة أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء لأنّه: • ربما حصل له تغيّر من النفَس إمّا لكون المتنفِّس كان متغيّر الفم بمأكول مثلاً، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة. أو لأنّ النفس يصعد ببخار المعدة، والنفخ في هذه الأحوال كلّها أشدّ من التنفس. (فتح الباري كتاب الأشربة باب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاء). \"وهذا النهي للتأدّب لإرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء, فيكسبه رائحة كريهة, فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه\". (فتح الباري كتاب الوضوء باب الاستنجاء باليمين). 5 - عدم الأكل متكئاً: وفي هذا من صفات التكبر وعدم شكر النعمة, وهو من صفة المتعاظمين وأهل العجم، والنهي لم يأت صريحاً بذلك ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:\" لا آكُلُ مُتَّكِئًا \".(البخاري كتاب الاطعمة باب الأكل متكئا). واختلف العلماء في حكمه بين الكراهة وخلاف الأولى والجواز كما صرح به ابن حجر في الفتح. واختلف في علة الكراهة بين كونه فعل المتعاظمين, وكونه من فعل ملوك العجم, أو كونه يؤدّي إلى السمنة قال في الفتح:\" كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم \". صفة الاتكاء: قال في الفتح:\" واختلف في صفة الاتكاء فقيل: • أن يتمكّن في الجلوس للأكل على أيّ صفة كان، ويصبح معنى الحديث: إنّي لا أقعد متّكئاً على الوطاء عند الأكل فِعْل من يستكثر من الطعام، فإنّي لا آكل إلاَّ البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزاً. • وقيل أن يميل على أحد شقيه، وجزم به ابن الجوزي. • وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، وبه قال مالك. • وقيل لا يختصّ الاتكاء بصفة بعينها. (فتح الباري شرح البخاري بتصرف). 6- حفظ النعمة: من الأمور المهمّة في موضوع الطعام أن يحافظ الإنسان على النعمة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليه بكافّة الوسائل, فيبتعد عن البطر في طعامه وشرابه, ويتحين الفرصة ليبتعد عن المباهاة والمغالاة في الطعام, ويبتعد عن الإسراف في مأكله ومشربه, وقد وردت عدة أحاديث تنبّه المسلم على ضرورة المحافظة على الطعام وشكر هذه النعمة؛ فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : \" إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَليَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ \".(الترمذي1723). وعَن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ, وَقَالَ:\" إِذَا مَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَليُمِطْ عَنْهَا الأَذَى, وَلْيَأْكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ, وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلِتَ الصَّحْفَةَ, وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ\".(الترمذي 1725). قال ابن حجر:\" إنما أمر بذلك لئلاّ يتهاون بقليل الطعام، قال النوويّ: معنى قوله \"في أي طعامكم البركة\": أنّ الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أنّ تلك البركة فيما أكل, أو فيما بقي على أصابعه, أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة.(فتح الباري كتاب الأطعمة باب لعق الأصابع). استقذارٌ في غير موضعه: قال ابن حجر:\" وفي الحديث ردّ على من كره لعق الأصابع استقذاراً، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل لأنّه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه، قال الخطابيّ: عاب قوم أفسد عقلهم الترفّه فزعموا أنّ لعق الأصابع مستقبح، كأنّهم لم يعلموا أنّ الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذراً لم يكن الجزء اليسير منه مستقذراً، وليس في ذلك أكبر من مصّه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشكّ عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه, فيدلك أسنانه وباطن فمه ثمّ لم يقل أحد إن ذلك قذارة أو سوء أدب\". [فتح الباري كتاب الأطعمة باب لعق الأصابع] المرجع كتاب ذوقيات إسلامية للمؤلف عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي.