تفسير القرآن الكريم لم يتوقف عند مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، ولن يتوقف كذلك ما دام هناك عقل يتفكر، وقلب يتذكر . ومتابعة لما كنا قد بدأناه من الحديث عن التفسير والمفسرين، نواصل في مقالنا التالي الحديث عن التفسير والمفسرين بعد عصر التابعين، مقدِّمين لذلك بمقدمة عامة، نحيط من خلالها بالإطار العام لهذه المرحلة من مراحل التفسير والمفسرين . ويمكننا القول بداية - على ضوء ما تقدم في هذا الصدد - إن تفسير القرآن الكريم مر بمراحل بارزة، حاصل القول فيها كالآتي: كان تفسير القرآن في بداية الأمر مقصورًا على التناقل عن طريق الرواية فحسب، إذ كان الصحابة رضوان الله عليهم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيره لبعض الآيات والسور القرآنية...وكان التابعون كذلك يروون عن الصحابة ما كان عندهم من تفسير منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما اجتهدوا في تفسيره... وواضح من هذا أن التفسير في هذه المرحلة كان يقوم على المشافهة والرواية فحسب . ثم مع بدء مرحلة التدوين عمومًا - والتي يؤرَّخ لها عادة مع بداية النصف الثاني من القرن الهجري الثاني - والبدء بتدوين الحديث خصوصًا، بدأ التفسير يدوَّن ضمن كتب الحديث خاصة، إذ كان يُفرد له باب مستقل ضمن الأبواب التي تشتمل عليها المدونات الحديثة . ومع انتشار التدوين، واستقلال كثير من العلوم، أخذ تدوين التفسير يستقل شيئًا فشيئًا، فبرزت بعض التفاسير المدونة التي فسرت القرآن الكريم تفسيراً كاملاً، وبالسند فيما كان مسنداً. وليس من السهل في هذا السياق معرفة أول من دوَّن تفسير القرآن كاملاً مرتباً... وبعد مرحلة التدوين بالإسناد، جاءت مرحلة التدوين لكن مع اختصار الأسانيد، إذ اقتصر التدوين في التفسير على نقل الأقوال التفسيرية دون إسنادها إلى قائليها، الأمر الذي ترتب عليه ظهور ظاهرتي الوضع، والنقل عن الروايات الإسرائيلية، وربما كان لنا وقفة في مقال لاحق - حسب ما تيسر - على هاتين الظاهرتين . وبعد تدوين كثير من العلوم وانتشارها؛ كعلم الكلام، وعلوم العربية، وعلم الفلسفة، بدأ التفسير ينحو منحًا جديدًا، إذ دخل في مرحلة التفسير العقلي، التي بدأت بترجيح بعض الأقوال على بعض، اعتمادًا على اللغة العربية، والسياقات القرآنية، واتخذ هذا المنحا من التفسير أشكالاً مختلفة ما بين مقبول ومرفوض . ولا مطمع لتفصيل القول في ذلك في مقالنا هذا...لكن ما لابد من الإشارة إليه هنا أنه كان من ملامح هذه المرحلة تنوع التفاسير، وَفْقَ تنوع الاختصاصات العلمية؛ وهكذا وجدنا بعض التفاسير يغلب عليها الجانب اللغوي على غيره من الجوانب، وبعضها الآخر يغلب عليه الجانب الفلسفي، وقسم ثالث يطغي فيه الجانب الفقهي على ما سواه...وهكذا في باقي الاختصاصات . وعلى الرغم من كل هذا التطور والتغير، لا يمكن القول إن التفسير بالمأثور لم يعد له وجود، بل إن الصحيح والواقع أن هذا التوسع في التفسير العقلي - إن صح التعبير - لم يلغِ التفسير بالمأثور، بل أصبح كل منهما موازيًا للآخر ومكملاً له . وإضافة لما تقدم ذكره، كان من ملامح هذه المرحلة بدء الكتابة بعلوم القرآن كموضوعات مستقلة؛ كمجاز القرآن، ومفردات القرآن، والناسخ والمنسوخ في القرآن، وأسباب النـزول، وأحكام القرآن، وما أشبه ذلك من موضوعات قرآنية، فصَّلت كُتب علوم القرآن القول فيها . لكن يلاحظ أن سعة تلك الجهود التفسيرية دفعت من جاء بعدُ إلى العكوف على الاختصار أو التعليق أو التتبع لجهود السابقين، وانحسرت جهود التأليف والإبداع، وترافق ذلك مع ما سمِّي في التاريخ الإسلامي بمرحلة الانحطاط والتقليد والركون إلى جهود من سبق، وسادت مقولة: ليس بالإمكان أفضل مما كان !! وبدخول عصر النهضة الحديثة، وصعود ما أُطلق عليه ظاهرة "الصحوة الإسلامية" وما شهده هذا العصر من تطورات على الأصعدة كافة، بدأت تظهر العديد من الجهود الإبداعية في مجال تفسير القرآن الكريم؛ فكان من ملامح هذه المرحلة ظهور التفسير الموضوعي للقرآن، أي تفسير القرآن الكريم حساب موضوعات معينة، كموضوع الأخلاق، وموضوع العلم، ما أشبه ذلك . وكان من ملامح هذه المرحلة كذلك ظهور التفسير العلمي للقرآن الكريم . ولا ريب أن هذا التنوع والتعدد في الجهود المبذولة لتفسير القرآن الكريم أمر محمود ومشروع، ما دام مضبوطًا بضوابط الشرع وموجهاته؛ وهو في حد ذاته دليل على إعجاز هذا الكتاب، ودليل - من ثَمَّ - على خلوده وتجدد عطائه بتجدد الفكر الذي يتعامل معه ويتوجه إليه .