لمس الحَرِير في عِتابِ الصَغِير
إن الإهتمام بمشاعر الطفل الصغير، والانتباه إلى ما يؤثر في نفسيَّته، ومعاملته معاملةً كريمة فيها التقدير والإحترام لذات الصغير، أمر هام في التربية الإسلاميّة الراشدة، ولعل المعتاد عند الكثير من الآباء والأمهات هو إغفال شأن مشاعر الصغير؛ لصغره، فيرون أنه لا يدرك الأمور، لكنّ واقع الأمر أنّ الطفل الصغير شديد الحساسية، مرهف الشعور، إزاء الطريقة التى يُعامل بها من قِبَلْ الكبار، نعم..قد لا يستطيع الطفل التعبير عن إدراكه وشعوره، ولكن ذلك لا ينفى وجود الإدراك والشعور، ولأنّ الآباء والأمهات يلتقون مع مشاعر الطفل ليل نهار، إذ هم القائمون على تربيته، وعلى ترسيخ القيم الصحيحة لديه بالقدوة والتلقين والتشجيع على جعلها خلقاً له، كما أنهم مسئولون عن تقويم الأخطاء ونهيه عنها، حتى لا تصير سلوكاً لازماً له، فإن ذلك يتطلب قدراً من الحكمة وضبط النفس والوعى التربوي لدى الوالدين بعواقب ما يبدر منهم من عقوبات أو أساليب خشنة قد ينتهجونها لتصحيح أخطاء الأبناء، لطالما ألحقت بالأبناء خسائر نفسية تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لإصلاحها ولعل بعضها يستعصى على الإصلاح، مثل العقوبات البدنية القاسية والتوبيخ الشديد المستمر.
أعزائى.. إنّ التدرج في خطوات العقاب التربوي، ربما منحنا نتائج عظيمة، ..ومن درجاته الأولى السهلة والفعّالة في الوقت ذاته.."العتاب"..ذلك الأسلوب اللفظى الراقي في تصحيح أخطاء الصغار
والعتاب معناه: لومُ القريب والصديق في شيء بإشفاق ونصيحة ، والمخاطبة برفق توبيخاً أو نصحاً .
معنى ذلك أن العتاب لا يكون إلا مع الأحباب، وهل لدينا أغلى من أحبابنا الصغار ومن نربيهم؟
والنبى الكريم r كان أسلوبه في علاج أخطاء الصغار هو العتاب الرقيق والرفق
مع تصويب الخطا وتصحيح المفاهيم في الوقت نفسه.
بهذا الأسلوب رَدَّ r شغب الأطفال وجهْلَهُم :
عن رافع بن عمرو الغفارى رضى الله عنه قال: "كنت غلاماً أرمى نخل الأنصار، فَأُتِىَ بي رسول الله r، فقال لي:لم ترمى النخل؟قلت:لآكل، فقال:لا ترم النخل، وكُل ما سقط في أسفلها، ثم مسح رأسي وقال:اللهمّ أشبِع بطنه"-رواه أبو داوود والترمذى-.
كما روى ابن ماجة عن النعمان بن بشير t قال:أُُهدى للنبى r عنب من الطائف، فدعاني فقال:"خذ هذا العنقود فأبلغه أمك"فأكلْتُهُ قبل أن أبلّغه إياها، فلما كان بعد ليال قال لى:"ما فعل العنقود؟ هل أبلغته أمك؟ قلت: لا، فسماني غُدَرْ"
وعن عبد الله بن بسر المازني t قال:بعثتني أمي لرسول الله بقطف من عنب فأكلته، فقالت أمي لرسول الله r:هل اتاك عبد الله بقطف؟ قال:لا، فجعل رسول الله إذا رآنى قال:"غُدَرٌ غُدَرْ"- رواه الطبرانى:2/339-
وفى رواية أخرى قال عبد الله بن بسر:لما بعثتني أمي بقطف تناولت منه قبل أن أبلغه النبي r، فلما جئت به مسح رأسى وقال:أيا غُدَرْ!"
ولا يكون العتاب أبداً فيما عفا الله تعالى عنه:
كالنوم أو الخطأ الغير متعمد أو النسيان، قال r :"إنّ الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"قال أهل العلم :ينبغى أن يعدّ هذا الحديث نصف الإسلام، لأن الفعل نوعان الأول:عن قصد واختيار، والثاني:ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه، فهذا القسم معفو عنه باتفاق.-فتح الباري:5/161-، فالعفو عن الصغار الذين رفع عنهم القلم حتى يبلغوا من باب الأوْلى.
ولقد كان التسامح في هذه الأشياء أمراً مستقراً في الحسّ التربوي لدى سلفنا الصالح أيضاً، يروى عن الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال:كنت يوماً عند المعتضد، وخادمٌ واقف على رأسه يذبّ عنه بمذبةٍ في يده، إذ حرّكها فجاءت في قلنسوة (عمامة)الخليفة، فسقطت عن رأسه، فأعظمت أنا ذلك جداً، وخفت من هول ما وقع، وظننت أن المعتضد سيفعل به ويفعل، ولكن الخليفة لم يكترث لذلك، بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه، ثم قال لبعض الخدم:مُرْ هذا البائس(أى الذى يبعد الذباب عن الخليفة)ليذهب لراحته فإنه قد نعس، وزيدوا في عدد من يذبّ بالنوبة، قال الوزير:فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه، فقال:إنّ هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس، وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد، لا على المخطئ ولا الساهى"-البداية والنهاية ج1، ص91-
والعتاب منهج تربوى طويل المدى أكيد المفعول:
بمعنى أنّ المربى يمكنه أن يصطحب هذا الأسلوب طوال سنوات التربية ومراحلها المختلفة، فيكون العتاب هو الأصل في أسلوبنا مع الصغار، -وليس الضرب أو الشتائم هى الأصل الغالب مثلا- على أن يكون توجيه كلمات العتاب بميزان أي في الوقت والموقف المناسب، وليس عند كل كبيرة وصغيرة.
فكثرة العتاب والملامة قد تجرّ إلى الندامة، ولقد كان نبينا r أبعد الناس عن ذلك، يتضح ذلك إذا تتبعنا المواقف التى حدثت مع الأطفال الذين باشر تربيتهم بنفسهr، يظهر ذلك-مثلاً- في شخصية الصحابي الجليل انس بن مالكt ، نستمع إليه وهو يصف التربية العالية التى تلقاها من النبي r فيقول:"خدمت النبي r عشر سنين، والله ما قال لى "أف"، ولا:"لم صنعت؟"ولا"ألا صنعت"_رواه البخاري، كتاب الأدب_، وفى رواية:"فما أمرنى بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني، فإن لامني أحد من أهل بيته قال:"دعوه فلو قدّر أو قضى ان يكون كان".
وهوr بهذا المسلك إنما يغرس في نفس الطفل روح الحياء، وينمى فيه فضيلة الإنتباه والملاحظة.
وقد يقول قائل:ونحن لو فعلنا ذلك الآن فإنّ الولد سيتجرأ ولن نستطيع أن نسيطر عليه أو نربيه!!
ونقول لهم:فلِمَ لَمْ يتجرأ أنس، وابن عبّاس، وزيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد، وأبناء جعفر وأبناء العباس، وغيرهم ممن تربوا على يده r وصاروا أعلاماً في الناس وأئمة للهدى؟لماذا لم يتجرا هؤلاء أو بعضهم؟
إنّ الذى لا يعجبه الأسلوب النبوى المتكامل والمتوازن تماماً، والذي يقوم على الرفق بالصغار واحترام ذواتهم مع الحزم التام أمام المخالفات الشرعية وعدم التهاون في تلبس الصغار بها أو وجودها في منازلهم، لو كان مربيا لابن عباس أو لأسامة لفشل في تربيتهم وغيّر توجهاتهم.
فإن قال:لا..لا معاذ الله أسلوب النبي r هو الأحسن، لكنّ الشباب تغيّر، وصارت تربية الأبناء وتقويمهم من أصعب وأثقل المسؤوليات، ونحن لسنا مثل النبي r!
نقول لهم:إنّ ذلك أدعى للتمسك بسنته وطريقته r في التربية، وإلا فليس أمامنا أن نواصل قطف الثمار المرّة للتربية العنيفة القاسية أو المتساهلة التى لا تعبأ بالضوابط وكلاهما مشؤوم العواقب كما نعلم جميعاً.
ومن الضرورى أن نلفت الانتباه إلى أن النبي r لم يكن يتعامل بهذا الأسلوب مع ملائكة، وإنما تعامل به مع غرائب الشباب، مثل الشاب الذي جاء يستأذن في الزنا، وتعامل مع الصبية المشاغبين الذين كانوا يرمون نخل الأنصار ليأكلوا البلح، وكذلك مع الغلام اليهودى لآخر لحظه من حياته يدعوه r للإسلام، وتعامل به مع الكثير من الصغار في أطوار التربية المختلفة، فشبُّوا عظماء يضيئُون تاريخ أمتنا إلى يوم القيامة.
إنّ شرط تحقيق الإنتفاع بهذا الأسلوب، هو التوازن فيه، بمعنى أن نلتزم منذ البداية بعدم ترك ثغرات أو فعل مخالفات، أو السكوت على محظورات، فإذا أردنا أن نعالج عندئذٍ وجدنا أن الوقت قد فات.
ورحم الله الإمام الغزالى حيث يوضح للآباء والمربين ضابط أسلوب العتاب فيقول:
"ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين؛فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقْعَ الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه؛فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب، وتزجره عن القبائح"
أعزائى..لنبدأ من اليوم عهداً جديداً واسلوباً راقياً في عتاب الأحباب الصغار وتقويمهم باللمسات الحانية والكلمات الواعية التى تصلح أخطائهم من غير أن تجرح الحرير الناعم....!