بَنِي الإِسْلاَمِ هَذَا خَيْرُ ضَيْفٍ * إِذَا غَشِيَ الكَرِيمُ ذُرَا الكِرَامِ يَلَمُّكُمُ عَلَى خَيْرِ السَّجَايَا * وَيَجْمَعُكُمْ عَلَى الهِمَمِ العِظَامِ فَشُدُّوا فِيهِ أَيْدِيَكُمْ بِعَزْمٍ * كَمَا شَدَّ الكَمِيُّ عَلَى الحُسَامِ
8) مقوِّم (الانتصار) فالنَّفْس المؤمنة تشعُر أنها انتصرتْ على أهوائها ورغباتها، حينما تنتهي مِن صيام هذا الشهر بكاملِه، وتُصلِّي مع المسلمين صلاةَ التراويح، وتتصدَّق بصدقة الفِطر، وإنْ كان عليها زكاةٌ رغبت أن تزكِّي في هذا الشهر لما فيه مِن حسنات كثيرة وأُجور غزيرة، وتكون فرْحَتها كذلك يومَ العيد؛ لكي تحتفل به بعدَ نجاحها في اختبار الثلاثين يومًا. • جوانب تحتاج لتغيير رمضاني في واقعنا المعاصر: هنالك جوانب تحتاج إلى إحداثِ تغيير في شهر رمضان المبارَك للوصول إلى حالةٍ خلاَّقة مِن الازدياد الإيماني، والارْتقاء النَّفْسي، والإصلاح الفِكري، والإقلاع الحضاري. وتكمُن هذه الجوانب المهمَّة في مجال التغيير والثورة على الواقِع البئيس فيما يلي ذِكره: الجانب الأول: التغيير الفِكري، فالأفكار الخاطئة قد تنْمو بجانب الأفكار الصحيحة؛ كالحشائش الضارَّة حينما تنمو بجانبِ النباتات النافِعة، لكنَّ معول المزارع الذي يقوم بتهذيبها وإزالتها يجْعَل هذه الحشائشَ الضارَّة قاعًا صفصفًا، وكذا يجب أن يكونَ الحال في الأفكار الخاطئة، فإنَّها بحاجة لقلْع وإزالة، ولا بدَّ مِن سبيل للتغيير الفِكري في الجانب العقائدي، وهو الأهمُّ لإصلاح الفِكر مِن الضلالات الفكريَّة التي تحتوِشه، واستبدالها بعقيدةٍ صحيحة وقِيَم نافعة. وإنَّ مِن مجالات الإصلاح الفِكري التي تحتاج عنايةً مِن أهل الفكر والتربية الدينيَّة: التأثُّر بالأفكار الغربيَّة، ودفْع الكثير مِن الضلالات الفِكريَّة الناشئة في بلادِ المسلمين، والغزو الثقافي، وتحصين الأفكار الصحيحة ودفْع الأفكار الرديَّة، والتعصُّب الفِكري لحِزب من الأحزاب، وإنصاف الآخرين، والتمسُّك بالعادات والتقاليد. الجانب الثاني: التغيير النَّفْسي فالنَّفْس والرُّوح حينما تبتَعِد عن خالقها، وتستروح لما فسدَتْ حقيقتُه، وخبُث طبعه، بمجالسة النفسيات المريضة، والأرواح الخبيثة، وتُدلي بصَدرِها للوساوس الإبليسيَّة، فإنَّها حتمًا ستنطبع بطبائعها، وتستهلك مِن سريان تصوراتها النواحي السلبيَّة السيِّئة، فالطبع سرَّاق والصاحِب ساحِب والسليقة لا تُغتصَب، بل تُكتسَب. إنَّ صفاء الرُّوح في شهر رمضان يتأكَّد لقلَّة المطعومات والمأكولات، والبُعد عنها، أغلب ساعات اليوم، وبهذا يشعُر المرء بنوعٍ مِن الصفاء الإيماني، الذي ينعكس على أصحابه بنوعٍ مِن التدبُّر والتأمُّل في كتاب الله تعالى وآيات الكون، والشُّعور بمعاناة الآخرين مِن الفقراء، ومعرفة حقوقهم وعدم نِسيانهم من الصَّدَقات، أمَّا من أعرض عنِ الصوم وبقِي على حالته - كما هو حال كثيرٍ مِن الحمقى والمعرِضين عن عبادة ربهم - فلن يشعُروا بما نتحدَّث عنه مطلقًا. كَيْفَ تَصْفُو رُوحُ امْرِئٍ * نَفْسُهُ لِلطُّعْمِ وَلْهَى؟! وإنَّ مِن مجالات الإصلاح النَّفْسي التي يجدر بخبراء النَّفْس والإيمان الاهتمام بها: ربْط النفس بالإيمان بالخالِق، وإظْهار معاني الإعْجاز العِلمي والقُرآني في طبيعةِ النَّفْس البشريَّة، خصوصًا والحيوانيَّة عمومًا، ومحاربة الأمراض النفسيَّة التي تأتي بسببِ الانصياع لأحاديثِ النَّفْس، أو وساوس إبليس، أو ضعْف النفسيَّة، فيعالجها أهلُ الإيمان، والصِّيام كما قيل: مِن أهم أسباب دفْع الهمِّ والغم، والحزن والاكتئاب. الجانب الثالث: التغيير القَلْبي، فالقلوبُ حينما تكون قفلاً مغلقًا عن سماعِ آيات الذِّكر الحكيم، وألحان الإيمان بالله تعالى، وتتنكَّر لفطرية الوجدان، ستنقلب على رأسها كالكوز مجخيًا؛ لا تعرف معروفًا ولا تُنكِر منكرًا إلا ما أُشرِب مِن هواها. لهذا نجد صلاحَ الجسد بصلاحِ مُضغة فيه، وهي القلب، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلحتْ صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدتْ فسَد الجسدُ كله ألاَ وهي القلْب))، بل جعَل الله تعالى في يومِ القيامة لا ينفع العبد ماله ولا بنوه إلا حينما يكون قلبه سليمًا، حيث قال - عزَّ مِن قائل حكيم -: ﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88 - 89]. ومِن جوانب إصلاح القلوب: تهذيبها وإزالة ما علَق بها مِن حقْد وحسَد، وغيظ وسوء ظنٍّ، والقصد لعمل الشر، ومحبَّة إيذاء الآخرين والإضرار بهم والولاء لغيرِ الله ومناصَرة الكفَّار على المسلمين. الجانب الرابع: التغيير السُّلوكي والتطبيقي، فإن صلحتِ الأفكار والقلوب والنفوس، فإنَّ هذا سينعكس على أعمالِ الجوارح، وسيُشرِق السلوك والتطبيق جرَّاءَ تلك الإشعاعات الصحيحة، فإذا بالأعمال مضيئة بروْنقِها وبهائها وسعيها الدؤوب. • شُروط لا بدَّ مِن توافُرها في الفرْد المسلِم قبل قيامه بانتفاضته الرَّمضانيَّة: حينما يُريد الصائمُ أن يكونَ هذا الشهر بالنسبة إليه نُقطةَ تحوُّل، وانعطافة تاريخيَّة؛ فإنَّ لذلك عدَّةَ شروط: 1) عليه أن يشعُرَ بالمسؤولية التي سيُسأل عنها يومَ القيامة، ويعلم أنَّ الله تعالى سيسأله عن طبيعةِ عملِه، فالله تعالى يقول: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، ويقول: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 92]. 2) أن يجعلَ تغييره وثورته في شهر رمضان على كلِّ فساد لديه، وأن يقصِد بهذا التغيير وجهَ الله - سبحانه وتعالى - فيخلص النيَّة له - عزَّ وجلَّ - لكي يُخلَّص من نارِ جهنم. 3) اليقين بالأجْر الذي ينتظره إنْ كان عملُه خالصًا لوجهِ الله ومتابعًا فيه لسنَّة رسولِ الله، فالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنْبه، ومَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تَقدَّم من ذنْبه، ومَن قام ليلة القَدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تَقدَّم مِن ذنْبه))؛ أخرجه مسلم. وكذلك ما جاء عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجَنَّة بابًا يُقال له: الريَّان يدخُل منه الصائِمون يومَ القيامة، لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخَلوا أُغلق فلم يدخُل منه أحدٌ))؛ أخرجه البخاري. 4) إرادة التغيير، فشهرُ رَمضان شهر تقويةِ الإرادة والإصرار على العزيمة، وكما يقول عُلماء الهندسَة النفسيَّة: إنَّ الإبداع هو الخُروج عن المألوف؛ لتبديدِ الرُّوتين وكسْر النِّظام الرتيب وتحديث التجديد، فالخروج عنِ العمل المألوف سببٌ مهم للتغلُّب على القَلق وضغوط الحياة. 5) القناعة بأهميَّة هذا العمل الذي يُريد القيامَ به، فمَن أراد القيام بأيِّ عمل نهضوي وإصلاح تغييري، فلا بدَّ أن يكون مقتنعًا به لمزيدٍ مِن النشاط والجدية، والهمَّة والعمل الدؤوب، أمَّا مَن أراد التغييرَ والثورة الشاملة على كبرياء النفْس وانحرافها عن الصواب، لكنَّ قناعاته ليستْ بذاك، فسرعان ما تخْبُو شرارةُ حيويته، وتكون في زوال. 6) الهمَّة العالية؛ فالأرواح في الأشْباح كالأطيار في الأبراج، "وليس ما أعدَّ للاستفراح كمَن هُيِّئ للسِّباق" - كما يقول ابن القيِّم. • خطوات متَّبعة تضمن نجاح هذه الثورة الإيمانية في رمضان: إنَّ مَن يُريد القيام بمِثل هذه الثورة الإيمانيَّة والانتفاضة الرُّوحية والتغيير المتكامِل، فلا بدَّ له مِن التهيئة النفسيَّة، ومَن لم يقُم بذلك فإنَّه سيُحرَم مِن النَّجاح المبهِر الذي يتغيَّاه ويقصِده مِن خلال القيام بشرائِع هذه الشعيرة الرَّمضانيَّة المباركة. كما أنَّ عليه أن يرصدَ مِن نفْسه على نفْسه رقيبًا؛ لكي لا تنزلق النَّفْس بعدَ ثبوتها، ولا تنفصِم العُرَى بعد إحْكامها، ولا تنفصل الوشائجُ بعد شدِّ وثاقها. إنَّه بحاجةٍ كذلك إلى محاسَبة النفْس فيما قصَّرت فيه مِن طاعة، وجاوزت فيه مِن معصية، وفرَّطت فيه في مُباح أوْقَعها لمكروه، ومَن حاسب نفْسَه بعدَ مراقبته إيَّاها، فعليه أن يعترِفَ بالخطأ الذي وقَع فيه، ويَستفيد منه لكي لا يتكرَّر مرَّةً أخرى، حتَّى تنجَح خطَّة التغيير وانطلاق مسيرة الانتفاضة التي يُريد نجاحَها وفلاح نفْسه بها. كما يَنبغي عليه ألاَّ ينسى أهميَّة التعلُّم وطلَب العِلم لكلِّ ما يُريد فعله في هذا الشهر المبارَك وما بعدَه مِن الشهور، فالله تعالى يقول: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، فقد رُوي أنَّ عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - كان يقول: "مَن عمِل بغير عِلم كان ما يُفسِد أكثرَ ممَّا يُصلِح". ولا ينسَ العبد أولاً وأخيرًا جانبَ الدعاء لربِّه؛ فالله - عزَّ وجلَّ - يقول في آيات الصيام: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، ورضِي الله عن قتادة إذ يقول: "ابنَ آدم، إنْ كنت لا تُريد أن تأتي الخير إلا بنشاط، فإنَّ نفسَك إلى السآمة وإلى الفترة وإلى الملَل أميلُ، ولكنَّ المؤمِن هو المتحامِل والمؤمِن المتقوِّي، وإنَّ المؤمنين هم العجَّاجون إلى الله بالليل والنَّهار، وما زال المؤمِنون يقولون: ربَّنا رَبَّنا في السرِّ والعلانية حتى استجاب لهم"؛ حلية الأولياء (2/ 336) وبالله التوفيق.