الثورات العربية والبديل الاقتصادي

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : الجزيرة | المصدر : www.aljazeera.net

 

الذين صنعوا الثورة وقادوها إلى الانتصار لم ينتقلوا إلى تسلم السلطة بخلاف غالبية تجارب الثورات الأخرى (الجزيرة)

لن تحاول هذه المقالة أن تقيس الثورات الشبابية الشعبية التي انتصرت في مصر وتونس، وهي في طريقها إلى انتصارٍ قريب في قطر عربي ثالث أو أكثر، بتجارب ثورات أخرى عربية أو عالمية أو بالقوالب التي اتخذتها.

فالفرادة التي اتسّمت بها هذه الثورات أصبحت مسّلمة من قبل كل من تعرضوا لها، بمن فيهم من حاولوا إدخالها في قوالب عرفتها ثورات أخرى. ولكن ثمة اتجاها عاما يسعى إلى احتوائها بثورة مضادة.

الثورات العربية: الاقتصاد والنظام القديم
الثورات العربية واستقالة العقل
التجارب السابقة والطرق الجديدة

الثورات العربية: الاقتصاد والنظام القديم

لعل من أبرز الفرادة، إلى جانب الأشكال التي اتخذتها في مراحلها الأولى، كوْن الذين تسلموا السلطة الانتقالية بعد انتصار الثورة ليسوا قادة تلك الثورات. أو بعبارة أخرى كون الذين صنعوا الثورة وقادوها إلى الانتصار لم ينتقلوا إلى تسلم السلطة بخلاف غالبية تجارب الثورات الأخرى.

على أن الفرادة المصاحبة للسمة الأخيرة هي أن تلك الثورات استمرت عاملة في الشارع، ومن خلال الأساليب السابقة نفسها. وذلك بعد انتصار الثورة وانتقال السلطة إلى أيدٍ تدّعي أنها مع الثورة، أو مع سقوط النظام السابق. هذه السمة يمكن تسميتها باستمرارية الثورة، أو الثورة الدائمة. فالثوار قرروا أن يستمروا باللجوء إلى الشارع لتصحيح كل اعوجاج، أو انحراف عن الأهداف التي قامت الثورات من أجل تحقيقها.

وبهذا أصبحت لدينا معادلة كالآتي:

لم يُصِب تغيير النظام إلاّ بعض رموزه فيما استمرّ الجيش على حاله، وكذلك أغلب أجهزة الدولة ومؤسساتها.
أصحاب القرار في السلطة الجديدة ليسوا من صانعي الثورة الحريصين على أهدافها، وإن نأوْا بأنفسهم عن النظام السابق، وأنكروا أن تكون لديهم نيّة إعادة إنتاج النظام السابق، لاسيما في وجهيْه المتمثليْن بالاستبداد والفساد. ولكن في المقابل، فإن تحديد ما يريدون أن يصلوا إليه، عدا اعترافهم بأنهم يمثلون مرحلة انتقالية إلى نظام ديمقراطي، فأمر متروك لمدى استمرار الحالة الانتقالية، وما يمكن أن تؤسّسه، كما هو متوقف أيضا على مدى نجاح الثوار في تحريك الشارع وإعادة إنتاج الثورة كلما قرع ناقوس الخطر.
السلطة في المرحلة الانتقالية لا يقتصر عملها على تهيئة الانتقال إلى نظام ديمقراطي: وضع الدستور وإجراء الانتخابات أو إجراء انتخابات ثم وضع دستور، وإنما راحت تنشغل بمعالجة الوضع الاقتصادي الداخلي الذي راح يتدهور، كما راحت تتعاطى بالشأن السياسي، ولو بحذر، مع القوى الخارجية ولاسيما أميركا، ومع القيادات العربية وخصوصاً السعودية.

وخلاصة، بدأ يتبلور اتجاه يريد أن يحصر أهداف الثورة بالأشكال الديمقراطية وليس بالمحتويات السياسية والاقتصادية. ويمثل هذا الاتجاه في السلطة الجديدة من يريدون الاستمرار في تبني الخطوط الأساسية للنظام الاقتصادي السابق، وذلك بحجة البحث عن الاستثمارات العربية والدعم الاقتصادي الخارجي والإعفاء من الديون أو تسهيلها، لحلّ مشاكل البطالة وما أصاب الاقتصاد من خسائر وهروب رؤوس أموال.

هذا الاتجاه هو الخط الواضح الذي يتبناه أهل النظام السابق كما تتبناه دول مجلس التعاون الخليجي ودول الغرب. وتكريس هذا الاتجاه سيؤدي إلى إعادة إنتاج النظام السابق، مع محاربة مؤقتة للفساد، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج السياسات الخارجية السابقة لأن الخط الاقتصادي هنا يحمل بالضرورة، والحتم، الشروط السياسية للمستثمرين والمانحين أو العافين عن الديون أو المسّهلين لها.

وفي المقابل، لم يتبلور، وحتى لم يطرح للنقاش، اتجاه يركّز على السياسة من جهة، ولم يطرح مشروع اقتصادي جديد لمواجهة الإشكال الاقتصادي من جهة أخرى.

وتمثل هذا الاتجاه قوى في الجبهة التي صنعت الثورة أو في المعارضة التقليدية التي انضمت إلى الثورة، ممن راحوا يركزون على الأشكال الديمقراطية دون التطرق إلى المحتويات السياسية التي ستحملها. فالدستور على أهميته، وكذلك الأنظمة الانتخابية ومدّة الفترة الانتقالية. وما دار ويدور حول الاجتهادات في هذه المسائل أبْعَدَ، عملياً، البحث في السياسات الخارجية والاقتصادية. ولهذا سلبيته فضلاً عن خطره بالنسبة إلى مستقبل الثورات وما ستؤول إليه.

لا شك في أن المعارضة التقليدية حين تنخرط في الصراع حول تلك الأشكال ليست بغافلة عن البعد السياسي الخارجي، عموماً. لأن جزءاً أساسياً من صراعها ضدّ النظام السابق شمل السياسات الخارجية ونقدها نقداً مراً. ولكن في ما يتعلق بالنظام الاقتصادي فالنقد غلب عليه، كما هو الحال مع نقد شباب الثورات للنظام، التركيز على الفساد. ومن ثم طالبوا بعد انتصار الثورة بمحاسبة الفاسدين وسوْقهم إلى القضاء. فحسني مبارك يحاكم على الفساد والأمر بالقتل وليس على خياراته السياسية ونهجه الاقتصادي.

والسؤال المركزي يتعلق بمعالجة المشكل الاقتصادي بعد نجاح الثورة، ولاسيما من ناحية النظام الليبرالي الاقتصادي العولمي، وكذلك الاستثمارات والمساعدات والديون، حيث أن إعادة إنتاج المشروع الاقتصادي السابق سيعيد، ولو بعد حين، قرينه المتمثل في الفساد الذي لا مفرّ منه.

المسؤولية في عدم وجود مشروع نظام اقتصادي بديل لا تقع على عاتق الثوار الجدد ولا تقع كلياً على عاتق المعارضة المحلية فحسب، وإنما تقع مسؤوليتها الأولى على الفكر النظري الوطني والقومي والإسلامي واليساري، وذلك على المستويَيْن العربي والعالمي.

الثورات العربية واستقالة العقل
عندما انهار النظام الاشتراكي في الإتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو، وعندما ذهبت الصين وفيتنام إلى مشروع اقتصادي بديل مرتبط بنظام العولمة من دون إحداث تغيير أساسي في النظام السياسي، انتهى كل حديث من قِبَل منظري اليسار عن نظام اقتصادي بديل للنظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي العولمي وما يتبعه من أنظمة اقتصادية ليبرالية في بلدان العالم الثالث. وإذا بقي هنالك من نقد فقد اقتصر على نقد العولمة والليبرالية الاقتصادية التابعة للعولمة في العالم الثالث، ولكن من دون التقدُم باقتراح مشروع اقتصادي بديل على المستويين العالمي والوطني المحلي.

وعندما ضربت الأزمة المالية نظام العولمة لاسيما في العام 2008، وما أدّت إليه من انهيار مجموعة كبيرة من الشركات العملاقة والبنوك الكبرى في الولايات المتحدة، وعندما انهارت أنظمة ليبرالية اقتصادية في أميركا اللاتينية، بوقت مبكر في أوائل القرن الواحد والعشرين، وراحت الأزمة تضرب في أوروبا، لاسيما في اليونان وأيرلندا والبرتغال، وراحت تتهدّد حتى إسبانيا، وعندما انهار النظام السياسي-الاقتصادي للنظامين التونسي والمصري وكانا قد اعتُبرا نموذجين للتنمية وفقاً لأجندات العولمة، أي عندما حدث كل ذلك لم يتعامل المنظرون مع النظام الرأسمالي العولمي بشقيْه في بلدان الغرب وفي بلدان العالم الثالث كما تعاملوا مع النظام الاشتراكي، وذلك بالرغم من أن الانهيار في الأخير حدث في الدولة وليس في النظام الاقتصادي فيما حدث الانهيار في الغرب في النظام الاقتصادي، أما الدولة فهي التي أبقته على قيد الحياة، أو أعادته للحياة لأسباب لها علاقة بقوتها السياسية والعسكرية والمالية وهيمنتها العالمية.

ولكن هذا الجانب الأخير لا يغيّر من الحقيقة شيئاً باعتبار أننا نتعامل مع نظام اقتصادي قد سقط أرضاً، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة وأُعيدَ إلى الحياة بقوّة الدول المهيمنة على النظام العالمي، وليس من خلال آلياته وقوته الذاتية.

هذا على مستوى أوروبا وأميركا واليابان، ولكن ماذا على مستوى البلدان العربية حيث سقط النظامان السياسي والاقتصادي (والأمني) في آن واحد في تونس ومصر وما يتبعهما. وكان السقوط عن طريق ثورات شعبية تطمح إلى أن تأتي بالبديل السياسي والاقتصادي بالضرورة وبالتعريف من حيث كونها ثورة.

من ناحية البديل السياسي، فثمة أكثر من بديل واحتمال، إذ منذ البدء لم يكن من الممكن تكرار السياسات الخارجية والداخلية للرؤساء والأنظمة المنهارة. ومن ثم بقي أكثر من خيار في ما سينجم من إستراتيجية جديدة. وهو ما عبّرت عنه السياسة المصرية في المرحلة الانتقالية حتى الآن. بمعنى استحالة تكرار سياسات مبارك إزاء حصار قطاع غزة والتعامل مع الداخل الفلسطيني وحتى مع مشروع التسوية (وإن كان التغيير هنا ضعيفاً جداً ولكنه مؤثر في مجريات الصراع). وكذلك عدم تكرار سياسات مبارك إزاء السودان أو إزاء التعامل مع منابع النيل أو بالنسبة إلى دور مصر العربي والإفريقي والعالم ثالثي.

طبعاً هذا ما زال في بداياته وأمامه أكثر من خيار واحتمال.

على أن مشروع النظام الاقتصادي الداخلي هو الذي يحتاج إلى نقاش معمّق وجدّي ليس على المستوى المصري والتونسي فحسب وإنما أيضاً على المستوى العربي والإسلامي والعالمي. والأهم على مستوى الحراك الشعبي ما بعد انتصار الثورة.

إذا كانت الأزمة المالية الأخيرة التي أسقطت أرضا الرأسمالية العالمية كنظام اقتصادي، وإذا كانت الثورتان في تونس ومصر أسقطتا نظاميْ حسني مبارك وزين العابدين السياسي والاقتصادي في آن واحد، فما هو البديل بالنسبة إلى مشروع النظام الاقتصادي الذي جعل الشاب بوعزيزي يحرق نفسه على سبيل المثال.

التجارب السابقة والطرق الجديدة

بالتأكيد ثمة حاجة إلى نظام اقتصادي يمثل بديلاً ثانياً للنظامين الاشتراكي والرأسمالي الليبرالي العولمي، بل يمثل بديلاً للثاني إذ خرج الأول من التداول وإن كان الدافع لهذا المصير يعود للسبب السياسي والدولة الشمولية وليس لكونه نظاما اقتصاديا، مما يستبقي بالضرورة، ما يمكن أن يفاد منه.

كيف يمكن للثورات التي قدّمت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية على ما عداها من شعارات ألاّ تدرك أن النظام الرأسمالي الليبرالي العولمي مناقض لحرية الفقراء والعاطلين عن العمل وكرامتهم، ناهيك عن تناقضه الصارخ مع العدالة الاجتماعية.
من هنا لا بدّ من إجراء نقد عميق وعلمي للنظام الرأسمالي الإمبريالي العولمي على المستوى العالمي كما على مستوى امتداده العالم ثالثي ولاسيما كما تجلى ذلك الامتداد في تونس ومصر وعربياً.

لا بد من التفكّر الجاد بمشروع البديل الثالث للنظام الاقتصادي إذا ما أُريدَ للثورات أن تكون أمينة على شعارات الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعية. فهنالك التجربة ودروسها، وهنالك نظريات الإسلام في الاقتصاد، وثمة التجرؤ على ابتداع الجديد.
___________________
كاتب سياسي


المصدر: مركز الجزيرة للدراسات