حول أزمة المجاعة في الصومال

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : الجزيرة | المصدر : www.aljazeera.net

 

في هذه الأيام يتداعى العالم لمواجهة أزمة المجاعة التي تعصف بالصومال، وتدق المنظمات الدولية ناقوس الخطر لتفادي كارثة هي السوأى من نوعها منذ عقود، حتى وصل الأمر إلى إعلان الأمم المتحدة رسميا المجاعة في بعض مناطق الجنوب الصومالي.

 

 

لكن ما يغيب عن الكثيرين هو أن هذه المعضلة على هولها، ليست إلا فصلا جديدا من سلسلة مآس واجهها الصومال وتجاهلها العالم.

 

كارثة ولكن
لا جدال في أن ما يجري اليوم في الصومال كارثة حقيقية يتفطر لها قلب كل إنسان، إذ أصبح ثلث أطفال الصومال مهددا بالموت جوعا، كما أكدت قصص الأمهات اللاتي تركن بعض فلذات أكبادهن في الطريق لينقذن آخرين من موت محتم في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة.

 

لكن الواقع أن هذه المأساة ليست إلا نتيجة لمقدمات طالما أصم العالم عنها آذانه. وذاك أن البلد عاش حالة استثنائية في عقدين كاملين، دون سلطة فعلية على الأرض، تتقاسمه جماعات متناحرة لم تحرز نجاحا في أي من ميادين الحياة سوى افتعال الحروب وتهجير الناس.

في السنوات القليلة الماضية تعرض الصومال لموجات جفاف قاس نتيجة عدم هطول الأمطار الموسمية، مما أدى إلى نفوق معظم المواشي بالإضافة إلى نضوب المحاصيل الزراعية، كما أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا والوضع الأمني المضطرب زادا من تأثير الجفاف.

 

وهذه الكارثة لم تحل بالصومال فقط بل عمت القرن الأفريقي، لكن حالة الفوضى التي يعيشها الصومال وفقدان المؤسسات التي من شأنها مواجهة مثل هذه المآسي ضاعفت من وطأة المأساة وحولتها من مجرد جفاف تمكن مواجهته ببعض الإجراءات لتقليل آثاره على حياة المواطنين إلى كارثة تهدد حياة الملايين.

 

اللافت للنظر أن المنطقة المنكوبة التي أعلنت الأمم المتحدة المجاعة فيها تعد من أغنى المناطق الصومالية وأخصبها، حيث يمكن القول إنها تشكل سلة غذاء الصومال كله، ويعتمد أهلها على الزراعة.

 

إن الصومال لا يواجه أزمة مجاعة فحسب بل أزمة وجود بعد عقدين من الشلل، حيث الأمراض تفتك بالناس بالجملة وحيث تبتلع البحار مئات كل أسبوع، وتضيق مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة بالباحثين عن لقمة العيش.

 

مقاربات خاطئة
منذ ظهر للعيان حجم المجاعة في الصومال لا تزال المنظمات والدول تعلن عن جمع الملايين من الدولارات لصالح الدول المنكوبة، غير أن تعاطي المنظمات الدولية ومن ورائهم الدول النافذة مع أزمة الصومال لا يزال يتسم بالكثير من الغموض بسبب تضارب المصالح.

 

إن اختزال مشكلة الصومال في المساعدات الطارئة -على أهميتها- يشكل خطأ فادحا بحد ذاته، إذ البلد ليس بحاجة إلى رمي أكياس من المواد الغذائية للمتضورين من الجوع فحسب، بل يحتاج إلى مقاربة شاملة للمشكل الصومالي بكل أشكاله السياسية والاقتصادية، لمعالجة جذور المشكلة ووضع حد لحالة الفوضى.

 

لقد تعرض الصومال لكارثة مجاعة في العام 1974 ورغم تواضع الإمكانات لدى الحكومة العسكرية الصومالية في حينها فإن التاريخ يشهد لحكومة محمد سياد بري بسيطرتها على الأزمة، إذ تمكنت من إجلاء مئات الآلاف من المناطق التي ضربها القحط إلى المناطق الجنوبية وإغاثتهم.

 

ويعد هذا العمل أحد المنجزات التي يحسبها لحكومة بري أعداؤها قبل أصدقائها.

 

ما أريد قوله من خلال استدعاء هذا الحدث التاريخي هو أن المساعدات الطارئة ليست حلا لهذه المعضلة، بل المطلوب هو تمكين الصومال من الوقوف على قدميه لكي يتمكن من إدارة شؤونه بنفسه بدل انتظار صدقات الآخرين.

 

لكن السؤال هل يرغب الممسكون بزمام الأمر في الصومال حقا في إخراج البلاد من مأزقها الحالي؟ كل الشواهد تقول عكس ذلك، فقد أصبحت أزمة الصومال بالنسبة للعديد من الأطراف الإقليمية والدولية (منظمات إغاثة) بمثابة ناقة حلوب يجنون من ورائها الملايين، مما يجعلهم يقفون في وجه كل محاولة رامية إلى تغيير الوضع القائم المتمثل بكيانات هزيلة لا تملك من أمرها شيئا.

 

المتابعون للشأن الصومالي اليوم يتفقون على أن القرار الصومالي لم يعد بأيدي أصحابه وأن أوغندا -التي لها اليد الطولى في قوات أميصوم-  والمبعوث الخاص للأمم المتحدة أوغستين ماهيغا هما المسيطران على القرار السياسي للبلد، وهو ما أقره رئيس الوزراء المقال محمد فرماجو عندما أشار إلى إن الممولين يتحكمون في مصير الصومال.


هناك الملايين من الدولارات التي يتم التبرع بها كل عام باسم الصومال ولا يصل منها إلا القليل، في حين يبدد معظمها في الفنادق الفخمة في نيروبي، ونفس الأمر ينطبق على الملايين التي تذهب إلى قوات أميصوم التي هي جزء من الأزمة، بينما الجندي الصومالي قد لا يتلقى راتبه لشهور بل قد لا يجد وجبات منتظمة حسب فرماجو.

 

وهناك مسألة تجدر الإشارة إليها، وهي أن المنظمات تفضل دائما مساعدة المخيمات في الدول المجاورة وتتجاهل مساعدة المشردين في الداخل، وهم أقل كلفة مما جعل مسؤولين صوماليين يتهمون تلك المنظمات بتشجيع الهجرة الجماعية من البلد حتى تحول مخيم داداب في كينيا إلى أكبر مخيم في العالم من حيث عدد السكان.

 

أما الفساد في تلك المنظمات فحدث ولا حرج. وسبق أن بيعت المواد الغذائية التي تحمل شعار الأمم المتحدة في الأسواق العامة في الصومال حيث شرعت المنظمة تحقيقا لم تعرف نتائجه بعد.

 

للأسف الشديد فإن سمعة منظمات الإغاثة الغربية لدى الكثير من الصوماليين سيئة ومقترنة بالهيمنة والفساد وتوزيع المواد المنتهية الصلاحية، ومع ذلك فإن قدر الصوماليين هو أن يكونوا ضيوفا على موائد هؤلاء.

 

لا أريد أن أقلل من هبة العالم لنصرة المتضررين من الجفاف وتعاطفهم معهم، لكن هل كان العالم بحاجة لأن يرى مئات الأطفال يلقون حتفهم جوعا أو لأن تعلن الأمم المتحدة المجاعة في البلد لكي يبادر إلى المساعدة؟ في حين بدأت فصول المأساة تتكشف منذ سبعة أشهر حين وصلت طلائع الهاربين من شبح الجوع إلى الدول المجاورة دون أن يحرك أحد ساكنا.

 

ما أريد الخلوص إليه هو أن تعامل العالم مع المعضلة الصومالية يشوبه الكثير من الضبابية، وأن المنظمات الدولية المؤثرة في الشأن الصومالي غير معنية بمعالجة المشكلة من جذورها، بل إنها متربحة من استمرارها واستفحالها لتكون مصدرا للرزق لهم ولجيوش المستفيدين المحليين.

 

غياب عربي
الموقف العربي في المعضلة الصومالية، سواء على مستوى الدول أو المنظمات الأهلية يتراوح بين اللامبالاة والتصريحات التي لم تتجاوز دعوة أطراف الصراع إلى حل مشاكلهم بالإضافة إلى مواقف سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

لكن على أرض الواقع لم تقرن هذه المواقف العربية بأي فعل يذكر من شأنه أن يشعر الصوماليين بأن لهم أشقاء يقفون إلى جانبهم في مأساتهم الحالية.

 

ويبدو أن الدول العربية تركت الصومال للدول الإقليمية والمنظمات الدولية ولم يكن لهم حضور حتى في ما يسمى بـ"مشكلة القراصنة" وهم يشاهدون بذهول استحواذ الدول القوية على أهم بحر عربي باسم مكافحة القرصنة.

 

وفي المحنة الأخيرة لم نسمع من الدول العربية شيئا يذكر إذا استثنينا الكويت التي أعلنت عن التبرع بعشرة ملايين دولار لصالح المنكوبين، رغم أن الكثير من الدول العربية لها مساهمات في المنظمات الأممية الدولية المعنية بالشأن الصومالي.

 

لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن المساعدات عبر الهيئات الدولية تسجل للمنظمات التي تقوم بالتوزيع بغض النظر عن المانحين، لذا فإن الشعب الصومالي مصدوم من غياب الدول العربية والإسلامية في محنته التي طال أمدها.

 

أما المنظمات الأهلية العربية فهي شبه غائبة وليس الصومال في وارد أولوياتها إلا ما ندر من الجمعيات التي تتحرك على نطاق ضيق، وهو ما لا تمكن المقارنة بأي حال بينه وبين الحاجة الماسة على الأرض.

 

لكن تنبغي الإشارة إلى بعض الاستثناءات كما هو حال "قطر الخيرية" التي قدمت مساعدات للنازحين الجدد المكدسين في مخيمات اللاجئين قرب مقديشو.


قد يجادل البعض بأن الدول العربية مشغولة بربيع الثورات الذي هب على المنطقة، لكن الواقع يشهد أن العالم العربي لم يكن له أي حضور فعلي في عمر أزمة الصومال التي أكملت عشرين عاما، لا في المشهد السياسي ولا حتى الثقافي.

 

نعلم أن المشكلة الأمنية ومواقف السياسيين المتناحرين لا تشجع الآخرين على تقديم مبادراتهم، لكن هذا لا يبرر أن يترك بلد كامل يرزح تحت الفقر والحرب والجفاف دون مساعدة. وهناك مسألة أخرى وهي وجود مناطق مستقرة لا يشكل الوضع الأمني فيها عائقا، ومع ذلك لا وجود فعليا للعرب فيها.

 

إخفاق داخلي
في البداية أريد أن أسجل ملاحظة مهمة، وهي أنني عندما أتحدث عن موقف الآخر من الصومال لا أعفي مسؤولية الصوماليين بكل أطيافهم ونخبهم السياسية والفكرية، فهم أصل المشكلة وهم يتحملون وزر ما يترتب عنها من آثار مدمرة على البلاد والعباد.

 

وخير دليل على إخفاقهم هو دورهم المخزي فيما يجري في الصومال سواء كانوا حكومة أو معارضة، فرئيس البلاد شريف شيخ أحمد وغريمه رئيس البرلمان شريف شيخ حسن كانا منذ أسابيع منهمكين في صراع مرير حول من يعين هذه الوزارة السيادية أو تلك لحليفه دون اكتراث بمحنة نصف سكان بلادهم المهددين بالموت جوعا.

 

هل يعقل أن تتمكن دولة تدفع منظمات أجنبية رواتب وزرائها ونوابها من مد يد المساعدة لأهلها؟ وهل أريد لهؤلاء أصلا أن يكونوا دولة بالمعنى الحقيقي أم أن مهمتهم تنحصر في توفير الغطاء الشرعي للقوات الأفريقية؟

 

أما حركة الشباب فإن الأزمة الحالية وجهت لها صفعة قاسية لأنها تسيطر على المناطق المنكوبة وتتحمل مسؤولية إغاثة أهلها، بعد أن منعت هيئات الإغاثة، وبعد أن تراجعت عن قرارها مرغمة وجد مناوئوها فرصة للتهكم عليها وعلى شعاراتها.

 

الساسة الصوماليون من حكومة ومعارضة لم يتوقعوا كارثة من هذا الحجم لأنهم كانوا مشغولين بمناكفات داخلية تضيف كل يوم العشرات إن لم نقل المئات إلى طابور المنتظرين للمساعدات.

 

لكن هذا الإخفاق ليس مقتصرا على السياسيين المتصارعين على السلطة والذين تشكل الأم المواطن آخر ما يفكرون فيه، بل يتعدى الفشل إلى المجتمع المدني الصومالي بكل أطيافه حيث لم يقدم شيئا يذكر في مواجهة المحنة الحالية.

 

فلا توجد عمليا أية منظمات إغاثة محلية معتبرة يمكن أن تخفف من معاناة الشعب أو تكسب ثقة المانحين لتصبح جسرا بينهم وبين المحتاجين لملء الفراغ الناتج عن غياب المؤسسات الرسمية وعن فساد الساسة السياسيين.

 

وخلاصة القول أنه ما لم يكن هناك جهد مشترك محلي ودولي وإقليمي لانتشال الصومال من كبوته آخذا بعين الاعتبار كل تعقيدات الأزمة، فإننا سنكون على موعد مع فصل جديد من فصول المأساة، وقد يكون أشد قسوة، وسيبقى النزيف الصومالي مستمرا.