تاريخ فلسطين

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : محمد الزين | المصدر : www.arab-ency.com

تاريخ فلسطين
 
فلسطين في العصر القديم
جاء اسم فلسطين Palestine من الصيغة اللاتينية للاسم Palaestina المأخوذة بدورها عن التسمية الإغريقية التي كان المؤرخ هيرودوت[ر] أول من استخدمها للدلالة على المنطقة الجنوبية الغربية من سورية، فأوردها مرة باسم فلسطين السورية وأخرى باسم سورية الفلسطينية. وقد عُرفت فلسطين في المصادر الآشورية باسم كور بَلاستو Kur Pa-la-as-tu أي بلاد البَلَستيين. ويعود أصل هذه التسمية إلى الفِلِستيين Pilishti الذين استوطنوا جنوب الساحل السوري بين جبل الكرمل وغزة، كما استُخدمت التسمية Syria Palaestina للدلالة على الولاية الرومانية التي أُعلنت في جنوب سورية في القرن الثاني الميلادي. ومما هو جدير بالذكر أن فلسطين عرفت أيضاً باسم بلاد كنعان وهي التسمية التي وجدت في العهد القديم وفي الوثائق الهيروغليفية والمسمارية.
ويمكن تقسيم تاريخ فلسطين القديم إلى ثلاثة أقسام رئيسة تشمل عصور ماقبل التاريخ ثم العصور التاريخية «السامية»، ابتداء بقدوم الأموريين الكنعانيين وانتهاء بسقوط بابل، وأخيراً العصور الكلاسيكية الهلينستية الرومانية التي استمرت حتى الفتح العربي.
عصور ما قبل التاريخ:
فلسطين هي جزء من سورية الطبيعية (أو بلاد الشام) جغرافياً وتاريخياً وحضارياً، ومن ثَمَّ كان لها دور مهم في إنجازاتها الحضارية الكبرى المتمثلة بنشأة القرى ومعرفة الزراعة وتدجين الحيوان، مثلما أيضاً في تطور الحرف والصناعات والتجارة والفنون والمعتقدات وقيام الدول والمؤسسات الإدارية واختراع الكتابة الأبجدية.. الخ. وقدمت فلسطين شواهد على مختلف مراحل ما قبل التاريخ بدءاً من العصر الباليوليتي حتى عصر البرونز والحديد. وحظيت، ولا تزال، باهتمام علماء الآثار منذ أوائل القرن التاسع عشر لصلتها الوثيقة بالكتاب المقدس وبالديانتين اليهودية والمسيحية.
اُكتشفت أقدم آثار الاستيطان البشري في فلسطين في وادي الأردن، وهي تعود إلى ما قبل 300 ألف سنة، أي إلى العصر الحجري القديم الباليوليتي Paleolithic وكانت أولى الأبحاث قد جرت في كهوف الكرمل، حيث كُشف عن كثير من الأدوات والنباتات العائدة إلى ذلك العصر وإلى إنسان النياندرتال Neandertal قبل أن يحل محله الإنسان العاقل Homo sapiens. وقد عثر في الكهوف ذاتها على سويات أثرية من العصر الحجري الوسيط الميزوليتي Mesolithic التي تعود إلى الحضارة النطوفية[ر] (نسبة إلى وادي النطوف غربي القدس) التي تمثل المرحلة الأخيرة في اقتصاد الصيد والالتقاط قبل معرفة الزراعة، حين بدأ النطوفيون يتركون سكنى المغارات والكهوف ويستقرون في قرى الصيادين الأولى، التي يعد موقع عين الملاحة في وادي الأردن من أفضل نماذجها. وفي أثناء الألف التاسع قبل الميلاد دخلت بلاد الشام في عصر «الثورة الزراعية» أو ما يعرف باسم ثورة العصر الحجري الحديث Neolithic revolution، وهي أهم خطوة حضارية حققتها البشرية قبل الثورة الصناعية، ورافقتها تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية كبرى. ولا خلاف بين الباحثين اليوم في أن الزراعة الأولى قد نشأت في المشرق، وعلى وجه التحديد في سورية وفلسطين، ثم انتقلت إلى مناطق أخرى في العالم.
وتعد أريحا[ر] أشهر القرى الزراعية الباكرة في فلسطين، والتي تطورت سريعاً لتصبح أول مدينة محصنة معروفة في التاريخ.
وفي العصر الحجري الحديث Neolithic حصل تقدم ملموس في الزراعة وتربية الحيوان وتصنيع الأدوات الحجرية الدقيقة، كما توصل الإنسان إلى معرفة تصنيع الفخار الذي كان له تأثير كبير في حياته ومسيرته الحضارية. وبينما وصل هذا الفن إلى قمة تطوره التقني والفني في فخار تل حلف[ر] فإن ظهور الفخار في فلسطين تأخر حتى الألف الخامس قبل الميلاد وبقي دون المستوى العالي لفخار شمالي سورية.
مع اكتشاف المعدن بدأت مرحلة جديدة مهمة في حياة الإنسان في العصر الحجري النحاسي الكالكوليتي Chalcolithic حين بدأ استعماله في بلاد الشام منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد، وتزامن هذا مع قدوم مجموعات كبيرة من الرعاة والمزارعين استقرت في فلسطين حاملة معها حضارة جديدة سميت الغسولية[ر] نسبة إلى تليلات الغسول شمالي البحر الميت، التي وجدت فيها أقدم الأدوات المعدنية. كما أظهرت مكتشفات بئر السبع في الجنوب أنها كانت من أولى مراكز تصنيع النحاس في فلسطين. وقد أدى التوسع في تصنيع الفخار والمعادن إلى ظهور حرف جديدة وزيادة المبادلات بين القرى والمدن، ومع المناطق المجاورة، وبدأت التأثيرات الحضارية المصرية تتوغل في فلسطين. وفي نهاية هذا الدور كان الإنسان قد توصل إلى ابتكار الكتابة التي كانت نهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية العصور التاريخية.
العصر الكنعاني:
مما لاشك فيه أن الكنعانيين[ر] وأشقاءهم الأموريين[ر] كانوا أقدم الأقوام المعروفة تاريخياً، الذين استقروا على أرض فلسطين، وهم الذين أعطوها اسم بلاد كنعان ولغتها الكنعانية وأسسوا كثيراً من مدنها في العصور التاريخية. وبينما اختار الأموريون سكنى المناطق الداخلية، فإن الكنعانيين اتخذوا المناطق الساحلية موطناً لهم وكانوا سباقين إلى صناعة التعدين؛ لذلك ارتبط اسمهم بالعصور البرونزية، وقد شاع استعمال البرونز في المدن الكنعانية منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. حمل عدد من أشهر مدن فلسطين أسماء كنعانية واضحة مثل أريحا وبيت شان ومجدو وعكو ويبوس وأورشليم وسواها.
لم يؤسس الكنعانيون دولة قوية موحدة وإنما عدداً كبيراً من ممالك المدن التي كثيراً ما كانت تتصارع فيما بينها وينقصها الاستقرار، ولكنها كانت تتعاون وتشكل أحلافاً عسكرية حينما يداهمها الخطر، ومن أشهرها الحلف الكبير الذي تصدى لتحوتمس الثالث في مجدو عام 1479ق.م، ولكن في عصر العمارنة وُجد أن أمراء تلك الدويلات يراسلون فراعنة مصر فرادى لطلب الدعم والحماية. وعلى العموم كان الكنعانيون مسالمين وينصب اهتمامهم على الزراعة والتجارة والديانة والفن، وكانت ديانتهم تقوم على عبادة قوى الطبيعة المتمثلة بالإله إيل وبعل والآلهة عشتارت التي اندمجت فيما بعد بالآلهة أفروديت، وصارت أشهر آلهة الحب والخصب في عالم البحر المتوسط.
مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد بدأت تنشط المدن وتنتشر على نطاق واسع في فلسطين، وازدادت العلاقات التجارية والسياسية مع مصر وبقية بلاد الشام، كما صارت المصادر الكتابية وخاصة الهيروغليفية تسهم أول مرة في كتابة تاريخ فلسطين، الذي بات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ مصر في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد. وتمثل هذه الفترة بدايـة التغلغل السياسي والعسكري المصري في جـنوب فلسطين ومنها إلى بقـية بلاد الشام. وقد جـاء من عـهد الملك سنوسرت الأول (1971-1926ق.م) أقدم وصف للحياة والنظم الاجتماعية في سورية وفلسطين، والمتمثلة في قصة سنوحي، ذلك الأمير المصري الذي التجأ إلى سورية وعاش سنوات طويلة فيها قبل أن يعود إلى وطنه ويكتب مذكراته، كما أن نصوص اللقى المصرية العائدة إلى القرن التاسع عشر ق.م تتضمن أسماء عدد من الأمراء الكنعانيين والأموريين.
ويرتبط اسم الهكسوس بفلسطين، التي انطلقوا منها إلى مصر، التي حكموها نحو قرن من الزمن، وبعد طردهم منها لحق بهم الملك أحمس مؤسس السلالة الثامنة عشرة وحاصرهم في قلعة شاروهين في جنوبي فلسطين ثلاث سنوات، كما يقول، حتى تمكن من احتلالها.
وهكذا دخلت فلسطين منذ أواسط القرن السادس عشر تحت الحكم المصري مدة ثلاثة قرون ونصف. وقام تحوتمس[ر] الثالث بست عشرة حملة لترسيخ السيادة المصرية على بلاد الشام، استهلها بمعركة مجدو الشهيرة، ولكن هذه السيادة تراخت في عصر العمارنة وانشغال أخناتون[ر] بإصلاحاته الدينية فتجددت الصراعات بين دول المدن الكنعانية وظهرت جماعات الخابيرو التي عاثت فساداً في المنطقة حتى استعادت مصر نشاطها العسكري وتصدى رعمسيس[ر] الثاني للتوسع الحثي في معركة قادش الشهيرة التي رسخت السيادة المصرية على جنوب سورية وفلسطين.
ولكن مع بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد اضطرب الوضع الدولي في المنطقة بسبب غزوات شعوب البحر التي قضت على المملكة الحثية ودمرت عدداً من المدن الساحلية حتى تمكنت مصر من الانتصار عليها وردها على أعقابها، فتوجه قسم منها وهم الفلستيون إلى فلسطين واستوطنوا ساحلها الجنوبي، وتزامنت هذه الأحداث مع تحركات الآراميين[ر] الذين أقاموا عدداً من الممالك في شمالي ووسط سورية تزعمتها مملكة دمشق التي كان لها دور مهم في الأحداث اللاحقة. وفي خضم تلك الأوضاع المضطربة ونتيجة انهيار الحكم المصري في فلسطين، تمكن بنو إسرائيل من دخولها واستولوا على بعض مناطقها بوسائل مختلفة، وبذلك يبتدئ فصل جديد من تاريخ فلسطين.
مملكة إسرائيل:
ينقسم تاريخ بني إسرائيل في فلسطين إلى قسمين يشتمل الأول على تاريخهم، حسب روايات العهد القديم، وهو أسطوري وغير موثق من أي مصدر تاريخي، أما الثاني فيبدأ في القرن التاسع قبل الميلاد مع الكتابات والوثائق الآشورية والآرامية.
تتحدث التوراة عن هجرة إبراهيم الخليل إلى فلسطين وعن نسله وأحفاده الذين شكلوا أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وكيف رحلوا إلى مصر بسبب المجاعة التي حلت بأرض كنعان، ثم عن خروجهم بقيادة موسى وضلالهم في صحراء التيه (سيناء) ودخولهم فلسطين من جهة شرقي الأردن وارتكابهم سلسلة من المجازر بحق أهلها الكنعانيين حتى تمكنوا من تثبيت أقدامهم فيها بعد حروب طويلة مع الكنعانيين والفلستيين بقيادة زعمائهم القبليين (القضاة) ومن أشهرهم شمشون.
كان الفلستيون قد بلغوا ذروة قوتهم في منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد وتمكنوا من هزيمة بني إسرائيل في معارك عدة حتى تمكن داوود أخيراً من كسر شوكتهم، ومع الزمن تأثروا بالكنعانيين واندمجوا بهم وذابوا في بوتقتهم. وفي غياب القوى الكبرى عن ساحة الأحداث في فلسطين أسس داوود في مستهل القرن العاشر قبل الميلاد مملكة واسعة جعل عاصمتها مدينة أورشليم الكنعانية وخاض حروباً عديدة ضد الآراميين، وخلفه ابنه سليمان نحو عام 963ق.م على عرش المملكة التي تصورها التوراة على أنها العصر الذهبي لبني إسرائيل، وكان من أهم أعماله بناء الهيكل مستعيناً بملك صور الفينيقي حيرام. وفي الحقيقة لا يوجد أي مصدر تاريخي يشير إلى هذه المملكة الكبيرة المزعومة أو يذكر داوود وسليمان سوى أسفار العهد القديم التي دونها كهنة اليهود بعد مئات السنين من الأحداث التي ترويها وفق تصوراتهم وأهوائهم.
وبانقسام مملكة سليمان إلى مملكتين، شمالية عاصمتها السامرة، وتدعى إسرائيل، وجنوبية عاصمتها أورشليم وتدعى يهوذا، يبدأ التاريخ الموثق لبني إسرائيل الذي يُظهر أنهما كانتا مملكتين صغيرتين متنافستين في عالم دويلات جنوبي سورية إلى جانب آرام ودمشق وعمان ومؤاب وأدوم والتي بدأت تتساقط منذ القرن الثامن ق.م تحت السيادة الآشورية.
كان لمملكة دمشق الآرامية نفوذ كبير على كل من إسرائيل ويهوذا ولاسيما في القرن التاسع ق.م، وقد أجبرتهما على المشاركة في الحلف الآرامي الذي تصدى للغزو الآشوري في معركة قرقر(عـام 853ق.م). ودانت لها مناطق واسعة في شمالي فلسطين في عهد ملكيها الكبيرين حزائيل وبن هدد. كانت مملكة إسرائيل تناور في مواقفها من آشور ودمشق بحسب الأوضاع العسكرية، وأخيراً سقطت عام 722ق.م على يد الملك صرغون الثاني (شاروكين) الذي هجّر كثيراً من سكانها، وحولها إلى مقاطعة آشورية صارت تعرف باسم السامرة. ويعد عمري وأسرته أول ملوك إسرائيل الذين تذكرهم المصادر الآشورية.
أما مملكة يهوذا فكانت أقل شأناً وأهمية من إسرائيل، وقد استفادت من اختفاء منافستها الشمالية، وبدأت تبرز على الصعيد السياسي، ومن الحوادث المهمة في تاريخها غزو الفرعون شيشنق لأورشليم ونهب هيكلها.
حاول ملكها الاستقلال عن آشور بتشجيع من مصر، ولكن الآشوريين سارعوا بقيادة سنحاريب إلى تأكيد سيطرتهم من جديد وضاعفوا الجزية المفروضة عليها.
وبعد سقوط المملكة الآشورية خضعت فلسطين لحكم الكلدانيين (605ق.م)، وبما أن يهوذا وقفت إلى جانب المصريين في محاربة البابليين[ر]، لذلك زحف نبوخذ نصر[ر] نحو أورشليم عام 597ق.م وسبى ملكها والآلاف من سكانها ونصّب ملكاً جديداً عليها. ولكن اليهود عادوا إلى التآمر، فعاد نبوخذ نصر وحاصر أورشليم حتى سقطت عام 587ق.م، فدمرها وأحرق هيكلها ونفى نحو خمسين ألفاً من اليهود، وهو ما يعرف باسم السبي البابلي. وهكذا انتهى الوجود السياسي اليهودي في فلسطين.
وبعد سقوط المملكة البابلية الحديثة عام 539ق.م، سمح الملك قورش[ر] مؤسس الامبراطورية الفارسية لليهود المنفيين بالعودة إلى فلسطين بهدف إيجاد طائفة موالية للحكم الفارسي، وهكذا عاد فقراء اليهود وبقي أغنياؤهم في بابل. لا يعرف سوى القليل عن أوضاع فلسطين في تلك المرحلة، وقد صارت جزءاً من الولاية (المرزبانة) الخامسة التي تضم سورية وقبرص، وهنا ينبغي الإشارة إلى التأثير الفارسي الزرادشتي على الديانة اليهودية التي دخلها مفهوم الثنائية: النور والظلمة والخير والشر.
العصر الهلنستي:
بدأت التأثيرات الحضارية الإغريقية بالظهور في المنطقة في أثناء الحكم الفارسي وازدادت التبادلات والمراكز التجارية قبل قرن من قدوم الإسكندر المقدوني.
وهكذا قررت معركة إسوس Issos عام 333ق.م مصير بلاد الشام ومصر، وكانت فاتحة عصر جديد في تاريخها. لم يلق القائد المنتصر مقاومة تذكر إلا من مدينة صور التي تحدته سبعة أشهر كاملة قبل احتلالها وتدميرها.
كما أن مدينة غزة قاومته شهرين كاملين بدعم من القبائل العربية حتى سقوطها، وقد استولى الإسكندر على كميات كبيرة من البخور والتوابل، ذلك أن غزة كانت المستودع الرئيسي لمنتجات الجزيرة العربية على البحر المتوسط. وهكذا صارت فلسطين جزءاً من امبراطورية الإسكندر، أما عن زيارته المزعومة لأورشليم، فهي أسطورية لا أساس لها من الصحة.
وبعد موت الإسكندر (323ق.م) صارت فلسطين وبلاد الشام مسرحاً لكثير من الصراعات والحروب بين كبار قواده، وهكذا بسط بطلميوس[ر] سيطرته على فلسطين وجنوبي سورية التي نازعه عليها أنتيغونوس Antigonos وابنه ديمتريوس Demetrios وجرت معركة غزة عام 312ق.م، انتهت بانتصار بطلميوس. وقد أسفرت معركة إبسوس Ipsos الحاسمة عام 301ق.م التي انتهت بمقتل أنتيغونوس، عن تقاسم بلاد الشام بين القادة المنتصرين، وأنكر سلوقس[ر] على بطلميوس احتلال جوف سورية وفلسطين بغير وجه حق، وكان ذلك سبباً في صراع طويل بين المملكتين دام طوال القرن الثالث ق.م عرف باسم «الحروب السورية».
وتُلقي برديات زينون بعض الأضواء على الأوضاع في فلسطين في أواسط القرن الثالث ق.م، وهي تتضمن مراسلات زينون مدير أعمال وزير المالية البطلمي، الذي كانت له أملاك كبيرة في فلسطين، ويستدل منها أن بعض المواد الأساسية كالحبوب والزيوت والخمور كانت تحت إشراف الدولة، أي إنه ساد في فلسطين آنذاك اقتصاد موجه خاضع لاحتكار الدولة مثلما كان عليه الحال في مصر. ولم يكن البطالمة مؤسسي مدن، مثل السلوقيين، والمدينة الوحيدة في فلسطين التي حملت اسماً سلالياً هي بطولميس Ptolemais الذي أُطلق على مدينة عكا، في حين حملت مدينة بيسان اسماً إغريقياً هو سكيثوبوليس Skythopolis.
نجح البطالمة في الاحتفاظ بسيطرتهم على فلسطين على مدى قرن كامل وتمكنوا من الانتصار على أنطيوخوس[ر] الثالث عام 217ق.م في معركة رفح Raphia الشهيرة، ولكنهم هُزموا في معركة بانياس الحاسـمة عند منابع الأردن عام 200ق.م، والتي أدت إلى بسط السيادة السلوقية على سورية الطبيعية بأكملها، ويبتدئ بذلك الحكم الـسلوقي في فلسطين الذي اسـتمر حتى الاحتلال الروماني عام 63ق.م.
ومن أهم الأحداث التي جرت في العهد السلوقي ذلك الصراع الذي قام بين السلطة السلوقية واليهود بسبب سياسة الهَلْينة hellinization التي انتهجها أنطيوخوس الرابع (175-164ق.م) بهدف توحيد شعوب مملكته في إطار الثقافة والديانة ونمط الحياة الهلينية، يؤيده على ذلك الطبقة الأرستقراطية اليهودية التي بدأت تأخذ بمظاهر الحضارة الجديدة، في حين بقي فقراء اليهود متمسكين بأصول ديانتهم، وهم الذين ثاروا ضد سياسة الهلينة بزعامة يهوذا الملقب بالمكابي، فيما صار يعرف باسم الثورة المكابية، التي اندلعت بعد نهب كنوز الهيكل وإقامة مذبح للإله زيوس Zeus ومنع الطقوس اليهودية وتحويل أورشليم إلى مدينة هلينية باسم أنطاكية.
بدأت الثورة على شكل حرب عصابات تطورت مستفيدة من موت أنطيوخوس ومن دعم الرومان لها، وهكذا تمكن المكابيون[ر] من دخول أورشليم وأسسوا كياناً دينياً وسياسياً تحول نتيجة ضعف السلوقيين إلى دولة مستقلة، بدأت تتوسع في أرض فلسطين وتفرض الديانة اليهودية بالقوة، وقد بقيت هذه المملكة الحشمونية قائمة حتى قدوم الرومان.
العصر الروماني:
يُعدّ الاحتلال الروماني لسورية وفلسطين مرحلة جديدة في تاريخها إذ قضى بومبيوس[ر] على المملكة السلوقية عام 64ق.م، وجعل من سورية بأكملها ولاية رومانية، ولكنه ترك للمدن الإغريقية حريتها وحكمها الذاتي، وحدَّ من سلطة الإمارات المحلية، فحرر المدن الفلسطينية التي ضمها المكابيون إلى مملكتهم، كما أقام بومبيوس تحالف مدن الديكابوليس[ر] في جنوب سورية والذي تزعمته مدينة سكيثوبوليس/بيسان. وحينما جاء القائد الروماني ماركوس أنطونيوس[ر] قضى على حكم الأسرة المكابية وعين هيرودس[ر] Herodes الأدومي ابن أنتيباتر حاكماً على فلـسطين، وملكاً على الإمـارة اليـهودية (37-4ق.م) التي جعل منها مملكة هلينستية تأتمر بأمر روما، وبنى في أورشليم ميداناً لسباق الخيل ومسرحاً وأعاد بناء الهيكل. كانت السامرة مدينته المفضلة التي أعاد بناءها وسماها سباسطية Sebastia تكريماً للامبراطور أوغسطس[ر]، كما بنى مدينة قيسارية Caesaria على الساحل.
وبعد موته خلفه أبناؤه من بعده ومنهم هيرودس أنتيباس حاكم الجليل الذي بنى مدينة طبريا وسماها باسم الامبراطور طيبريوس[ر].
وقد شهدت فلسطين في تلك الفترة مولد السيد المسيح، كما كانت مسرح دعوته الإنسانية السمحاء، مثلما شهدت أيضاً ثورة اليهود التي بدأت عام 66ق.م أيام الامبراطور نيرون[ر] حينما قام اليهود المتعصبون بقتل زعماء اليهود المعتدلين (الفريسيين) وهاجموا الحامية الرومانية وقضوا على أفرادها. وكلف القائد فلافيوس فسباسيانوس[ر] بالقضاء على التمرد، فسار إلى فلسطين على رأس جيش كبير وبدأ عملياته العسكرية. وبينما كان يستعد للهجوم على أورشليم جاءت الأنباء بموت نيرون فتوقف القتال.
وبعد أن نودي بفلافيوس امبراطوراً على عرش روما كلف ابنه تيتوس[ر] بمتابعة الحرب فسار إلى أورشليم وحاصرها ثلاثة أشهر، ثم اقتحم أسوارها وقلعتها ودمر الهيكل اليهودي وأعمل الجنود الرومان في المدينة نهباً وحرقاً وتقتيلاً وبيع الأسرى في أسواق النخاسة، وهكذا انتهى الوجود اليهودي في أورشليم (70م) التي عسكرت فيها حامية رومانية، كما وُضِعَت فلسطين تحت حكم مندوب امبراطوري. وجرى تجديد مدينة شكيم وسميت نيابوليس Neapolis (وهي مدينة نابلس الحالية).
وفي عهد الامبراطور هادريان[ر] قامت ثورة يهودية أخرى (132-135م) تزعمها باركوخبا (أي ابن الكواكب) الذي ادعى أنه المسيح المنتظر، وتمكن من احتلال أورشليم والاعتصام بها فأُرسل جيش روماني كبير حاصر المتمردين وهزمهم وقتل زعيمهم. وأصدر هادريان مرسوماً يمنع اليهود من دخول أورشليم التي صارت مدينة رومانية حملت اسم إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina، كما صارت فلسطين ولاية رومانية باسم «سورية الفلسطينية».
ومع انتشار الديانة المسيحية وانتصارها في عهد الامبراطور قسطنطين الكبير[ر] أصبحت فلسطين من أهم المراكز الدينية لوجود كثير من الأماكن المقدسة فيها ولنشاط آباء الكنيسة الكبار ومنهم يوستينوس Iustinos الشهيد وأوريغينس Origines وهيرونيموس وتأسيس مدرسة لتعليم الدين المسيحي في قيسارية، التي أنجبت أبا التاريخ الكنسي أوسيبيوس[ر]، كما أن هيلينا Helena والدة قسطنطين خصت البلاد المقدسة برعايتها فزارتها وعملت على إقامة كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة.
عانت فلسطين مثل بقية مناطق سورية من الحروب والصراعات التي قامت بين الرومان والفرس، الذين تمكنوا مرات عديدة من اجتياح البلاد ونهب مدنها، ومن أعنف الحملات التي عرفتها سورية وفلسطين حملة كسرى أنوشـروان (540م) التي خلفت وراءها الدمـار والخـراب، ثم جاءت الحرب الكبرى بين الساسانيين[ر] والبيزنطيين[ر] في أيام كسرى أبرويز وهرقل حين استولى الفرس على معظم مدن سورية ودخلوا دمشق، ثم ساروا نحو إيليا (القدس) فحاصروها واحتلوها بمساعدة اليهود المقيمين فيها، وتلا ذلك قتل ونهب وتدمير ثم أشعلت النيران فيها ( أيار/مايو 615م)، وحينما استعاد الامبراطور هرقل سورية من الفرس احتفى بإعادة الصليب المقدس إلى المدينة المقدسة عام 629م، وما هي إلا سنوات قليلة حتى جاء الفتح العربي الإسلامي وتم تحرير فلسطين ودخل الخليفة عمر بن الخطاب عـام 17هـ/63م مدينة إيليا التي صارت ولا تزال تدعى مدينة القدس.