مسألة: قول الإمام أحمد - رضي الله عنه - في الصفات

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : ابن جبرين | المصدر : www.ibn-jebreen.com

قوله:
(  قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
إن الله ينزل إلى سماء الدنيا أو إن الله يرى في القيامة وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئًا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشورى:11 ] . )


شرح:
 نقل ابن قدامة - رحمه الله - بعض الآثار عن الأئمة، وقصده بذلك الاستئناس بها وليس اعتمادها، فقد قالها أئمة مقتدى بهم، معروفة مكانتهم، معترف بفضلهم، مشهور علمهم وكتبهم، يترحم عليم ويدعى لهم في كل زمان، فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبه نطقوا وبهم نطق، هؤلاء سرج الأرض، وأئمة الدنيا في زمانهم وبعد زمانهم، فإذا جاءت الآثار عنهم فإنها تكون محل قبول.
هذا الأثر عن الإمام أحمد قد يكون فيه بعض الإشكالات، وهو أثر ثابت عنه، رواه عنه بالإسناد القاضي أبو يعلى الفراء المشهور الحنبلي في كتاب له مطبوع اسمه ( إبطال التأويل ).
لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث الصفات؛ كأحاديث النزول، أو أحاديث الرؤية، وكذلك آيات الصفات - جاء فيها بالصواب، وإن كان لفظًا مجملا، وقد أفصح فيها رحمه الله بما هو الصواب في كثير من كتبه، وأثبت بأن الله تعالى يُرى حقيقة بالأبصار، وأنه ينزل كما يشاء إلى سماء الدنيا، وأنه على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه يسمع كل شيء، ولا يستر سمعه شيء، وأنه يرى ولا يستر بصره شيء، ونحو ذلك من الصفات، أثبتها إثباتًا حقيقيًّا.
قد يتوقف في بعض الكلمات، ولكن قصده في ذلك الرد على الممثلة الذين يبالغون في الإثبات حتى يخرج بهم هذا الإثبات إلى نوع من التشبيه، فذكر أنا نؤمن بهذه الصفات، ونؤمن بهذه الآيات؛ يعني نصدق بها ونعتقد صحتها، وصحة معناها، ودلالتها؛ وذلك لأنها كلام الله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ صحت عنه، وثبتت عنه، وقد أمرنا باتباعه، وأمرنا بطاعته، وقد عرف نصحه لأمته، وعرف بفصاحته وبيانه وبلاغته.
وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات؛ كونه ناصحًا للأمة، حريصًا على نجاتها، وكونه فصيحًا بليغًا يعبر بالكلمات المفهومة التي لا لبس فيها أو خفاء، وكونه قد بلَّغ كل شيء، وعلَّم الأمة كل ما يهمهم، وما يحتاجون إليه، وأن هذه البيانات التي رويت عنه ثابتة قطعية الثبوت لا راد لها ولا طعن في أسانيدها؛ فكيف مع ذلك نردها؟.
بل الواجب أن نقبلها، ونجعلها في ضمن معتقدنا، ولكن لا نكيَّفها كما ثبت ذلك عن السلف وأنهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، أي: لا تسألوا عن الكيفية.
والكلمة التي تشكل في هذا الأثر قوله: لا كيف ولا معنى ونحن نعتقد أن للصفات معنى، ونعتقد أن المعاني مفهومة، ولذلك فمراده بالمعنى هنا هو الماهية، وقصده أن ماهية تلك الصفة لا نخوض فيها، فلا نقول مثلا: إن الله - تعالى - يبصر بعين مركبة من طبقات، ويحيط بها مشافر وأهداب، ويسمع مثلا بآذان وبأصمخة، وبكذا وبكذا، ويتكلم مثلا بقصبة هوائية، وبلسان وشفتين لا نقول مثل هذا، ولكنا إذا أثبتنا الصفات أثبتناها حقيقة دون أن نبحث عن هذا، فلعل هذا هو مراد الإمام أحمد بقوله ( لا كيف ولا معنى )، فالكيف مجهول، يعني: كيفية الصفة، وأما المعنى فهو مفهوم بدلالته اللغوية، وخفي بكيفيته وكنهه، وأما الكلام فهو الكلام المسموع الذي يفهمه من سمعه.
فقوله: لا كيف على ظاهره، يعني: لا نخوض في الكيفية، وقوله: ولا معنى يراد به الكنه، أي: ولا نتدخل في كنه الصفة وماهيتها، وما هي عليه، وأما المعنى الظاهر الذي تفسر به الكلمة فإنه معلوم للأمة، ولو لم يكن معلومًا لكان يخاطبهم بكلام لا يفهم كأنه أعجمي وهم عرب، وقد نزهه الله - تعالى - عن ذلك، فقال تعالى:

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ( فصلت:44 ) وأخبر بأنه بلسان عربي مبين، ولما قال المشركون

إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ( النحل:103 ) رد عليهم بقوله تعالى:

لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( النحل:103 ) .
فلا يليق أن يكون الرسول وهو عربي ويخاطب العرب، ثم يخبرهم بشيء لا يدرون معناه، فلا بد أنا نعرف المعنى، ولكن نتوقف عن الكيفية، وعن الماهية،  ونتقبل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا نكون من الذين يقولون:

نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( النساء:150 ) وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى:

أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ( النساء:151 ) فالواجب ألا نرد شيئًا من المقالات التي قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ثبوتها، بل نثبتها، ولا نرد شيئًا، ولا نزيد من عند أنفسنا شيئًا لا دليل عليه.
هذه هي طريقة أهل السنة، فطريقتهم نفي التشبيه، وإثبات الصفات بلا تشبيه، عملا ببعض الآية التي ردت على الطائفتين المتطرفتين؛ طائفة مشبهة رد الله عليهم بقوله تعالى:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( الشورى:11 ) وطائفة معطلة رد الله عليهم بقوله تعالى:

وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( الشورى:11 ) فكل طائفة منحرفة يوجد ما يبطل قولها في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( بلا حد ولا غاية ) .


شرح:
الحد: فيه خلاف؛ فأثبته كثير من العلماء، ونفاه بعضهم، والمراد بالحد: النهاية, فالصحيح أنا نقول: إن الله - تعالى - بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
والذين نفوا الحد فقالوا: ليس لله حدٌ، يعني: ليس له نهاية, آل بهم القول إلى أن اعتقدوا معتقد أهل الوحدة الذين قالوا: إن الوجود واحد، وأن وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات، وهذا قول شنيع تستوحش منه عندما تسمعه.
فإذا وردت الأدلة قلنا بها، وتجرأنا عليها وجسرنا على الكلام بها، ولو أنكر ذلك من أنكر، فلا نرد شيئًا من أجل إنكار هؤلاء، ولا نتأولها تأويلا يبطل من معناها ما هو صحيح ثابت، ولو شنع من شنع، ولو عابنا، والتشنيع هو الإنكار والعيب كما في البيت الذي قاله الزمخشري - والله حسيبه - عندما يسمع قول أهل السنة: (إن الله استوى بلا كيف، وإن الله ينزل بلا كيف، وإن الله يرى بلا كيف) ، قال:

قد شبهوه بخلقه فتخوفوا
شنع الورى فتستروا بالبلكفة

 سماها ( البلكفة ) لقولهم ( بلا كيف ) هكذا قال، وردَّ عليه علماء أهل السنة بل وعلماء الأشاعرة أيضًا نظمًا ونثرًا؛ وذلك لأنه على مذهب المعتزلة، وهو صاحب ( الكشاف ) التفسير المشهور.
وما دمنا متبعين للدليل فإننا نختص به ويفوت غيرنا، وأما ما أنكره علينا أضدادنا أو عابونا به فإنا لا نبالي بعيبهم وثلبهم، بل نقول: الحق معنا ولو كنتم جميعًا ضدنا وخلافنا؛ فنحن نثبت ما أثبته القرآن الذي دلالته واضحة، وأنتم تتكلفون في نفيه، وفي تحريفه، وتركبون الصعوبات في تأويله وفي صرفه عن ظاهره فتقولون: إن قوله تعالى:

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ( ص:75 ) أي: بنعمتي، أو تقولون في قوله تعالى:

بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة:64 ) أي: قدرته أو ما أشبه ذلك، هذا من التأويل الذي فيه تكلف، وكذلك بقية الصفات.
وهذا الأثر عن الإمام أحمد معمول به، والكلمات التي تنكر مثل قوله: لا حد ولا غاية و لا كيف ولا معنى محمول محملا يناسب المقام، أن المراد بالمعنى الكنه، وأن المراد بالحد والغاية المنتهى، لا أنه يريد بذلك التفسير؛ فإنا نفسرها ونفهم مدلولها.
وقوله:
(  ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنّعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن. )


شرح:
هذا تكميل الأثر الذي روي عن الإمام أحمد رحمه الله؛ في أنه يثبت أن التمسك يكون بالقرآن، وأن القرآن هو المعتمد، وكذلك الصحيح من السنة، وأن طريقتنا أن نتقبل كل ما جاء به القرآن والسنة، ولا نرد شيئًا من ذلك، وأنا لا نأتي بشيء من قبل أنفسنا، فنكون زدنا في الصفات ما ليس منها، وإنما نقتصر على ما ورد، نصف الله بما ورد، وبما أثبته لنفسه، أو أثبته له من أرسله.