يواجه الداعية أصنافاً من الناس .. فمنهم من يكون عظيم التأثر سريع الاستجابة ، ومنهم من يقتنع بالحق ويعجب به لكن يعوقه عن الاستجابة ضعف عزيمته أو هوى نفسه ، وهناك صنف من الناس يعرضون عن الحق وينفرون منه كأنما ختم على قلوبهم ، وبعض أولئك ينصبون أنفسهم في مواجهة الدعوة ويبذلون جهدهم في حربها وتخذيل الناس عنها بالشبهات والشهوات ، مع حرصهم على تثبيت الباطل والترغيب فيه والترويج له ، وهذا الصنف من الناس سماهم الله بـ"الملأ" وهم -كما قال ابن كثير- يسعون في التحريض للنيل من أهل الحق كما في قوله تعالى : { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك } . ويجتهدون في تشكيك المستجيبين كما في قوله تعالى : {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } . وهم دائماً في حركة واجتهاد في سبيل الباطل كما وصفهم الله : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد } . والداعية ينبغي أن يكون قوي الحجة ، طويل النفس ، حكيم الأسلوب ، فلا يأس عنده وإن كثر المعرضون ، ولا تهور لديه وإن زاد المتحرشون ، بل يجتهد في تكثير الأدلة وزيادة البراهين مع كشف الشبهات ودحض الافتراءات ليكون لذلك أثره في إقناع وهداية بعض المعرضين أو إضعاف حميتهم للباطل أو تفتيت صفهم ، فلا ينبغي أن يكون من الداعية لشر يدفعه ، بعد جولة أو جولتين أن يعلن يأسه من المعرضين وسخطه عليهم واتهامه لهم بالاستكبار على الحق أو الكفر أو غيره ، فالداعية طبيب ، والطبيب إذا زادت علة مريضه لم يدفعه ذلك إلا إلى المزيد من الرحمة والاجتهاد في التماس أساليب العلاج دون أن يخطر على باله أن يتخلى عنه ، ولذا كان التحلي بالصبر وسعة الصدر مع بعد النظر يعطي للداعية ثباتاً وقدرة على بذل مزيد من الجهد ، وتنويع أساليب العرض ، ولهذا أثره العظيم في المحايدين الذين يرقبون مواقف الداعية وتصرفاته. وللداعية مثل عظيم يحتذى في موقف نوح عليه السلام من الملأ واتباعهم ، فإنه : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } . ونوع الأساليب في دعوتهم : { إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } ثم { إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } . ثم جاء موقف الملأ : { قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين }. هذا هو الموقف برغم طول الزمان الذي أمضاه ، وضخامة الجهد الذي أضناه ، وتنوع الأسلوب الذي توخاه ، ومع ذلك ما نفد صبره وما خرج عن مقتضى الرحمة والحكمة : { قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون } . فهل استمرت دعوتك - أخي الداعية- عشر معشار مدة نوح؟ وهل لقيت عشر معشار إعراض قومه الذين قال فيهم : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً }. إذن ألا يحق لنا أن نعتب عليك لما دبّ في نفسك من اليأس ، وما وصمت به الناس من الكبر أو الفسق أو الكفر برغم أنك لم تبلغ جهدك في إقامة الحجة طول المدة ، إذن فليكن لك - يا أخي - عشر معشار ما كان لنوح من الحكمة وطول النفس .