خطبة الأسبوع

الناقل : الناري | الكاتب الأصلى : العلامة محمدبن صالح العثيمين | المصدر : www.ibnothaimeen.com

 
 
 
 
 
 
 
 


 

الخطبة الأولى:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده رسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعرفوا أن أول الإنسان لم يكن شيئا مذكورا كما قال الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1] وهذا يشمل أبا الخليقة آدم ويشمل بنيه أيضاً، فإن كل واحد منا مضى عليه زمن لم يكن شيئا مذكوراً، ثم أخرجه الله تعالى إلى هذه الدار دار العمل وهي دار متاعها قليل بالنسبة للآخرة، سنوات وأشهر وأسابيع وأيام وساعات ودقائق ولحظات ونبضات ثم بعد ذلك الموت.

 

 إذاً: فلا بد أن نعمل وأن نستغل الفرصة في هذه الدنيا، نعمل عملاً صالحاً نتقرب به إلى الله عزَّ وجلَّ، نستغرق أوقاتنا فيما ينفعنا في ديننا أو دنيانا، إن الأوقات ـ أيها الإخوة ـ إنها خزائن الأعمال، فلنبادرها بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان وانصرام الزمان، إن كل يوم بل كل ساعة بل كل دقيقة بل كل لحظة تمرُّ بنا فإنها لن ترجع إلينا أبداً، وإن كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة وكل لحظة تمرُّ بنا فإنها قصرٌ في أعمارنا ودنو لآجالنا، فانتبهوا ـ أيها الإخوة المسلمين لهذه الحقيقة الواقعية التي يغفل عنها كثير من الناس، كما قال الله تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون: 63] أعمال الدنيا لم نغفل عنها ولكن أعمال الآخرة نحن بها مقصرون، فنسأل الله أن يعيننا على ما يرضيه.

 

أيها المسلمون، أيها الإخوة، إن المعلمين منا والمتعلمين يستقبلون في هذه الأيام إجازة نصف السنة، ولا أقول عطلة نصف السنة؛ لأن عمر الإنسان ليس فيه عطلة، الإنسان حارث وهمام دائماً، ولكنها إجازة عن عمل للتفرغ إلى عمل آخر، إنها إجازة عن الدراسة النظامية، ولكنها ليست إجازة عن الأعمال الأخرى، فبماذا نقضي هذه الإجازة؟

 

 إن الناس لهم مشارب ولهم اتجاهات ولهم أعمال متنوعة، فمن الناس من يقضي هذه الإجازة في بلده لا يغادرها في رحلات ولا أسفار ولكن يتفرغ لأعماله الخاصة إما أعمال دنيوية، وإما أعمال أخروية، إما دروس دينية، وإما دروس أخرى، لكنها لا تضر، وإنني أوجه الخطاب لهؤلاء أن يحرصوا على أن تكون إجازتهم إجازة عمل بناء نافع تحصل به مصالحهم الدينية والدنيوية إما في مراجعة علوم يودون التخصص فيها، وإما في اجتماع على درس ثقافة عامة ،وإما في الحضور إلى المكتبات للاستزادة من العلم، وإما في اشتغال بمصالح دنيوية مع أولياء أمورهم في فلاحة أو تجارة أو غير ذلك، ومن الناس من يقضي الإجازة بالسفر ولكن إلى أين؟ من الناس من يقضي الإجازة بالسفر إلى بلاد خارجية؛ من أجل أن يقضي وطره المحرم وهواه المنحرف وهذا والله هو الخاسر، الخاسر دنيا وأخرى، إنه إذا مضى بل إذا سافر إلى هذه البلاد لأغراضه المنحرفة وأهوائه الفاسدة فإنه سوف يندم حين لا ينفع الندم، وربما لا يرجع ،ربما يموت في تلك البلاد البعيدة عن الإسلام، وربما يرجع ولكنه قد تغير قلبه وفكره وعقله، نسأل الله السلامة.

 

 ومن الناس من يسافر إلى زيارة قريب أو عيادة مريض أو أمر ديني محمود فيكون مأجوراً على ذلك ونفقته مخلوفة عليه إنشاء الله كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]، ومعنى يخلفه أي: يعطيكم خلفاً عنه، ومن الناس من يسافر إلى الحرمين الشريفين إلى مكة والمدينة، يسافر إلى مكة في العمرة والصلاة في المسجد الحرام، ويسافر إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي والسلام على قبر خير الأنام محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهذا من أفضل الأعمال، أعني: السفر إلى الحرمين، فإن العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والصلاة في المسجد الحرام مسجد الكعبة أفضل من مائة ألف صلاة،وإنما يختص هذا الفضل ـ أعني: أفضل من مائة ألف صلاة ـ إنما يختص في المسجد الذي فيه الكعبة دون غيره من مساجد مكة وبقاعها؛ لأن الله تعالى قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]، وقد أُسري بالنبي ـ  صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الحجر الذي هو جزء من الكعبة، وفي صحيح مسلم عن ميمونة زوج النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنها سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «عن المسجد النبوي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة» فخصَّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مسجد الكعبة دون غيره؛ ولأن مسجد الكعبة هو الذي تُشدُّ إليه الرحال فإن الرحال لا تُشَدُّ إلى مساجد مكة سوى مسجد الكعبة؛ ومن أجل ذلك صار هو المتميز بهذا الفضل، ولكن لا شك أن الصلاة في مساجد مكة بل في الحرم كله أفضل من الصلاة في الحل ودليل ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما نزل الحديبية وكان بعضها من الحل وبعضها من الحرم نزل في الحل ولكنه كان يدخل إلى الحرم أي: إلى ما داخل حدود الحرم؛ من أجل أن يصلي فيه.

 

أيها الإخوة، إنني أوجه الخطاب إلى هؤلاء المسافرين الذين يسافرون إلى الحرمين أن يخلصوا النية لله عزَّ وجلَّ، وأن يحرصوا على تطبيق سنة الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ واتباع هديه فإن العبادة لن تكون صحيحة ولا مقبولة حتى تبنى على هذين الأساسين الإخلاص لله عزَّ وجلَّ و المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليحرصوا على الصلاة في أوقاته يصلون قصراً من حين خروجهم من بلدهم إلى أن يرجعوا إليه، إلا أن يصلوا خلف إمام يتم الصلاة فإنه يلزمهم الإتمام سواء أدركوا الصلاة من أولها أو من أثنائها، لعموم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» وقوله: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»، وإذا كان المسافر في بلد لزمه حضور الجماعة؛ لأن الجماعة لا تسقط عن المسافرين خلافاً لمن ظن أن المسافر لا تلزمه الجماعة، والدليل على أن الجماعة واجبة على المسافرين كما هي واجبة على المقيمين الدليل على ذلك قول الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء:102]، فأوجب الله عزَّ وجلَّ الجماعة في الحرب في الخوف، ومعلوم أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان في غزواته مسافراًً فدل ذلك على أن صلاة الجماعة لا تسقط عن المسافر، أما الجمع للمسافر فإن كان سائراً فالجمع أفضل من تركه، فيجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء إما جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر له، أما إن كان نازلاً فترك الجمع أفضل ولو جمع فلا حرج، فإذا وصل الإنسان إلى الميقات أو حاذاه إن كان في الطائرة فليحرم ـ أي، ينوي الدخول في النسك ـ والأفضل أن يغتسل في الميقات، فإذا وصل إلى مكة بادر بأداء العمرة وطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام إن تيسر له ذلك وإلا في أي مكان من المسجد ثم يسعى بين الصفا والمروة، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، وإذا دنا من الصفا -إذا خرج من المسجد الحرام- إذا دنا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158]، ولا تقرأ هذه الآية بعد ذلك خلافاً لما يفهمه بعض العوام يقرؤونها عند الصفا وعند المروة وفي كل شوط فإن هذا لم يرد عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وإنما قرأها حين دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ابدأ بما بدأ الله به استشعاراً بأنه يسعى امتثالا لأمر الله تعالى وإقامة لشعائره، أما بعد ذلك في الشوط الثاني والثالث والرابع وعند المروة فإنها لا تقرأ هذه الآية، ومن المعلوم أن الإنسان يبدأ بالصفا في السعي ويختم بالمروة، وأن السعي سبعة أشواط كلما ذهب من الصفا إلى المروة فهذا شوط وإذا رجع من المروة إلى الصفا فهذا هو الشوط الثاني، وبعد ذلك يحلق أو يقصر رأسه: ويكون التقصير شاملا لجميع الرأس لا لجهة واحدة منه،بل لابد أن يقصر من جميع ما يمسحه إذا توضَّأ، ثم إذا كان الإنسان من نيته أن يخرج من مكة من حين انقضاء عمرته كفاه الطواف الأول ولا حاجة أن يعيد طوافاً للوداع، أما إن مكث في مكة فلا يخرج حتى يطوف للوداع لعموم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» وهذا قاله في حج الوداع، وقال ليعلى بن أمية: «اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك»، فالأصل أن ما يفعله الإنسان في الحج يفعله في العمرة إلا ما قام الدليل على أنه لا يفعل كالوقوف بعرفة ومزدلفة والمبيت بمنى ورمي الجمار، المهم أن مَن تأخر من المعتمرين فإنه لا يخرج حتى يطوف للوداع، وإذا كانت المرأة حائضاً عند الوصول إلى الميقات فإن كانت ترجو أن تطهر قبل رجوعهم من مكة فإنها تغتسل وتنوي الدخول في النسك ولكن لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر، وإن كانت لا ترجو أن تطهر قبل رجوعهم من مكة فلا حرج عليها أن تترك الإحرام ولا تعتمر؛ لأن العمرة إنما تجب مرة واحدة في العمر، ولكن إن قُّدر أنها طهرت قبل أن يرجع أهلها فإنها تخرج إلى التنعيم فتحرم بالعمرة كما فعلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

 

أما في المدينة فالصلاة في المسجد النبوي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام مسجد الكعبة، فيصلي الإنسان في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يصلي فيه ما أحب، واعلموا أن المسجد يشمل جميع ما كان داخلاً في حدوده حتى الزيادات التي زيدت فيه فإنها من المسجد كما فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لما زاد عثمان ـ رضي الله عنه ـ في المسجد النبوي زيادة من جهة القبلة صار الناس يصلون في هذه الزيادة ويعتبرونها من مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلو زيدَ في المسجد النبوي مهما زيد فإنه يكون من المسجد والصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام مسجد الكعبة، ثم بعد هذا يزور قبر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يزوره فيقف، يقف مستقبلاً القبر ولو كانت القبلة خلفه فيسلم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأفضل سلام يقوله الإنسان ما علَّمه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أمته يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يتجاوز قليلا خطوة واحدة عن يمينه ليكون تجاه أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فيسلم عليه يقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله، ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون تجاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، هكذا كان عبد الله بن عمرـ رضي الله عنهما ـ يسلم، وهذا أفضل من الوقوف والدعاء طويلا، ولكنه لو وقف ودعى وصلَّى على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد السلام وترضى عن أبي بكر وعمر فإن هذا لا بأس به، ولكن ينبغي أن نعلم أن المرأة لا تزور قبر النبي ولا قبر صاحبيه ولا تزور البقيع ولا تزور شهداء أحد؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لعن زائرات القبور، وإذا أراد الإنسان أن يكمل الأشواط في المدينة فليخرج إلى مسجد قباء من بيته متطهراً ويصلي فيه ركعتين أو ما شاء الله؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يخرج إلى مسجد قباء كل يوم سبت ماشياً أو راكباً فيصلي فيه، وإذا أحب أن يزور البقيع فليفعل فإن زيارة القبور مسنونة للرجال، فليزر البقيع وليسلم عليهم بما كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يسلم عليهم به: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، وإذا شاء أن يزور قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وهو معروف في البقيع فليذهب إليه وليسلم عليه كما سلم على أبي بكر وعمرـ رضي الله عنهم ـ أجمعين، وإذا شاء أن يخرج إلى أُحد ليزور قبور الشهداء هناك ويقول عندهم ما قال عند البقيع فإن هذا خير، وليس هناك أشياء تزار في المدينة سوى هذه المواضع: المسجد النبوي، مسجد قباء، البقيع شهداء أحد .

 

أيها الإخوة، هذان صنفان من الناس في قضاء الإجازة: الصنف الأول: مَن يبقى في بلده، والثاني: مَن يذهب إلى مكة والمدينة أو إلى بلاد أخرى، أما الصنف الثالث: فهو من يقضي هذه الإجازة بالرحلات إلى البر للأنس مع إخوانه وإذهاب الملل والكلل عنهم وهذا من الأمور الجائزة، ولكني أوجه الخطاب إلى هؤلاء بالأمور التالية:

 

أولاً: أن تكون الرفقة على سن متقارب، فإنهم إذا كانوا على فارق بيّن في السن لا يحصل بينهم التئام وتناسق لتفاوت ما بينهم في المستوى العقلي والفكري والعلمي والبدني فيكون الضعفاء عالة على الكبار وربما أدى ذلك إلى مفاسد وانحدار في الأخلاق.

 

ثانياً: أن يحرصوا على أداء الواجبات الشرعية كالطهارة بالماء والصلاة جماعة في أوقاتها، فيتوضئوا من الحدث الأصغر ويغتسلوا من الحدث الأكبر كالجنابة، وينبغي أن يتخذوا مكاناً خاصاً لقضاء الحاجة والاستنجاء يكون مستوراً ومكاناً آخر خاصاً ساتراً مصوناً من عواصف الرياح للاغتسال، وأن يخصصوا خيمة للصلاة فيها ويحسن أن يجعلوا فيها مصاحفاً وكتباً لمن أراد قراءة القرآن أو المطالعة.

 

ثالثاً: أن يتأدبوا بالآداب الشرعية عند نزول المنزل والأكل والشرب فيقولوا إذا نزلوا منزلاً: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» فإن من قالها عند نزوله «لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله»، وأن يسموا الله عند الأكل والشرب، ويحمدوه إذا فرغوا من الأكل والشرب، وألا يحملهم البطر والأشر على امتهان النعمة والسخرية بها كما يفعله بعض السفهاء.

 

رابعاً: أن يتحاشوا ما يخل بالدين والأخلاق، فلا يستمعوا إلى الأغاني المحرمة، ولا يتلفظوا بالألفاظ البذيئة أو الساقطة، ولا يأتوا بحركات بينهم لا تليق بالمؤمن الرجل العاقل، ولا حرج أن يترفهوا بالمسابقة على الأقدام أو المصارعة أو اللعب بكرة القدم أحياناً بشرط ألا تشغلهم عن واجب، وأن يكون عليهم سراويل تستر ما بين السرة والركبة، وألا يأتوا بكلمات نابية عند الغالبية أو المغلوبية.

 

خامساً: أن يجعلوا عليهم أميراً يحرصون على أن يكون من أدينهم وأفهمهم وأعقلهم؛ من أجل أن يرتب أمورهم وينزل كل إنسان فيما يليق به من عمل الرحلة وليكن الأمير قوي الشخصية؛ حتى لا يغلب على أمره، فإن بعض الناس يكون عنده من الدين والعقل ما عنده لكنه ضعيف الشخصية فيغلب على أمره، ولكن لا حرج إذا كان الإنسان قيم الدين وافر العقل لكنه ضعيف الشخصية لا حرج عليه أن يستعين بنائب أو وزير يكون قوي الشخصية؛ لتجتمع الأمانة والقوة، فإن خير من استأجرت القوي الأمين.

 

أما الصنف الرابع ممن يقضي هذه الإجازات بالسفر إلى الخارج إلى بلاد دمرت بالكفرـ كما أشرت إليه أولاـ بالكفر والمجون ومسكرات العقول ومفسدات القلوب فإن هذا سيرجع خاسراً، سيرجع متلوثاً بهذه الأعمال ناقص الإيمان، وربما يفقد إيمانه وربما يسلب عقله بما افتتن به فيكون ممن بدلوا نعمة الله كفراً واستعانوا بما أعطاهم الله من المال على معصيته فخسر الدين والدنيا، فليحذر العاقل اللبيب أن يكون من هذا الصنف، وليعلم أن هؤلاء وإن نعموا أبدانهم بما نالوا من الترف فقد أتلفوا أرواحهم وفقدوا راحتهم القلبية بما يحصل لهم من التعب الفكري والقلق النفسي، إلا أن يكون قد طبع على قلوبهم فإن من طبع الله على قلبه لا يفقه ولا يشعر بالخسارة ؛ لأنه أعمى والأعمى لا يبصر الشمس.

 

أيها الإخوة المؤمنون، إني أختم خطبتي هذه بما وجهه الله إلى عباده المؤمنين في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172]، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيننا جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك، اللهم اجعلنا هداة مهتدين صالحين مصلحين قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها يوم يلاقيه، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، أرسله الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق والرحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون، فإننا اليوم يوم الجمعة في اليوم الثاني أو الثالث من شهر شعبان بين رجب ورمضان، وهو شهر تكثر فيه الغفلة من الناس كما جاء ذلك في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر الصوم فيه «فكان يصومه إلا قليلاً» وربما صامه كله، وعلل ذلك في الحديث الذي يروى عنه أنه شهر يغفل فيه الناس بين رجب ورمضان، وعلله بعض العلماء بعلة ثانية وقال: إن صومه بمنزلة الراتبة للفريضة للصلوات فهو راتبة شهر رمضان، كما أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان راتبة رمضان البعدية وهذا التعليل ليس ببعيد، فمن كان منكم قادراً ولم يشغله الصوم عما هو أهم منه فليصم الكثير منه إقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وتحصيلا للثواب والأجر فإن الله ـ تعالى ـ قال في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي»، فمن لديه قدرة ولا يشغله الصوم عما هو أهم منه فليصم لهذا السبب اقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحصيلا للثواب والأجر، ولا سيما في مثل هذا العام الذي صادف شهر شعبان قصر النهار وبرودة الجو، فإن الصيام فيه يكون سهلا، نسأل الله أن ييسِّر لنا ولكم الأمور والسبل إلى جنات النعيم، إنه على كل شيء قدير.

 

أيها الإخوة، ذكرنا في الخطبة الأولى أن على الخارجين في الرحلات أن يتوضؤوا بالماء ويغتسلوا بالماء، ولكن إذا كان الجو بارداً ولم يكن لديهم ما يسخنون به الماء وخاف الإنسان على نفسه إذا اغتسل، له أن يتيمم، ولكن متى قدر على الاغتسال فإنه يجب أن يغتسل؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة: 6]، وأرسل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عمرو بن العاص فأصابته جنابة وهو في السفر فتيمم وصلى بأصحابه فلما رجعوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأخبروه الخبر قال لعمرو بن العاص: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقال: يا رسول الله، ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء:29]، وكانت الليلة باردة فتيمم رضي الله عنه، فلما قال للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ ضحك النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إقراراً لعمرو بن العاص على ما فعل وعلى ما استنبط من كلام الله عزَّ وجلَّ، وإنني بهذه المناسبة أقول: إن كتاب الله عزَّ وجلَّ ـ ولله الحمد ـ بين أيدينا يقرأه منا الصغير والكبير، فيا حبذا لو أن الناس إذا أشكلت عليهم الأمور رجعوا أولًا إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن لم يجدوه فإلى السنة النبوية، فإن لم يجدوا ذلك فإلى كتب أهل العلم، وأخص بذلك طلبة العلم، أما العامي فإنه إذا رجع إلى الكتاب والسنة فقد يفهم القرآن على غير وجهه ولكن ليسأل أهل العلم، لكني أحث طلبة العلم أن يرجعوا أول ما يرجعون في استبانة الأحكام الشرعية إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ، وإنني أحياناً أطلب حكم المسألة في كلام الفقهاء فلا أجدها ثم أرجع إلى القرآن أو السنة فأجدها واضحة فيه؛ وذلك لأن القرآن والسنة قال الله ـ تعالى ـ فيهما لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]، أي: يبين كل شيء يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولكن بيان القرآن على نوعين، الأول: أن تكون المسألة بعينها مذكورة في كتاب الله، والثاني: أن تكون المسألة في السنة والقرآن أحال على السنة، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم يعظم الله بها لكم أجراً وتمتثلون بذلك أمر الله عزَّ وجلَّ في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته، اللهم ارزقنا محبته، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته تحت لوائه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي هم أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم من قام بأمر يريد به أن تكون كلمتك هي العليا اللهم فانصره على من عاداه، اللهم كن له مؤيداً وله ناصراً وله معزًّا يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم دمر الصرب، اللهم ارددهم على أعقابهم ومن عاونهم من الكروات يا رب العالمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أرنا بهم ما يسرنا يا رب العالمين، اللهم فرج عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم قوِّ قلوبهم، اللهم يسِّر أمورهم، اللهم اغفر لموتاهم، اللهم سدِّدْ خطى أحيائهم يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.

 

أيها الإخوة المسلمون، تعلمون أننا فقراء إلى الله كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، وأن المطر في هذا العام تأخر عن وقته المعتاد وما ذاك والله إلا بسبب ذنوبنا كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، ليذيقهم بعض الذي عملوا لا كل الذي عملوا؛ لأن الله ـ تعالى ـ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يجازي ببعض ما عملنا لعلنا نرجع إلى ربنا فنسأل الله ـ تعالى ـ قلوباً واعية معتبرة بما يحصل من آيات الله، أيها المسلمون ولا ملجأ للإنسان إلا ربه جلَّ وعلا، فأكثروا ـ أيها الإخوة ـ من دعاء الغيث في صلواتكم وفي خلواتكم، أكثروا من ذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في كتابه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60]، وإن الإنسان إذا رفع يديه إلى ربه فإن الله يستحيي أن يردهما صفراً لا بد أن يجيبه أو يكشف عنه من السوء ما هو أعظم أو يدخر ذلك له عنده يوم القيامة، ولقد كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يستسقي على المنبر يوم الجمعة وربما استسقى في غير هذا المكان وربما خرج بالناس إلى المصلى فاستسقى هناك ، اللهم إنا نسألك أن تغيثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث والرحمة ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلا ولا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم اسقنا غيثا تحيي به البلاد، وتنفع به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد يا رب العالمين، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت قوةً لنا وبلاغاً إلى حين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.