يعترف الباحثون اليوم بصعوبة الوقوف على تعريف موحد للإبداع، ولعل أول أوجه هذه الصعوبة تكمن في درجة التعقيد التي ينطوي عليها الإبداع، مما دفع "ماكينون" للاعتراف بأن الإبداع لا يمكن وصفه بتعريف محدد على اعتبار أنه ظاهرة متكاملة ذات وجوه متعددة. إلا أن معظم الباحثين يذهبون إلى عدّه ضربا مفارقا من ضروب الذكاء، إذ يتطلب الإبداع في أبسط أشكاله نوعا من تجاوز المألوف. فإذا كان الذكاء يعرف بأنه القدرة على حل المشكلات، فإن الإبداع يتجاوز هذه القدرة إلى قدرة أخرى ترقى إلى استبصار طرق ومناهج جديدة في إيجاد الحلول على نحو غير معروف من قبل. كما وضع البعض شروطا أخرى للتفكير الإبداعي، ومنها أن يتضمن هذا التفكير قدرا كبيرا من الدافعية والحماس لتحقيق الأهداف، وإيمانا عميقا بجدواها العملية. من جهة أخرى، فإن الإبداع لا يقتصر فقط على مجال واحد من مجالات التفكير، بل يتعداه أيضا إلى مجالات الفن والموسيقى والجمال التخيلي، إذ يتميز المبدعون عادة برهافة الحس، والقدرة على الإدراك العميق لكل ما يدور من حولهم. اشتغل الباحثون منذ القدم بمحاولة الكشف عن مواطن الإبداع والعوامل المكونة له، وتباينت وجهات النظر إلى حد كبير، فذهب فريق منهم إلى ربط الإبداع بالوراثة، كما فعل أفلاطون عندما قسم المجتمع إلى طبقات تتوارث أدوارها بين الحكماء والمحاربين والعمال والعبيد، وإن كان قد سعى لحل مشكلة بروز بعض الحالات الإبداعية في الطبقات الدنيا بعدّها طفرات شاذة تجب إعادتها إلى زمرة الأطفال الموهوبين الذين أوكل إلى الحكماء مسؤولية إعدادهم في "الجمهورية". وقد تبلورت هذه النظرية فيما بعد لتصل إلى نوع من التطرف على يد عالم النفس البريطاني "سيريل بيرت" (توفي عام 1971) والذي أوصى بعزل الطبقات الفقيرة ذات السلالات غير الأصيلة - من وجهة نظره- على اعتبار أن مشكلة الفقر في بلاده لا يمكن حلها إلا بالحد من نسل طبقات العمال والأقليات العاجزة عن اللحاق بركب الحضارة، وكانت هذه الدعوى التي قامت على دراسات غير دقيقة مجرد استجابة للحمى العنصرية التي سادت على نحو مرضي في الغرب آنذاك، وإلى الحد الذي دفع الكثير من علماء الأنثربولوجيا إلى ربط الذكاء بحجم المخ وملامح الوجه، فشاعت على سبيل المثال مقولة التمييز بين الرجل والمرأة على أساس زيادة وزن مخ الرجل عن مخ المرأة بحوالي خمس أواق، في الوقت الذي يرى المعارضون أن هذا الفرق في الوزن يمكن فهمه بالنظر إلى نسبة وزن المخ إلى وزن الجسد في حدوده الطبيعية، كما تشير الدراسات الحديثة إلى ربط الذكاء بعوامل أخرى ومنها التركيب الداخلي للدماغ بدلا من الحجم والوزن. من جهة أخرى، وكرد فعل على هذه النظرية المجحفة برزت دراسات أخرى تعطي البيئة دورا جوهريا في تحديد القدرات الإبداعية لدى الطفل، إلى الحد الذي جعل البعض يعدّها العامل الوحيد المكون للذكاء، فقد أعلن "واتسون" أن التربية والبيئة الثقافية هما المؤثران الوحيدان في قدرة المرء على الإبداع، ويمثل لذلك بقوله: "أعطني اثني عشر طفلا سليما ومعافى مع ظروف بيئية مناسبة لأؤكد لك أنهم قادرون بمحض إرادتهم على تحقيق طموحهم، وستجد فيهم الطبيب والمحامي والفنان والتاجر والقائد وحتى اللص والمتسول، وذلك بغض النظر عن ميولهم واستعداداتهم الفطرية أو مورثاتهم". ويكاد يكون من الشائع كثيرا بين الناس اليوم الاعتقاد بأن الإبداع يبدأ في المراحل المبكرة من الحياة، وأن الأشخاص المبدعين يُخلقون وفي فطرتهم مواهب الإبداع الكامنة، مما يجعلهم يؤمنون بأن الشخص الذي لا تتفتق مواهبه في الصغر فإن قطار النجاح والتميز قد فاته، مما يؤدي لإحباط الكثيرين ومنعهم حتى من مجرد الحلم بتحقيق طموحهم، وقد تزداد خطورة هذا الاعتقاد إذا ما تسربل بثوب العلم. إن شيوع هذا الاعتقاد خطير جدا، ويمكن اعتباره مسئولا عن هدر الكثير من الطاقات التي كان من الممكن استغلالها والإفادة منها على المستويين الفردي والجماعي، فعلى الرغم من أننا لا ننكر دور الموهبة الفطرية في إبداع الفرد، إلا أن الحقائق العلمية تؤكد أن احتمال ظهور المواهب في سن متأخرة لا يقل عن ظهورها في سن الطفولة، بل إن الكثير من الباحثين المعاصرين يجزمون بأن المواهب لا توجد بالفطرة، بل تعود بالأصل للتدريب والتعليم، فهي قابلة للإنشاء والبناء في حال توفر الظروف الملائمة والرغبة الكافية، وقد أشار "أوزبورن" إلى ذلك بتأكيده على أن البحث العلمي قد أثبت بأن الاستعدادات المبدعة يمكن أن يتم تكوينها تماما كما يتم تطويرها، إذ تتجه الأنظار حاليا نحو تكوين هذه الاستعدادات بدلا من الكشف عنها. إزاء ذلك، وفي محاولة للجمع بين مختلف وجهات النظر التي تترواح بين أثر المورثات وبين دور البيئة والتربية يشير "ألكساندرو روشكا" إلى أن الاهتمام بدور البيئة والتربية لا يعني تجاهل دور المورثات على الإطلاق، إذ تؤكد الدراسات وجود الكثير من الحالات الإبداعية لدى الأطفال في سن مبكرة جدا وقبل بداية ظهور أي تأثير للبيئة من حولهم، ولكنه لم يثبُت حتى الآن القول بوجود جينات وراثية مسئولة عن كل استعداد فطري يمكن اكتشافه. وعليه فإن العملية التربوية الصحيحة تكون قادرة على الكشف عن الاستعدادات الخاصة لدى الطفل بسرعة كبيرة، تماما كما تقوم بإنشائها وتكوينها في حال وجود الرغبة النفسية تجاهها. ويمكن القول بأن الجمع بين كل من العوامل الفطرية والرغبة النفسية المزاجية والظروف التربوية والاجتماعية السليمة، يؤدي في النهاية إلى إنجازات باهرة على أعلى المستويات. وهكذا، فإننا حتى في حال تسليمنا بأن المواهب تُخلق فطريا لدى الإنسان، فإنه من الصعب التسليم بحتمية ظهورها في السنوات الأولى من العمر، لاحتمال وجود الكثير من العوائق الاجتماعية، مما يجعل من الممكن اكتشافها في سن متأخرة، وقد يحدث ذلك عن طريق المصادفة كما تدل حوادث كثيرة وشهيرة، ونذكر منها تفجر موهبة الشعر عند النابغة الذبياني في سن الأربعين مما دفع قومه لتسميته بالنابغة، ثم تسليمه راية التحكيم في سوق عكاظ للحكم على فطاحل الشعراء في الجاهلية، كما نذكر المفكر المعاصر يوسف مراد الذي ترك عالم الفكر والفلسفة في سن الستين بعد أن اكتشف موهبته في الرسم، وكذلك الطبيب العربي جورج دوما الذي انسلّ من عالم الطب ليدخل صراعات الفكر والأدب في سن متأخرة أيضا، ومن خارج العالم العربي نجد في تشايكوفسكي مثالا جيدا، فقد اكتشف موهبته في الموسيقى وهو في سن التاسعة عشرة، وهذا أمر نادر بالنسبة للموسيقيين، ونذكر أيضا الكاتب المسرحي ألكساندر دوما الذي لم يدرك موهبته في الكتابة إلا في سن متأخرة وتحت ضغط سوء المعيشة، أما الكاتبة التشيلية الشهيرة إيزابيل اليندي فلم تكتب روايتها (بيت الأرواح) إلا في عمر يناهز الأربعين، مما جعلها تتردد كثيرا في عرضها على المقربين منها خشية أن تتلقى بعض ردود الفعل المحبطة، ولكنها سرعان ما أتبعت نجاح روايتها تلك بعدد من الإبداعات التي أذاعت شهرتها في الآفاق، وحولتها إلى بطلة قومية يعتز بها الشعب التشيلي. بالرغم من ذلك، فإن معظم الحالات الإبداعية المعروفة كانت قد بدأت في الظهور في سن مبكرة، إذ بدأ بيكاسو بالرسم قبل أن يتعلم الكلام، وكان موتزارت يؤلف الموسيقى في سن الخامسة، أما إنجليكا كاوفمان فتفجرت موهبتها في الرسم مبكرا مما أتاح لها الفرصة لرسم صور شخصية للأساقفة والنبلاء وهي في الثانية عشرة من عمرها، كما بدأ جون لوك بالتفلسف في سن الرابعة عشرة، وبحث أرسطو في سرعة السقوط الحر وهو في التاسعة عشرة من عمره، وفاقت شهرة ابن سينا في الطب شهرة معظم أطباء عصره وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، وحصل الفيزيائي الفرنسي لافوازيه على تكريمه الأول عندما منحته حكومة بلاده الميدالية الذهبية لجهوده في اقتراح أفضل طريقة لإنارة الشوارع وهو في سن الواحدة والعشرين، والتحق الفيلسوف ليبنتز بالجامعة في سن الخامسة عشرة وأحرز الدكتوراه في سن العشرين. أما علاقة السن بذروة النتاج الإبداعي، فقد اهتم بها "جورج بيرد" عندما قام في أواخر القرن التاسع عشر بدراسة ما يربو على ألف سيرة شخصية للمشاهير، فوجد أن معظم نتاجهم الإبداعي قد ظهر في الفترة الواقعة ما بين سن الثلاثين والخامسة والأربعين، كما استنتج بيرد أن الإبداع يرتبط بعاملين أساسيين هما الحماس والخبرة، وأثبت أن الحماس يبدأ في السنوات الأولى للشباب، ويخفت مع تقدم العمر، أما الخبرة فتتكون بشكل تراكمي مع التقدم في السن، وقد وجد أن التوازن المثالي بين هذين العاملين يحدث فيما بين الثامنة والثلاثين والأربعين، وأن العمل الناتج في الفترة السابقة لهذا السن يكون أكثر جدة وطرافة، بينما يميل الناتج الإبداعي فيما بعده للرتابة والنضج. إذن فقد أصبح من الممكن القول بأن الإبداع يبدأ في التكون منذ السنوات الأولى من عمر الطفل، إذ يملك الإنسان عادة الاستعدادات الأولية لمواهبه التي تحتاج إلى التدريب والتطوير كي تؤتي ثمارها وإلا ذهبت أدراج الرياح. وفي الوقت نفسه فإنه من الخطأ القول بأن الإبداع محكوم بالسنوات الأولى من العمر، إذ لا يبعد أن تبقى كوامن الإبداع دفينة إلى سن متأخرة وهي تنتظر فرصة ظهورها. ويتناقل التربويون اليوم مقولة مفادها أن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال في المرحلة الواقعة بين سن الولادة والسنة الخامسة من أعمارهم تبلغ حوالي 90% ، وأن هذه النسبة تنخفض إلى 10% في سن السابعة، ثم تنحدر إلى 2% فقط في سن الثامنة. ولا شك في أن هذه الأرقام تعطي مؤشرا يدعو للأسى في بلادنا التي تفتقر إلى أهم مكونات الحضارة في العصر الحديث، ألا وهي رأس المال البشري. الذكاء والإبداع مع بداية القرن العشرين، كان الاعتقاد سائدا بأن الذكاء المحدد عبر اختبارات الذكاء لا يختلف عن الإبداع في شيء، ولكن دراسات "تيرمان" في عشرينات العقد الماضي فتحت الباب أمام عدد من الدراسات الأخرى التي أدت إلى التفريق بين كل من المبدعين والأشخاص الذين يوصفون فقط بأنهم أذكياء، إذ ثبت أن الإبداع لا يشترط ذكاء تزيد درجته في اختبارات الذكاء على 130 درجة (والتي تعني نتيجة ضرب حاصل قسمة العمر العقلي على العمر الحقيقي في مئة)، بل إن زيادة درجة الذكاء عن هذا الحد قد تؤدي إلى قلة المرونة في تقبل الآراء المخالفة، والتمسك بالقناعات الخاصة، وهذا يتنافى بطبيعة الحال مع أهم شروط الإبداع، والذي يحتاج إلى قابلية كبيرة للتغيير والتبديل، والتفكير بحلول جديدة تتنافى مع ما هو مألوف حتى لو كان ذلك مناقضا أحيانا لقناعات المبدع نفسه ما دام الحل الناتج يعطي إجابة وافية. ولعل من أهم الدراسات التي بحثت في الفارق بين الذكاء والإبداع، هي تلك التي قامت بها "كاترين كوكس" في عام 1926، والتي درست فيها السير الشخصية لـ 301 شخصية تاريخية من العباقرة الذين ولدوا منذ عام 1450، وعلى الرغم من أن نتائج دراستها قد أثبتت أن معظم أولئك العباقرة كانوا يتمتعون بدرجة ذكاء عالية، إذ كان متوسط الذكاء لهذه المجموعة يقترب من 165، إلا أن الكثير من العباقرة المتميزين الذين يفوقون الآخرين شهرة وإبداعا كانت درجات ذكائهم تتراوح بين (100 و 130)، الأمر الذي أكد فيما بعد مقولة التمييز بين ظاهرة الإبداع والذكاء المرتفع. من جهة أخرى، فإن الموهوبين من ذوي معدلات الذكاء المرتفعة جدا يعانون عادة من صعوبات كبيرة في التكيف الاجتماعي، وتبرز هذه الظاهرة بشكل أكثر وضوحا في المجتمعات المتخلفة، على الرغم من وجودها أيضا في المجتمعات الأكثر تقدما. فقد أثبتت دراسات كل من غولدبرغ ورالف في الستينات أن الفشل الدراسي لدى آلاف الطلاب المراهقين من الجنسين قد يعود في كثير من الأحيان إلى حالات استثنائية من الذكاء غير العادي، ويقول ريمي شوفان: إن الأطفال الذين تتجاوز درجات ذكائهم معدلا قدره 180 درجة، غالبا ما يعانون من مشكلات اجتماعية صعبة قد تضطرهم إلى الانسحاب من المدرسة في وقت مبكر. في الوقت الذي يظهر فيه الطلاب الأذكياء ذوي معدل الذكاء الأعلى من الوسط بقليل (ما بين 140 و 150 درجة) قدرة أكبر على التكيف الاجتماعي، ويتمتعون بمواهب قيادية تمكنهم من الاتصال مع الآخرين بفاعلية كبيرة. وعلاوة على ذلك، فإن الموهوبين من أصحاب الذكاء الخارق يعانون منذ الصغر من شعور دائم بالقلق والعزلة، ويميلون غالبا إلى الانطواء على الذات وإشباع نهمهم في القراءة والمهارات اليدوية، ويبدون تعنتا كبيرا في الانصياع للأوامر من كبار السن، لشعورهم بالاستقلال والتميز، كما أن التجاوزات اللاأخلاقية ومظاهر الانحلال وضعف الضمائر التي تصادفهم في المجتمع قد تطغى على قدرتهم على الصمت، مما يزيد من شعورهم بالغربة والرغبة في الانطواء. إن هذه الحساسية العالية لدى الأشخاص الموهوبين تقلل كثيرا من شعبيتهم، وتزيد من رفض مجتمعاتهم لهم، فضلا عن صعوبة فهمهم من قبل الآخرين، وقد يؤدي سوء الفهم أيضا إلى شكل مؤسف من أشكال الرفض وحتى الاضطهاد، وغالبا ما يعاني الأطفال ذوي النبوغ النادر من رفض بقية الأطفال لإقامة العلاقات معهم لغرابة أطوارهم وذكائهم الخارق. وينصح المختصون في هذه الحالة بضرورة توخي الحذر الشديد في رعاية هؤلاء الأطفال، وتأمين الوسط الاجتماعي المناسب لمواهبهم ضمن مدارس ونواد خاصة بهم، إذ من الصعب حقا تصور انخراط أطفال في العاشرة من عمرهم وهم يتمتعون بذكاء يقارب مستوى خريجي الجامعات مع بقية الأطفال العاديين، كما أن محاولة هؤلاء الأطفال لإقامة العلاقات مع اليافعين الذين يكبرونهم سنا لا بد وأن تلقى الرفض من قبل هؤلاء الآخرين الذين غالبا ما يواجهون أولئك النوابغ الصغار بشيء من الحسد والازدراء. الإبداع والمدرسة يخطئ الكثير من الآباء والأمهات في ربطهم بين النجاح المدرسي والإبداع، إذ كثيرا ما يفشل الأطفال الموهوبون دراسيا. ويذكر لنا التاريخ حالات كثيرة من فشل العظماء في دراستهم، فمن العلماء نجد أديسون وأينشتاين وباستور ونيوتن، كما نجد من رجال الأدب تولستوي وبالزاك وزولا، وحتى الفنانون مثل فان غوخ وغوغان اللذين لم تكن نتائجهما في الرسم جيدة فضلا عن المواد الدراسية الأخرى! إن دراسة هذه الظاهرة ليست بالأمر السهل على الإطلاق، إذ يتوجب علينا أولا دراسة كافة جوانب العملية التعليمية قبل الحكم على فشلها، فقد يعزى سبب الفشل الدراسي للطفل المبدع إلى الظروف المعيشية القاسية التي يعيشها، وقد يعود أيضا إلى سوء وضع المدرسة والمدرسين، كما يحتمل في حالات كثيرة أن يكون اهتمام الطفل الموهوب أو المبدع منصبا على مجالات أخرى لا تعطيها المدرسة الاهتمام الكافي، إذ يمكن أن ينبغ الطفل في مجالات نادرة كالموسيقى والشعر، في الوقت الذي يركز فيه النظام التعليمي على المواد العلمية البحتة، مما يعني ضياع هذه الموهبة وإلزام الطفل بحفظ كم هائل من المعلومات دون أن تعود عليه بالنفع في حياته العملية. علاوة على ذلك، يتمتع الطفل الموهوب غالبا بحس مرهف وحاجة كبيرة للرعاية، إذ يعتقد "تورنس" أن السبب الأول في انطفاء هؤلاء الأطفال المبدعين يعود إلى قلة اهتمام مدرسيهم بهم ومعاملتهم بشكل أقرب إلى الاضطهاد، ولعل ذلك يعود كما أسلفنا إلى غرابة طباع هؤلاء الأطفال ومفارقة تفكيرهم، فضلا عن صعوبة انصياعهم للأوامر. وقد يزداد الأمر سوءا عندما يكون المدرسون على جهل تام بحاجات أولئك الأطفال وتطلعاتهم، كما يحدث غالبا في مدارس الدول النامية التي لا تهتم كثيرا بتأهيل معلميها من الناحية التربوية، مما يدفع هؤلاء المدرسين للنظر إلى تميز تلاميذهم المبدعين على أنه شذوذ يحتاج إلى إصلاح أكثر منه إلى الرعاية والاحتفاء! في المقابل، أثبت "وات" في ستينات القرن الماضي سرعة استجابة هؤلاء الأطفال لظروف الرعاية التي يحتاجونها، إذ عمل على البحث عن أطفال موهوبين بين عائلات الزنوج الذين يأوون إلى بيوت من الصفيح خارج المدن الأمريكية الكبرى، ثم قام باختيار ستة عشر طفلا من هذا الوسط، ممن يُبدون مواهب خاصة في مجالات متعددة من العلم والأدب والفن والموسيقا. وعلى الرغم من تشكك مدرسيهم في البداية من جدوى تعليمهم، إلا أنهم سرعان ما فجروا طاقاتهم الإبداعية بعد أن اطمأنوا إلى الوسط المدرسي الجديد، وشعروا بالارتياح تجاه معلميهم الذين لم يبخلوا عليهم بكل ما يحتاجون إليه من رعاية واهتمام. كيف نكتشف الطفل الموهوب؟ على الرغم من صعوبة اكتشاف الطفل الموهوب عندما يكون قابعا في جو اعتيادي ولا يحظى بالاهتمام المطلوب، إلا أن التربوي المحترف لا بد وأن يكون قادرا على ملاحظة جوانب التميز لدى الطفل، والتي قد تتبدى في البداية في سرعة تعلم اللغات، القراءة والهجاء، المهارات اليدوية، سرعة إجراء العمليات الحسابية، أو غيرها من القدرات التي تدل كل منها على جانب معين من جوانب الإبداع، وقد ميز "جيلفورد" بين أنواع أربعة للذكاء، ثم أضيفت إليها أربعة أنواع أخرى فيما بعد، ويمكن عدها على النحو التالي: الذكاء اللغوي، الحسي- الحركي، المنطقي - الرياضي، التفاعلي- القيادي، الذاتي- التأملي، البصري- الهندسي، الحيوي- الطبيعي، وأخيرا الموسيقي. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن المختصين لم يتفقوا بعد على هذا التقسيم، أو على الربط بين الاستعداد للرسم والموسيقى وبين الذكاء. إلا أنهم يجمعون على أهمية اكتشاف هذه الاستعدادات منذ الصغر، وضرورة تنميتها بالشكل الأنسب، ويضعون لكل منها مقاييس دقيقة للكشف عنها، وبرامج أخرى لتطويرها والاستفادة منها. لقد أثبت لنا تاريخ الحضارة الإنساني أن الاهتمام المبكر بالأطفال الموهوبين لا بد وأن يعود على مجتمعهم بالكثير من الفوائد، وقد تنبه إلى ضرورة توافق عملية التعليم مع قدرات الطفل عدد من عظماء القادة والمفكرين. فبعد أن ألح أفلاطون على ضرورة عزل الأطفال الموهوبين وتنشئتهم في أجواء خاصة بهم، تم تطبيق هذه النظرية مرات عدة على أرض الواقع، إذ يذكر لنا التاريخ تجربة السلطان العثماني محمد الفاتح، والذي استفاد جيدا من تجربته الخاصة، إذ حظي باهتمام بالغ منذ نعومة أظفاره بتوجيهات من والده، مما ساعده على إطلاق مواهبه الفذة التي تنوعت بين إتقان اللغات والشعر والخط العربي، وبين القدرات القيادية والعسكرية التي وضعت اسمه في سجل عظماء التاريخ الإنساني. فقد أنشأ هذا السلطان مدرسة خاصة بالأطفال المتميزين، ووضع لروادها شروطا صعبة تتطلب التميز في الذكاء والقوة الجسدية، وقد نجحت هذه المدرسة فيما بعد بإمداد الدولة العثمانية بكفاءات إدارية عالية، كان لها دور مهم في نهضة البلاد إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وفي العصر الحديث، بدأ الاهتمام بالأطفال الموهوبين مع إنشاء المعهد القومي لرعاية الموهوبين في الولايات المتحدة عام 1957، والذي بدأ عمله برعاية أكثر من خمسين ألف طفل موهوب يمثلون عددا من الولايات الكبرى. ثم سرعان ما انتشرت فكرة رعاية الموهوبين في الدول الصناعية الكبرى، ومنها إلى الدول الاشتراكية التي تجاهلت فلسفتها في رفض مبدأ التمييز بين أفراد الشعب! دور التعليم: مع بداية القرن التاسع عشر، كانت معظم الأدبيات التربوية تركز على نوعين من التعليم، سُمي الأول بالتعليم الشكلي، وهو يهدف إلى تنمية المواهب لدى الأطفال، ودُعي الثاني بالتعليم المادي، ويقصد به حث الطالب على حفظ أكبر قدر ممكن من المعلومات. وقد نشأ صراع كبير بين أتباع هذين المنهجين طوال القرن الميلادي الماضي، ففي الوقت الذي يدعو أصحاب المدرسة الشكلية إلى ضرورة تنمية القدرات العقلية بدلا من إضاعة الوقت في حشو رؤوس التلاميذ بالمعلومات، يتساءل أنصار الفريق الآخر عن أهمية القدرات العقلية التي ينادي بها الشكليون إذا لم تكن مستندة إلى قاعدة متينة من الخبرات والمعارف، ومن ذلك تأكيد العالم الروسي "برولوف" على أن عملية تطوير القدرات العقلية لا يمكن أن تتم دون اطلاع كاف على الثروة المعرفية التي تركها لنا الأقدمون. إلا أن الدراسات الحديثة قد أثبتت أن الإمعان في حث الطالب على الاستحفاظ لا يؤدي إلى النتائج التي كانت تعول عليه في الماضي، فالكثير من المعلومات التي يمضي الطالب جل وقته في حفظها ستدخل دائرة النسيان بعد أداء الامتحان. كما ثبت خطأ الرأي القائل بأن مرحلة الطفولة يجب أن تخصص فقط للحفظ وتخزين المعلومات، مما يعني تجاهل دور العقل في تلك المرحلة المهمة على التفكير وتطوير ملكة الإبداع، حتى وإن بدا لنا هذا التفكير في شكل بدائي. وقد وضع "ماكس ورتيامر" (1880- 1942) أسس نظام التعليم الإبداعي في كتابه (التفكير المنتج) عندما لاحظ أن نظم التدريس غالبا ما تركز على التلقين الهادف إلى الحفظ بعيدا عن الفهم، مما أدى إلى ارتفاع عدد المؤيدين لمقولة صناعة ملكة الإبداع بدلا من اكتشافها، وبالتالي إلى منح نظم التعليم دورًا رئيسيًا في تخريج الأجيال المثقفة والمبدعة معا. وهو الأمر الذي يفسر تزايد اهتمام العالم المتقدم بتقنيات التعليم، وتخصيص المؤسسات التعليمية بجزء مهم من النفقات الحكومية العامة. يتلخص دور هذه النظم في تحريض قدرات الطالب على الإبداع، عبر إعادة صياغة المناهج الدراسية على هيئة مشكلات تحتاج إلى حلول، وذلك بهدف حث الطالب على التفكير والابتكار، مع توفير مفاتيح التفكير المحفزة، والتشجيع الكافي على منح الطالب الثقة التامة بالنفس. ويعلق البروفسور "هـ . ونتورث إيلدريدج" أستاذ علم الاجتماع في كلية "دارتماوث" على المقررات الحديثة في الجامعات التي تطبق هذا النظام بقوله: "يبدو أن طلاب هذا العصر أسرع تعلما وأكثر حماسة عندما يشاركون بشكل فعال جدا في إنتاج المعرفة بدلا من القراءة عن العملية، فهم يفضلون القيام بالأمور المستقبلية بدلا من دراسة ما قام به الآخرون"، ويؤكد على أهمية هذا المنهج التعليمي في العصر الحاضر بقوله: "إن ضخامة المستقبل وتعقيداته تهز عقول الطلاب وتحفزها، فهذا النظام يساعد على تأسيس نوع من التعلم الداخلي (الذاتي) لجيل يقال عنه بأن غطرسته أكبر من جهالته، مع اعترافنا بأنه يتعامل مع حقيقة لا مفر منها وتدعى بـ (صدمة المستقبل) ".