كان لابد من بذل بعض الجهد لإقناع الإيرانيين بأن الثورة المصرية ليست صدى للثورة الإسلامية، ولا هي من تجليات الصحوة الإسلامية، كما أنها ليست جزءا من المشروع الأمريكي لإقامة الشرق الأوسط الجديد. (1) طوال أكثر من ثلاثين عاما من متابعة أحداث الثورة الإسلامية، كنت أذهب إلى طهران محملا بمجموعة من الأسئلة، أطوف بها على من أعرف من صناع القرار والمطلعين على أسرار البلد، حيث كنت أواصل السؤال وهم يجيبون. لكن الأمر اختلف هذه المرة، إذ أدركت منذ اللحظة الأولى أننا تبادلنا الأدوار. حين وجدت أن لدى الإيرانيين قائمة طويلة من الأسئلة التي تنتظر الإجابة حول الذي جرى في مصر. ولم يكن السائلون من الدبلوماسيين والمثقفين فحسب، وإنما سبقهم إليها عدد من كبار المسؤولين الذين اكتشفت أنهم يتابعون ما تنشره الصحف المصرية كل صباح، ويجدون فيها ما يحيرهم بأكثر مما يجدون ما يشبع فضولهم ويفهمهم. كانت المناسبة أن معهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية قد دعا إلى ندوة ليوم واحد حول «الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية وتأثيرها على مستقبل القضية الفلسطينية»، وتحدد موعد الندوة في 15 مايو الحالي، وهي ذكرى اغتصاب فلسطين وإعلان دولة إسرائيل في عام 1948. وفي إشارة لا تخلو من دلالة فإن المعهد دعا للحديث في الندوة التي كان جمهورها من الدبلوماسيين العاملين، اثنان من مصر فقط هما الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، وكاتب هذه السطور. إلى جانب ثلاثة من الباحثين الإيرانيين، في مقدمتهم وزير الخارجية السابق السيد منوشهر متكي. وقال لي أحد السفراء الذين تولوا تنظيم الندوة إنهم اكتفوا بالمتحدثين المصريين ليس فقط للأهمية الكبرى للثورة المصرية، ولكن أيضا لإدراكهم أن مصير القضية الفلسطينية مرتبط إلى حد كبير بسلامة الموقف المصري وعافيته. مضيفا أن الاطمئنان على مصر يستصحب بالضرورة اطمئنانا على مستقبل القضية، بل ومستقبل العالم العربي بأسره. من الأمور ذات الدلالة أيضا أنه رتبت لنا إلى جانب الندوة، سلسلة من اللقاءات مع رئيس مجلس الشورى السيد علي لاريجاني، ومستشار الأمن القومي السيد سعيد جليلي، ووزير الخارجية الدكتور علي أكبر صالحي، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ووسط آسيا السفير رضا شيباني. كما رتب لنا لقاء آخر مع أساتذة وطلاب جامعة الإمام الصادق، التي تخرج نخبة العاملين في المجالين السياسي والدبلوماسي وفي كل هذه اللقاءات كانت الثورة المصرية هي موضوع الحديث من جانبنا، كما كانت وقائعها ومواقفها محور السؤال من جانبهم، ولأن كلا منا كانت له حصته من الحديث ومن السؤال، فسأعرض هنا لحصتي باختصار، تاركا للدكتور حسن نافعة أن يعرض نصيبه بالصورة التي يرتئيها. (2) قلت إن العالم العربي شهد في ستينيات القرن الماضي انتفاضة الشعوب العربية ضد المحتل الأجنبي، الإنجليزي والفرنسي، وكانت ثورة يوليو 1952 هي الشرارة الأولى في حملة انطلاق حركات التحرر التي ترددت أصداؤها في أرجاء إفريقيا. وما يحدث الآن في العالم العربي هو ثورة مماثلة، تدافع بها الشعوب عن كرامتها. إذ تقاوم الظلم والذل اللذين أنزلهما بها البديل الوطني، بعدما تحول إلى «احتلال» من نوع آخر، شوه الاستقلال وفرغه من مضمونه، حتى صار ذلك البديل عبئا على الأوطان وعقبة في طريق تقدمها. استشهدت في ذلك بقصة المرأة الجزائرية التي استشعرت الظلم والعنف بعد إعلان الاستقلال، فقالت إن الاستعمار الفرنسي استمر نحو 130 عاما ثم رحل غير مأسوف عليه، ثم تساءلت: متى ينتهي هذا الاستقلال بدوره؟ قلت أيضا إن ثمة أوجه شبه بين الثورة الإسلامية في إيران وثورة 25 يناير في مصر، كما أن هناك اختلافات عدة بينهما. فهما متشابهتان في أن كلا منهما استهدفت ليس تغيير النظام فحسب، ولكن قلب سياساته رأسا على عقب، وإن اختلفت في ذلك الوسائل. كما أن الشعب هو الذي قام بالثورة في البلدين وليس قوة سياسية أو عسكرية. كذلك فإن النظامين السابقين في كل من البلدين كانا يقفان في المعسكر الموالي للولايات المتحدة وإسرائيل وأصبحا يشكلان أهم تحديات ما بعد الثورة. ولئن كان ذلك قد أعلن في إيران إلا أنه لا يزال كامنا ومضمرا في الحالة المصرية. يتشابه البلدان أيضا في الفوضى التي شاعت في كل منهما بعد نجاح الثورة، وأخلت بنظام العمل في جميع أجهزة الدولة ومرافقها العمومية. ثم إن كلا من الثورتين كان لهما تأثيرهما الإستراتيجي على المستوى الإقليمي. فكما غيرت الولايات المتحدة الأمريكية من خطط تعاملها مع «الاتحاد السوفييتي» في أعقاب الثورة الإسلامية، حيث كانت واشنطن تعتبر إيران «كنزا إستراتيجيا» لها، فإن الوصف ذاته أطلق على علاقة الرئيس السابق ونظامه مع إسرائيل. وإذا كانت قضية فلسطين قد اعتبرت عنوانا مهما منذ إطلاق الثورة الإسلامية، فإنها تظل أحد أهم مقومات الأمن القومي المصري. (3) مواضع التمايز والاختلاف أكثر بين الثورتين. فالثورة في إيران دينية، لها رأس تمثل في الإمام الخميني، ولها مشروع واضح يقوم على فكرة ولاية الفقيه. وهي في مصر ثورة وطنية، والإسلاميون جزء منها، ثم أنها بلا رأس أو قيادة واضحة المعالم. ومشروعها لا يزال غامضا وغير متفق عليه. إن شئت الدقة فقل إن الذين قاموا بالثورة في مصر كانوا يعرفون جيدا ما يرفضونه لكنهم ليسوا على وفاق مع ما يقبلون به. ولئن اعتمدت الثورة في البلدين على الجماهير الفقيرة والعزلاء، إلا أن التباين حدث في موقف الجيش في كل منهما، إذ كان ولاؤه لنظام الشاه في إيران الأمر الذي اضطر النظام إلى الاستعاضة عنه بتشكيل حرس الثورة. أما الجيش في مصر فقد كان ولاؤه للوطن، وقد حسم خياره مبكرا حين أعلن انحيازه إلى جانب مطالب الشعب. والثورة المصرية ركزت على المطالب الوطنية الداخلية، وسكتت عن السياسة الخارجية، في حين أن الثورة الإيرانية فتحت كل الملفات منذ يومها الأول، الذي رفعت فيه شعارات الموت لأمريكا وإسرائيل (مرك بر) وأعلنت القطيعة مع الشيطان الأكبر وتابعه الأصغر، وترتب على ذلك أن البلدين ناصبا العداء للثورة الإسلامية منذ يومها الأول، في حين أنهما تصرفا بحذر ولجآ إلى الملاينة ومحاولة الاحتواء في الحالة المصرية. والثورة الإسلامية انطلقت في ظل الحرب الباردة واستفادت من التوازن بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وهو ظرف لم يتوفر للثورة المصرية، التي انطلقت في أجواء القطب الأمريكي الواحد، وفي غيبة أي توازن دولي. والثورة الإسلامية قامت في بلد يبعد آلاف الكيلومترات عن إسرائيل، بينما المصرية انطلقت في بلد ملاصق لإسرائيل، الأمر الذي كان له تأثيره على حسابات كل من البلدين. والثورة الإسلامية كان لها صداها في العالمين العربي والإسلامي. ولم تغير شيئا في واقع أنظمته رغم مضي أكثر من ثلاثين عاما على نجاحها. أما الثورة المصرية فهي في موقف معاكس، حيث أحدث انطلاقها هزات قوية ترددت بسرعة وخلال أسابيع قليلة في أرجاء العالم العربي. وربما كان ذلك مرتبطا بالوزن التاريخي ودور كل من البلدين في المحيط الإستراتيجي. وإذا كانت الثورة الإيرانية لم تتعرض لهزات اقتصادية موجعة بسبب اعتماد البلد على صادرات النفط، فإن موقف مصر اختلف، حيث أدى نزوح الأموال وتهريبها إلى الخارج إلى إحداث موقف اقتصادي صعب ومؤرق للسلطة، خصوصا في ظل الاعتماد على الخارج في توفير المواد الغذائية. وقد اعتمدت ثورة إيران على المحاكم الاستثنائية في إزالة آثار النظام السابق وتصفية بقاياه، إلا أن الثورة المصرية ظلت على تعاملها السلمي بعد نجاحها، وأحالت رموز النظام السابق بمن فيهم رأسه إلى النيابة العمومية والقضاء العادي. وإذا كانت رموز نظام الشاه قد غادرت البلد معه، فإن رموز نظام مبارك بوغتت بما جرى وبقي أغلبهم في مصر، وكان هو في مقدمتهم. وترتب على ذلك أن رجال الشاه ضعف تأثيرهم في داخل إيران، على عكس ما حدث في مصر حيث لم يكف رجال مبارك وأدواته الأمنية بعيدة عن محاولات التآمر على الداخل. (4) كان السفير رضا شيباني مساعد وزير الخارجية في زيارة أخيرة لطاجكستان، وحين التقى رئيسها السيد رحماني وتطرق الحديث إلى ما جرى في مصر، فإن الرجل أخبره بأن الثورة المصرية والأحداث التي توالت بعدها في العالم العربي هي من تجليات «الفوضى الخلاقة» التي تحدثت عنها كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة، لذلك فإنه يعتبرها ضمن خطوات إقامة الشرق الأوسط الجديد. ولم تكن الملاحظة مفاجئة تماما، لأن أحد الدبلوماسيين سأل أثناء الندوة عن مدى صحة الخبر الذي ذاع في واشنطن عن أن الإدارة الأمريكية دربت 5 آلاف شاب مصري من الذين اشتركوا في الثورة. وقال لي أحد الخبراء الإيرانيين إن بعض الإصلاحيين يعتبرون الثورة جزءا من المشروع الأمريكي. في حين أن بعض المحافظين يعتبرونها من أصداء الثورة الإسلامية ومن تجليات الصحوة الإسلامية، وقد لاحظت أن هاتين النقطتين كانتا موضوعا للتساؤل المتكرر من جانبهم، كما أنهما ظلتا محل نفي وإيضاح من جانبنا. الموضوع الآخر الذي احتل مساحة كبيرة من الأسئلة انصب على مستقبل العلاقات المصرية الإيرانية وتفسير العلاقات الباردة بين القاهرة وطهران التي ما زالت مستمرة بعد الثورة وإن بدرجة أقل، وقد كان هذا الموضوع محل مناقشة في اللقاءات التي عقدناها. إلا أننا فوجئنا بما سمعناه من السيد علي لاريجاني في هذا الصدد، إذ نفى أن التوتر سببه الحساسيات والمخاوف الأمنية وموضوع الشارع الذي يحمل اسم قاتل السادات خالد الإسلامبولي. وقال إنه حين كان مستشارا للأمن القومي زار القاهرة والتقى الرئيس السابق ومدير المخابرات حينذاك السيد عمر سليمان، وإن مبارك قال له إنه يريد شيئا واحدا من إيران، هو أن يسلموا لمصر شخصا اشترك في محاولة اغتياله في عام 1995، وإذا ما تم ذلك فستعود العلاقات طبيعية بين البلدين. أضاف لاريجاني أنه عاد بالاسم إلى طهران وأن الأجهزة الأمنية ظلت طوال شهرين تبحث عنه ولم تجد له أثرا في إيران. سألوا أيضا عن حظوظ الإخوان المسلمين في الانتخابات القادمة وعن إمكانية إقامة حكومة دينية في مصر. كما سألوا عن العلاقة بين الجيش والإدارة الأمريكية، وعن علاقة مصر بإسرائيل ومستقبل اتفاقية كامب ديفيد، وعن موقف مصر من المقاومة الفلسطينية ومصير معبر رفح. سمعنا منهم عتابا لتجاهل الإعلام العربي معاناة الشيعة في البحرين، وتعاطفا وتضامنا مع النظام في سوريا. وقلة ممن لقيناهم عبروا عن حيرتهم إزاء ما يحدث هناك، وسمعت أحدهم يقول إن استمرار النظام السوري بعد الذي جرى أصبح مشكلة وأن سقوطه سيكون مشكلة أكبر. طوال 48 ساعة ظلوا يلاحقوننا بطوفان الأسئلة حول الذي يجري في مصر والعالم العربي، الأمر الذي لم يتح لنا أن نطرح ما عندنا من استفسارات بشأن التطورات الحاصلة في إيران. وهو ما جعلني أقول لمرافقي إن المباراة لم تكن عادلة، وإننا لم نستطع أن نحقق التعادل في نهاية المطاف. فرد عليه قائلا ما معناه: خيرها في غيرها. ..................