أشهر روايات الطيب صالح.. "موسم الهجرة إلى الشمال".. ليل لا يعقبه نهار !
الناقل :
dr_mido
| الكاتب الأصلى :
سميرة سليمان
| المصدر :
www.moheet.com
غلاف الرواية
"إن موسم الهجرة إلى الشمال، كانت تحدياً للنظرة الاستشراقية.. إذ لا يجب أن نصير مسوخاً لآخرين.. لابد أن نتطور في إطار ما لدينا من سياق إسلامي تاريخي حضاري خصب".
هكذا يصف عبقري الرواية العربية السوداني الراحل مؤخرا الطيب صالح روايته الذائعة الصيت "موسم الهجرة إلى الشمال" الصادرة عن دار العودة ببيروت، والتي اختيرت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين وذلك على مستوى العالم العربي، وترجمت إلى كثير من اللغات الأجنبية وقرِّرت على طلاب بعض الجامعات العربية، و حضَّرت إحدى الباحثات في مجال علم النفس رسالة دكتوراة في هذه الرواية تحت عنوان "صراع المقهور مع السلطة ".
البداية
"عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنتُ خلالها أتعلّم في أوروبا. تعلمت الكثير وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى".
هكذا تبدأ رواية الطيب صالح بعودة الراوي وهو طالب سوداني كان يدرس في لندن ويصف كيف استقبلته الوفود من أهالي قريته ليرحبوا بعودته سالما ولكنه يطالع بين الوجوه وجها غريبا لا يعرفه، وعند السؤال عنه يعرف أنه يُدعى "مصطفى سعيد" وهو رجل من الخرطوم جاء إلى القرية منذ خمس سنوات و اشترى أرضاً عمل بها ثم تزوج بإحدى بنات القرية و أنجب منها طفلين, وأجمع أهل القرية على أنه رجل صالح و طيب، ولكن أهل القرية لا يعرفون عنه الكثير.
يصف جد الراوي مصطفى سعيد قائلا: "..أن مصطفى طول إقامته في البلد، لم يبدو منه شئ منفر، وأنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وأنه يسارع "بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح".
سر يُكتشف
اعترافات البطل
دعي الراوي ذات مساء إلى مجلس شراب في بيت صديقه منذ الطفولة "محجوب"، وكان مصطفى سعيد حاضرا، وبعد أن شربا قليلاً، بدأ مصطفى سعيد وقد أدار الخمر رأسه يهذي ويردد شعراً إنجليزياً بلهجة متقنة، الأمر الذي أثار فضول الراوي وجعله يسأل مصطفى سعيد عن سر شعره هذا، فدعاه في اليوم التالي ليخبره بكل شيء .. قصته، حياته، رحلته باتجاه الشمال، مغامراته العاطفية، تسببه بانتحار ثلاث نساء إنجليزيات, و قتل زوجته الإنجليزية أيضا....السجن، الضياع ..
وقص مصطفى سعيد على الراوي كيف أنه نشأ يتيما في الخرطوم وعاش مع والدته فقط ولم يكن له أهل ويصف نفسه قائلا: "... منذ صغري، كنت أحس بأنني مختلف. أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني، لا أتأثر بشئ، لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى علىّ المدرس في الفصل، لا اتألم لما يتألم له الباقون. كنت مثل شئ مكور من المطاط، تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز".
ويمضي يحكي له عن محطات مهمة في حياته بدأت بدخوله المدرسة وتفوقه ونبوغه فيها فيقول: "..سرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم. اقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني. ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تنفتح لي مغالقها، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء". ويحدثه عن تفوقه في اللغة الإنجليزية حتى أن ناظر المدرسة وكان إنجليزيا قال له: "هذه البلد لا تتسع لذهنك، فسافر. إذهب إلى مصر أو لبنان أو إنجلترا. ليس عندنا شئ نعطك إياه بعد الآن".
القاهرة ثم لندن
مكافأة لتفوقه سافر مصطفى سعيد إلى القاهرة ودخل مدرسة ثانوية مجانية هناك، ويروي مصطفى لحظة إخباره لأمه بسفره ووداعه لها قائلا: "..كان ذلك وداعنا. لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء. مخلوقان سارا شطرا من الطريق معا، ثم سلك كل منهما سبيله".
كان في القاهرة على موعد للقاء مستر روبنسن وزوجته التي كانت تصفه بأنه إنسان خال تمام من المرح ولا يستطيع أن ينسى عقله أبدا، وبعد دراسته في القاهرة سافر إلى لندن في بعثة دراسية.
وفي طريقه إلى لندن يقول: "..فكرت في حياتي في القاهرة. لم يحدث شئ ليس في الحسبان. زادت معلوماتي. وحدثت لي أحداث صغيرة، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني وقالت لي: "أنت لست إنسانا. أنت آلة صماء".
محاكمة
في لندن تظهر عبقرية مصطفى سعيد ويصبح محاضرا في الاقتصاد بجامعات لندن، اجتذب النساء البريطانيات وأقام علاقات متعددة معهن وبهرهن بحكاياته عن الشرق والغابات والحيوانات الإفريقية، أدمنت النساء سحر مصطفى سعيد ولم يستطعن التخلص من حبه سوى بالانتحار. إنه مرض الحب! عبّر مصطفى سعيد عن رفضه للاستعمار بالعنف الذي كان وسيلة للانتقام من الحضارة الغربية خاصة وأن هذا العنف اتّجه نحو النساء، باعتبارهنّ الطرف الأضعف في معادلة الصراع بين الشرق والغرب.
انتحل الأسماء ليوقع الأوروبيات في حبائله، وصار ينتقل من فريسة إلى أخرى وبسببه انتحرت ثلاث فتيات: آن، شيلا، ايزابيلا. وقتل هو زوجته "جين موريس" التي تحدته لمدة ثلاث سنوات وحين ملت من مطاردته قررت الزواج به.
يقول عن انتحار السيدات البريطانيات بسببه: "..وأنا فوق كل شئ مستعمر، إنني الدخيل الذي يجب ان يبت في أمره. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الكبير الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل، نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ".
ويؤكد قائلا:"..إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتُسَرّح الجيوش، ويرعى الحَمَل آمناً بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمن السعادة هذا، سأظلّ أعبّر عن نفسي بهذه الطرق الملتوية".
ويتذكر قول القاضي قبل أن يصدر عليه الحكم في الأولد بيلي: "إنك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوقك العلمي، رجل غبي. إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس: طاقة الحب".
حوكم مصطفى سعيد بتهمة قتل زوجته وقضى سبع سنوات في السجن عاد بعدها إلى السودان ليستقر في القرية ويتزوج حسنة بنت محمود وينجب طفلين ويزرع أرضه، عاد ليعيش حياة هادئة بعيدا عن الصخب والعنف.
انتحار أم غرق؟
تمضي أحداث الرواية ونتوقف عند موت مصطفى سعيد غرقا في احدى مرات فيضان النيل، هكذا رحل مصطفى سعيد، ويترك الطيب صالح للقارئ معرفة هو موت أم انتحار حيث يقول على لسان زوجته حين كانت تتحدث للراوي:
"كأنه كان يحس بدنو أجله، قبل موته بأسبوع رتب كل شئونه وقبل موته بيوم دعاني وحدثني بما عنده. أوصاني كثيرا على الولدين. أعطاني الرسالة المختومة بالشمع. قال لي. أعطها له إذا حدث شئ. وقال لي إذا حدث شئ فأنت تكون وصيا على الأولاد".
كان هناك رابط خفي يربط بين الراوي وبطل الرواية "مصطفى سعيد" تجعل كل منهما يفهم الآخر ويعرفه جيدا..قد يكون ذلك بسبب تجربة السفر لكل منهما إلى نفس المكان، وقد يكون خوف الراوي أن يصبح نسخة من مصطفى سعيد ويلاقي نفس مصيره وفي ذلك يتساءل الراوي: "...هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة؟".
يترك مصطفى سعيد رسالة للراوي يوصيه بزوجته وولده وكل ماله ، فهو يثق بأمانته . ونعرف من الخطاب أيضا ان مصطفى سعيد ترك للراوي مفتاح غرفة خاصة به فيقول: "...أعلم أنك تعاني من رغبة استطلاع مفرطة بشأني، الأمر الذي لا أجد له مبررا. فحياتي مهما كان من أمرها ليس فيها عظة أو عبرة لأحد".
يرحل الرواي إلى الخرطوم ليعاود عمله الذي كان قد بدأه هناك و للعيش مع زوجته و أولاده هناك تاركا تلك القرية التي يعود إليها بين الحين والآخر لزيارة أهله و السؤال عن شئون زوجة مصطفى سعيد وولديه.
مأساة في القرية
حسنة .. نهاية مؤلمة
بعد وفاة مصطفى سعيد ترفض حسنة بنت محمود الزواج فقد كانت متعلقة بزوجها الراحل ولكنها لم تستطع أن تصمد طويلا في وجه الأطماع المتزايدة من رجال القرية الذين يبدلون نساؤهم كما يبدلون أي شيء في منزلهم خاصة من "ود الريس" وهو رجل عجوز مزواج لا يتصور أن تكون المرأة لها رأي في زواجها خاصة إذا كانت أرملة ويتفق أن يتزوجها مع والدها رغما عنها، الأمر الذي أسفر في النهاية عن مأساة حيث قتلته حسنة وقتلت نفسها ورأت حينها أنها إذ ذاك تقتل العادات والتقاليد التي تجعل من المرأة مجرد متاع وظيفته إشباع الرجل فقط. ويصور الطيب صالح هذا المشهد بمأساوية شديدة. هذه الأحداث تجري في غياب الراوي في عمله بالخرطوم.
بعد عودته يُحمل الراوي نفسه مسئولية ما حدث لحسنة خاصة بعد أن علم أنها طلبت من جده في غيابه أن يعقد عليها فقط ويتركها مع ولديها لينقذها الأمر الذي رفضه الجد، ويكتشف الراوي انه أحب حسنة وكان بإمكانه أن ينقذها من مصيرها هذا.
ويحنق الراوي على مصطفى سعيد ويذهب إلى غرفته الخاصة ليطلع على ما فيها عازما على أن يحرقها بمحتوياتها.
وعندما يدخل الراوي غرفة مصطفى سعيد الخاصة التي تبلغه زوجته أنه كان يقضي بها وقتا طويلا ولا يسمح لأحد أن يدخلها يجدها غرفة مليئة بالكتب المتنوعة، ومحاولة لم تكتمل لمصطفى سعيد بأن يكتب مذكراته يشهد عليها دفتر تدوين له، بالإضافة إلى محاضرات عن الثورة الفرنسية، وصور عديدة للنساء اللاتي عرفهن في حياته.
وتنتهي الرواية بمقاومة الراوي للغرق فبعد أن قرر أن يُنهي حياته تراجع واختار أن يُكمل الحياة فيقول: "...فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي. طول حياتي لم اختر ولم اقرر. إنني أقرر الآن أنني اختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن لأن علي واجبات يجب ان أؤديها لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى".
مع الرواية والبطل
يريد الطيب صالح أن يُشكل ملامح مصطفى سعيد عبر صفحات الرواية ليستنتجها القارئ كاملة بنفسه فهي صورة لا يعطيها لنا المؤلف، فنجد أن الراوي يلتقي أثناء سفره إلى الخرطوم بأحد زملاء مصطفى سعيد في الدراسة الذي يصفه بأنه أنبغ تلميذ كان في فصله ، بل ومن مهارته في نطق الانجليزية أسموه بخليط من الإعجاب والحقد "الإنجليزي الأسود".
ويبرز للرواي بعدا سياسيا في حياة مصطفى سعيد قائلا على لسان أحد أصدقائه : ".. كان أول سوداني تزوج إنجليزية، غريب أن أحدا هنا لا يذكره، مع أنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنجليز في السودان في أواخر الثلاثينات. إنه من أخلص أعوانهم. وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفارات مريبة في الشرق الأوسط".
الطيب صالح
ونجد أن تأثيره وضح عند عودته لقريته فها هو محجوب أحد الفلاحين في القرية وصديق الراوي يصفه قائلا أنه كان عقلية واسعة فقد أشار علينا إقامة طاحونة للدقيق وفرت علينا أتعابا كثيرة، كان العمدة والتجار يكرهونه كراهية شديدة لأنه فتح عيون أهل البلد وأفسد عليهم أمرهم. ذلك هو الرجل الذي كان يستحق أن يكون وزيرا في الحكومة لو كان يوجد عدل في الدنيا.
ولكن يؤخذ على الرواية إسهاب الطيب صالح في الجنس بشكل غير موظف ولا يقبله العقل .. إذ أننا شعوب متدينة بطبيعتها، وليس من الشائع أن تسمع عن جلسة ريفية بها امرأة تجلس بين الرجال تشرب الخمر وتدخن وتتحدث بإباحية مفرطة ويشترك معها الرجال في حديث ماجن أفرد له الطيب صالح صفحات !! المسألة إذن لو جرت في الواقع لكانت شاذة، ولما استحقت كل هذه التفاصيل في السرد .
المؤلف في سطور
اعتبر الناقد صلاح فضل أن الطيب صالح هو "هدية السودان إلى العرب وإفريقيا والعالم".
ولد الطيب صالح عام 1929م، حصل من جامعة الخرطوم على درجة البكالوريوس في العلوم. ثم سافر إلى لندن حيث واصل دراسته، وغيّر تخصصه إلى دراسة الشئون الدولية.
عمل الطيب صالح لسنوات طويلة من حياته في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، ثم عاد إلى السودان وعمل لفترة في الإذاعة السودانية، ثم هاجر إلى دولة قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. ثم عمل بعد ذلك مديراً إقليمياً بمنظمة اليونسكو في باريس، وممثلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي. من أهم مؤلفاته: عرس الزين، مريود، دومة ود حامد.