عندما ساند الشيخ يوسف القرضاوى انتفاضة السوريين، التى تتحول إلى ثورة الآن، ودعا لها وصلى على شهدائها صلاة الغائب، سبق بموقفه هذا كل أنصار الحرية والمناضلين من أجلها فى العالم العربى. فقد سبق ليبراليين يعتبرون الحرية مرجعيتهم وقيمتهم العليا، ويساريين يساندون المظلومين والمستغلين، وإسلاميين تجرع «إخوانهم» فى سوريا ويلات القمع ما لم يذقه غيرهم. وليس هذا غريبا على الشيخ الذى وقف مع ثورة ٢٥ يناير فى وقت مبكر للغاية، وساهم بدور معتبر فى حمايتها ونجاحها عندما ناشد المصريين المشاركة فيها. فقد نقض بموقفه هذا فتاوى سلفية حرّمت التظاهر والنزول إلى الشارع، وزعمت أنهما يخلقان فتنة نهى الله عنها. ويصعب الآن تقدير ما كان يمكن أن يترتب على تلك الفتاوى المعادية للثورة، التى صدر بعضها عن شيوخ لهم شعبيتهم، لو لم يبادر الشيخ القرضاوى بالموقف الذى أسكت الباطل بالحق، فانشرحت له صدور الناس، ونزلوا فرادى وجماعات سعيا إلى إحقاقه. وليت الباحثين الذين يقومون الآن بتوثيق ثورة ٢٥ يناير، سواء فى دار الكتب المصرية أو غيرها، يعنون بدور القرضاوى فيها من حيث توقيت تدخله، واتخاذه الموقف الشجاع، الذى أكد مجددا أن الإسلام هو دين الحرية رغم كل ما يصدر عن بعض من يرفعون رايته دون وعى أو إدراك. ولعلهم يهتمون، فى مهمتهم التوثيقية الجليلة، ببحث أثر موقف القرضاوى فى مسار الثورة من أجل الحقيقة والمعرفة، وليس فقط لإعطاء الحق إلى أهله. فهو ليس فى حاجة إلى تقدير أو تكريم. ولكن شعبنا هو الذى يحتاج إلى بوصلة تساعد على التقدم إلى الأمام فى الوقت الذى يُساء فيه استخدام الإسلام، ويُزج به فى معارك طائفية وسياسية تهدد الثورة، التى لم تحقق أهدافها كاملة حتى الآن. يحتاج البسطاء المتدينون إلى من يذكّرهم بأن «الإسلام الثورى» الذى ساند ثورة شعبهم لا يمكن أن يصبح ضد هذه الثورة أو يستخدم أداة فى معارك صغيرة متهافتة، فيما المعركة الكبرى من أجل مصر الحرة العادلة لا تزال فى الميدان. وهم فى حاجة إلى من ينبههم إلى أن هذا الإسلام الكبير لا تزيده أو تنقص منه سيدة أو سيدتان يعتقد البعض أنهما أسلمتا، فيما يقول آخرون إنهما على مسيحيتهما باقيتان. كما يحتاج كثير من المصريين إلى إبراز دور «الإسلام الثورى» فى تخليصهم من الظلم والطغيان، عبر توثيق دور القرضاوى فى ثورة ٢٥ يناير، التى تبتعد عنا روحها يوما بعد يوم. ولا يقل أهمية عن ذلك كله تقديم نموذج ملهم بشأن الموقف الذى ينبغى أن يقفه علماء الإسلام ودعاته، ومن يرفعون رايته مع شعوبهم ومن أجل مصلحة أوطانهم، بمنأى عن الأهداف الضيقة والمطالب الصغيرة، التى قد لا يستطيع البسطاء إدراك أنها من نوع الحق الذى يُراد به باطل. وهذا هو الموقف الذى يقفه القرضاوى فى مرحلة تستيقظ فيها الشعوب العربية من سبات طويل، سعيا إلى استرداد حريتها، دون أن يحسب حسابا إلا لما يمليه عليه دينه وواجبه وضميره. وليس هناك دليل على ذلك أكثر من مساندته السوريين، الذين يتطلعون إلى نيل حريتهم فى الوقت الذى لا يزال معظم علماء الدين والتيارات الإسلامية فى حساباتهم الخاصة غارقين. فبينهم من يظن أن النظام الذى يتخذ مواقف قوية ضد طغيان العدو الإسرائيلى، وهى مواقف مقدّرة فى ذاتها، يحق له أن يطغى ويتجبر. ولا يزال أغلب الإسلاميين مترددين فى الالتحاق بالموقف الثورى الذى يتخذه القرضاوى، ويشجع قوى وحركات عربية على مثله. ومع ذلك ضرب بعض شباب ثورة ٢٥ يناير مثلاً يُحتذى عندما أعلنوا مؤخرا تضامنهم مع انتفاضة الشعب السورى السلمية. وكان القرضاوى أحد أبرز من أضاءوا الطريق أمامهم وغيرهم ممن ساندوا هذا الشعب، بالرغم من البلبلة التى يثيرها موقف النظام السورى المقدّر والمحترم ضد الطغيان الإسرائيلى. غير أن مهمة أكبر تنتظر القرضاوى الآن فى مصر، التى تهددها فتن عدة يساهم بعض من ينتسبون إلى الإسلام فى صنع الكثير منها. ويفرض هذا الخطر عليه التدخل قبل أن تُشعل نيران قد يصعب إطفاؤها لاحقا، وأن يقول كلمته وهو الذى ينتظر الملايين رأيه. وربما تفرض صعوبة المهمة أن يُلحق كلمته المنشودة بتحرك يقوم به لرعاية حوار جاد بالتعاون مع فقهاء وعلماء وسياسيين ومثقفين يدركون جسامة هذه المهمة وحيويتها.