تصفية الثورة

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : أحمد يوسف أحمد | المصدر : www.shorouknews.com

بقلم: أحمد يوسف أحمد
ahmed youssef ahmed
 
تصفية الثورة
 
 أعتذر عن هذا العنوان الصادم، لكن الحال الذى وصلت إليه الأوضاع الداخلية فى مصر بحاجة إلى أكثر من صدمة لعلنا نفيق. أتحدث عن خطر داهم يحدق بمصير ثورة يناير. لا يتمثل هذا الخطر فى العودة إلى الأوضاع السابقة عليها، فهذا من رابع المستحيلات، ولكن الخطر ــ وإن كان غير مباشر ــ لا يقل فداحة فى تأثيره عن تصفية الثورة. قد يتمثل الخطر فى سرقة الثورة من قوى تنقض عليها لاحقا، وقد يتمثل فى فقدان الثورة زخمها بحيث تتحول إلى لافتة تخفى عودة الأوضاع السابقة. أسباب ذلك عديدة أتخير منها أربعة.

●●●

أما السبب الأول فيتصل بما كنت قد أشرت إليه فى المقال السابق بخصوص فقدان الدولة حضورها فى الشارع المصرى، ناهيك عن هيبتها، وللأمانة فإن هذه الظاهرة سابقة على الثورة نتيجة تركيز النظام السابق على الأمن السياسى، ولذلك اختل الأمن الجنائى فى عهده، أما الآن فإن الغياب وفقدان الهيبة يمتدان إلى الأمن السياسى والجنائى معا. والسبب المباشر لهذا هو عجز مؤسسة الشرطة حتى الآن عن تجاوز أوضاع ما بعد 25 يناير، وقد تكون هذه المهمة غير يسيرة، لكنها تبقى ممكنة، ولا أظنها تصل إلى جزء مما واجهته القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة لا ذنب لها فيها فى عدوان 1967.

فى تلك المحنة أعادت القوات المسلحة الانضباط إلى صفوفها فى خلال أيام، ثم استعادت قدرتها على الدفاع فى شهور قليلة، ثم وصلت إلى مرحلة حرب الاستنزاف فحرب أكتوبر التى كتبت تاريخا جديدا لمصر. ولا أحسب أن الشرطة المصرية الآن فى وضع أصعب من وضع القوات المسلحة بعد 1967، والمشكلة أن المواطن العادى ليست لديه فكرة عن خطة قيادة الشرطة لتجاوز هذا الوضع ومراحل تنفيذها. نسمع تصريحات عديدة تفيد بأن الشرطة قد عادت، لكننا لا نلمس لذلك أثرا فى الشارع المصرى اللهم إلا قليلا، ويجب أن يكون واضحا أن استمرار غياب الأمن قد يحول الثورة -لا قدر الله- إلى حرب أهلية أو ما يشبهها.

●●●

يتعلق السبب الثانى للخطر على الثورة بطليعتها الشبابية التى يفترض أنها تقود أو توجه عملية التغيير الثورى، وقد حققت فى هذا إنجازات لافتة دون شك، لكن المواطن العادى يسمع كثيرا الآن عن «ائتلاف شباب الثورة» باعتباره التعبير التنظيمى عن تلك الطليعة، غير أنه لا يعرف تحديدا مما يتكون هذا الائتلاف، وما العلاقة بين مكوناته، ومن هم قادته الحقيقيون، ومن ثم فهو ــ أى المواطن العادى ــ لا يستطيع أن يحكم على أى مدعٍ يقول إنه ينتمى لـ«ائتلاف شباب الثورة»، ويحملها أوزار مواقفه. ثم إن الائتلاف فيما يبدو يعانى انقسامات بين فصائله، وأحيانا داخل الفصيل الواحد، كما أن المواقف المنسوبة له فى بعض القضايا والأزمات لا تحظى بموافقة عامة تتناسب مع حالة الإجماع الوطنى التى كانت سائدة إبان الأيام الحاسمة لتطور الثورة وانتصارها.

●●●

يعود السبب الثالث إلى ما يبدو فى كثير من الأحيان من أننا منشغلون على نحو مفرط بالماضى أكثر من اهتمامنا بالحاضر، وقد هالنى أن صحفا وبرامج تليفزيونية معينة تبدو شديدة الاهتمام بأدق تفاصيل الماضى. بعض هذا الاهتمام مطلوب لمحاسبة مسئولى عهد فاسد، لكن كثيرا منه يصب فى خانة اجتذاب القراء والمشاهدين بحثا عن توزيع أفضل وإعلانات أكثر. ويعنى ما سبق أن جانبا يعتد به أحيانا من الاهتمام بالشأن العام فى مصر مشدود إلى الخلف، وليس متوجها إلى بناء المستقبل وقضاياه الشائكة، ويعنى أيضا أن قطاعا من وسائل الإعلام المصرية يقوم بدور سلبى فى إعادة صياغة أولويات المواطن المصرى وحرفه عن وجهته الأساسية التى يجب أن تكون إعادة بناء مصر بعد الثورة.

●●●

يشير السبب الرابع إلى ضعف الوعى بمتطلبات حماية الثورة لدى قطاعات عريضة أحيانا من القوى الشعبية، التى يرجع إليها الفضل فى نجاح الثورة، لكن هذه القطاعات تبدو وقد اكتفت من الغنيمة بإسقاط مبارك وزمرته دون أن تخوض التحدى الأكبر، الذى يتمثل فى إعادة بناء مصر على هدى من مبادئ الثورة. بل إن بعض هذه القطاعات يبدو، وكأن كلا منها قد أمسك بمعول يشارك به فى هدم الاقتصاد المصرى شديد الاعتلال قبل الثورة، ثم دفع أثناءها وبعدها «فاتورة» توقف الإنتاج أو تعثره، وهو ثمن قد تقبله جميع قادة الثورة وأنصارها، لأن البديل كان استمرار أوضاع مهترئة من شأنها أن تصل بالاقتصاد المصرى إلى الحضيض. وقد سادت أثناء الثورة روح جديدة، غير أن هذه الروح بدا وكأنها تبددت بعد النصر، فلقد بادرت فئات وقوى عديدة من شتى المستويات الاجتماعية بعملية توظيف تلقائية لمنطق الثورة وآلياتها لتحقيق مطالب ذاتية، فكما أن الشعب قد حصل من خلال المظاهرات على حقوقه السياسية فإن كل فئة من هذه الفئات تريد أن تعيد الكرة، ولكن فيما يتعلق بمطالب اقتصادية واجتماعية فئوية.

صحيح أن معظم هذه المطالب مشروع، وبعضها بالتأكيد ليس كذلك، لكن الضعف العام للوعى السياسى وتغييب هذه الفئات طويلا عن العمل العام جعلها لا تدرك أنها بعملها هذا إنما تجعل مهمة حكومة الثورة فى تلبية مطالبها مستحيلة.

بل إن التأثير السلبى لهذا السلوك قد امتد ليهدد السياسة الخارجية المصرية الجديدة فى المرحلة الثورية. تفاءلنا جميعا بأن الثورة ستكون نقطة البداية فى استعادة مصر دورها الإقليمى الذى هان على حكامها السابقين، فارتضوا بدلا عنه الاكتفاء بتصريحات أو «توجيهات» بخصوص القضايا الخارجية المختلفة لا يلتزم بها أحد، ولا تؤثر من قريب أو بعيد فى مجريات الأمور. وكان من الشواهد القوية على صحة الطرح الذى يفيد استعادة مصر دورها الإقليمى تولى دكتور نبيل العربى وزارة الخارجية، والتصريحات المشجعة التى أدلى بها فور توليه المنصب بما يؤكد أنه صاحب رؤية سياسية وليس موظفا بدرجة وزير، وسرعان ما جنت الدبلوماسية المصرية أول ثمار هذا المسلك بنجاحها فى إنجاز اتفاق المصالحة بين فتح وحماس بعد طول تعثر، دونما خشية من ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية.

لكن عملية الإحياء هذه للدور المصرى مهددة بالتوقف أو الارتداد للاعتبار الاقتصادى نفسه، فقد ترتب على الإصرار على الاستمرار فى إلحاق الضرر بالاقتصاد المصرى أن هذا الاقتصاد بدا فى مسيس الحاجة إلى الدعم الخارجى سواء عربيا أو دوليا، ومن شأن هذه الحاجة أن تقيد حركة مصر الخارجية.
ولا يجب أن ننسى أن بدء تلقى مصر مساعدات مالية من قوى عربية محافظة بعد هزيمة 1967 قد أرسى قيودا واضحة على الدور المصرى عربيا، وأن المعونة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية لمصر بعد توقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979 قد مثلت بدورها قيودا على حركته الخارجية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة، وقلل ذلك كثيرا من مكانة مصر ودورها فى النظام العربى.

●●●

الأسباب كثيرة والنتيجة واحدة، وهى أننا مهددون بأن تتحول ثورة يناير إلى «فولكلور» نحتفظ فيه بذكرياتنا الرائعة عن أيام تاريخية عاشتها مصر، ونمارس فيه نقدا لاذعا ومريرا للأوضاع السابقة على الثورة، ونكشف الفساد فيها، ونضغط من أجل ملاحقة الفاسدين ومحاكمتهم، ونشدو بأغنيات الثورة وأهازيجها، ونذكر فيه شهداءنا بكل معانى الإجلال وفاء لدورهم التاريخى، لكن التقدم باتجاه بناء المجتمع الجديد للثورة يبقى غائبا عن المشهد، مع أنه الأصل والأساس فى ثورة غير مسبوقة كثورة يناير.