سرقة الثورة

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : د. عمرو الشوبكى | المصدر : www.almasry-alyoum.com

عرفت تجارب التغيير فى العالم خبرة الثورات التى أسقطت النظام وهدمت الدولة، وعرفت أيضا التجارب التى أسقطت النظام وحافظت على الدولة، وانتمت الثورات الكلاسيكية الكبرى (الثورة الفرنسية والروسية والصينية والإيرانية) إلى النموذج الأول، فأسقطت النظم بثورات كبرى قوضت مؤسسات الدولة وفككتها بغرض إعادة بنائها على أسس «ثورية». فى حين تبنت تجارب التغيير الأخرى التى تمت بانتفاضات شعبية واسعة أو محدودة أو بترتيبات خارجية (بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإسبانيا والبرتغال وتركيا) إسقاط أو إصلاح النظام، ومعه إصلاح مؤسسات الدولة وتطهيرها.
 
 
وبقى نموذج إسقاط النظام والحفاظ على الدولة هو السائد فى تجارب التغيير الناجحة (ربما باستثناء الصين التى قوضت الدولة وبنت نظاما ناجحا)، وأن هدف تفكيك النظام القديم وقف عند حدود النظام السياسى ولم يقترب من الدولة كما فعل الأمريكيون بالعراق حين حلوا الجيش ومعه مؤسسات الدولة، فكانت الكارثة الكبرى.
 
وتعتبر خبرة الثورة المصرية فريدة فى هذا المجال، فقد امتلكت طاقة مليونية هائلة فاقت كثيرا من تجارب التغيير فى العالم، وكانت قادرة، إذا أرادت، على تدمير مؤسسات الدولة والانتماء إلى النموذج الأصعب والاستثنائى فى تجارب التغيير والثورات الشعبية، ولكن الشعب المصرى بفطرته وبمخزونه الحضارى اختار نموذج «النجاح النظرى» وهو إسقاط النظام وتطهير الدولة.
والحقيقة أن سيناريو تفكيك الدولة ثمنه باهظ وكارثى فى حال إذا تبنته الثورة المصرية، وكان سيعنى عدم الاعتراف بالقضاء وتعيين قضاء ثورى واستثنائى، وعدم الاعتراف بقادة الجيش لأن النظام السابق هو الذى عينهم، وتفكيك جهاز الشرطة لا إصلاحها وإعادة تأهيلها، وغيرها من القرارات التى علمتنا التجارب القديمة أنها تنتهى إلى اعتبار الجميع عملاء للنظام القديم أو جزءا من الثورة المضادة أو «تحرفيين» خرجوا عن مسار الثورة. إن بلدا مثل إيران اختار هذا النموذج وفكك الدولة وأعدم ٦٠ ألف شخص اعتبروا من أنصار النظام السابق (شهداء الثورة الإيرانية ٧٠ ألفا)، ولم يجلب الديمقراطية للشعب الإيرانى، فى حين أن معظم التجارب الأخرى التى أصلحت الدولة تعيش فى وضع أفضل بكثير مما جرى فى إيران.
وإذا كانت الثورة المصرية لم تتبن هذا المسار، فإن المشكلة أنها لم تنفذ المسار الآخر وهو إصلاح مؤسسات الدولة، فتجارب التغيير عبر انتفاضات شعبية كما جرى فى معظم بلدان أمريكا اللاتينية، أو تجارب التغيير فى أورويا الشرقية جميعها لم تبن نظاما سياسيا جديدا إلا بعد أن أصلحت مؤسسات الدولة وطهرتها وأعادت لها كفاءتها وفاعليتها، والبلاد التى تقدمت هى التى نجحت فى إنجاز هذه المهمة، والبلاد التى فشلت هى التى تعثرت فى إنجازها (راجع مقالنا فى «المصرى اليوم» الديمقراطية لا تنقذ الدول الفاشلة).
إن الخيار الذى انحزنا له دائما «تغيير النظام والحفاظ على الدولة» لا يعنى الحفاظ على الدولة كما هى وإدارتها بنفس الطريقة القديمة، وهو أمر كارثى لأن إصلاحها بل تطهيرها هو شرط نجاح الثورة، وأن التعثر فى تلك المهمة سيفتح الباب أمام كل الأفكار الفوضوية التى تراهن على تفكيك الدولة، أو تعمل على النيل من هيبتها.
إن ما نشاهده فى مصر الآن يبدو غريبا خاصة أن مهمة الثوار كانت إسقاط النظام، ومهمة الحكومة، ومعها المجلس العسكرى، أن تصلح الدولة حتى لو كان الأمر سيأخذ بعض الوقت وحتى لو كانت هناك مخاطر للمرحلة الانتقالية، إلا أن شرط نجاح عملية التحول الديمقراطى هو وضع قواعد صارمة تحكم التنافس السياسى والاقتصادى.
كيف يمكن السكوت على الاعتداء والبلطجة المتكررة فى جولات المرشحين الأبرز لانتخابات الرئاسة وأقصد عمرو موسى ومحمد البرادعى، فالأول شهدت مؤتمراته الانتخابية فى الصعيد اشتباكات قيل إن بعضها قام به أنصار البرادعى، فى حين أن الأخير هو من أكثر المرشحين سلمية واحتراما لحق منافسيه فى التعبير عن الرأى، وهو نفسه تعرض لاعتداء آثم أثناء ذهابه للتصويت فى الاستفتاء، ولم يُحاسب مرتكبو هذه الجريمة حتى الآن، كذلك من حرقوا كنيسة صول لم يُقدموا للعدالة، ومن صلوا بالآلاف أمام الكاتدرائية اعتبروا الأمر حرية رأى دون وعى بحجم الاحتقان الذى يثيرونه من جراء هذا التصرف، فى حين أن هناك وسائل قانونية وضغوطا سلمية يمكن اتباعها لا التظاهر أمام دور عبادة الآخرين، ويمكن من خلالها معرفة مصير أى شخص (وليس فقط كاميليا ووفاء قسطنطين) تثار حوله شبهة الخضوع للإقامة الجبرية.
وجاء حكم المحكمة بالإفراج عن مجموعة من الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين، ليثير مزيدا من علامات الاستفهام عمقتها الشكوك التى أثارها د. حسن نافعة عن جدية محاكمة العادلى لنصبح أمام وضع فى غاية الخطورة يتكامل فيه ضعف هيبة الدولة مع فقدان مصداقيتها، وهو الأمر الذى سيؤدى إلى سرقة الثورة لصالح مرشح الاستقرار والأمن والأمان وليس المرشح الذى سيختاره الشعب المصرى (لا موسى ولا البرادعى).
بالتأكيد هناك صعوبة فى أوضاع الشرطة بعد المحنة التى مر بها الشرفاء من رجالها، وصعوبة فى وضع الجيش الذى لا يرغب فى أن يدخل فى مواجهة سيتحمل تبعاتها بمفرده لأنه لا يحمل أى غطاء سياسى من حكومة أو رئيس أو برلمان منتخب، إلا أن عدم مواجهة الفلتان الأمنى والفوضى المتصاعدة من شأنه أن يضرب تجربة التحول الديمقراطى برمتها.
إن الثورة التى امتلكت من القوة ما كان يمكنها أن تذهب بعيدا فى هدم أركان الدولة (على رؤوسنا جميعا) لم تعلن، فى أى مرحلة، أنها كانت راضية عن أدائها حتى نستمر فى دولة المواءمات التى عشنا فى ظلالها ٣٠ عاما. وإن «طيبة» الشعب المصرى لا تعنى استغفاله مرة أخرى، فهناك جرائم تجرى خارج إطار القانون ويتم التساهل معها، وهناك خلل فى جهازنا القضائى يحتاج إلى إصلاحات جذرية كما جرى فى كل البلدان التى انتقلت من الاستبداد إلى الديمقراطية، ولا بجب أن نكتفى بشعارات القضاء الشامخ الذى لا يمس.
إن الحكومة لم تغير قاعدة واحدة تحكم عمل المؤسسات القديمة، ولا حتى حاولت أن تستمع لأى اجتهاد فى هذا الشأن، ومازال معظم قيادات المؤسسات العامة ينتمون بامتياز لفلول النظام السابق، ومازال مندوبو أحمد عز يجتمعون فى بعض المؤسسات الصحفية بكل بجاحة، متصورين أنه يمكنهم أن ينقضوا مرة أخرى على إنجاز الشعب المصرى ويتاجروا بدمائه.
إن إسقاط النظام وإصلاح الدولة مطلب عاجل ولابد من امتلاك جدول زمنى للبدء فى إصلاح جراحى لمؤسسات الدولة يراعى اعتبارات كثيرة، ودون هذا الإصلاح ستسرق الثورة وسنعود إلى المربع الأول.