ابنة الرميصاء بسم الله الرحمن الرحيم .. ابنتي الغالية ، أحمد الله إليك الذي أنعم علينا بدين جعل فيه حبنا لبعضنا عبادة نتقرب بها إليه ، وأصلي وأسلم على معلمنا الحبيب المصطفى محمد حيث علمنا كل شيء حتى كيف نحب في الله ، فلما أحب نصح وأخذ بيد معاذ رضي الله عنه قائلا : " « يَا مُعَاذُ إِنِّي لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ. قَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ » " فهكذا هو الحب الصادق ، حب هو خير عون للعبد على الارتقاء بنفسه والترقي في مراتب العبودية ، وهذا هو صدق الإخاء . وبعد بنيـة ؛ فمذ أرسلت لي عقدت العزم أن أرد عليك ردا مفصلا وعاما لعل الله أن ينفع به أقوام أنا وأنتِ منهم ، فلما طال المقام وقصرت الهمة اكتفيت بما سيأتي ، ولعله تكون له تتمة إن فتح الله عليّ بمزيد فضله . هنيئا لكِ بنيتي ، فإني أرى أن الله جل وعلا قد أراد بك خيرا عظيما ، فهو كما يقولون إدراك الداء نصف الدواء ، وإنك إذ شعرت بالتقصير في حق نفسك وطول غفلة القلب عن ربه فهي بشرى خير .. أنك انحنيت لتسلكي درب الهدى . *** *** *** *** *** إن مشكلتنا ـ غفر الله لنا ـ إسلام الوراثة ، فقد نشأنا نتعبد اعتيادا في الغالب ، وحين يأذن الله برشدنا تبدأ النفس بالتمرد والنقاشات الداخلية التي لا تنتهي ، وهذا هو بداية الطريق نحو الدين الحق بإذن الله ، أسمعت بما قاله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ؟ ذاك الرجل الذي بلغت كتبه واسمه الآفاق وهو من أشهر رجالات الإسلام بعد النبي والصحب الكرام : { والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت ، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا } ! فما عسى أمثالنا يقولون ؟! . إن المعصيـة ـ عافنا اللهم منهاـ ، ولا أعني بها شيئا محدد بل هي تشمل كل غفلة نفس والتفاتة قلب نحو دنيا حين تتركها ابتداءاً ، تتركها بعجز وتتجرع ألم فقدها ، فإن أنت [صبرت وصابرت] سرعان ما تجد قلبك ينتهي عن السوء بذلا لنيل الرضا طائعة بها نفسك ، فإن أنت [ثبت وجاهدت .. ثم ثابرت] ما عاد لها مكان .. وصرت تسارع للخيرات ذُلاً وتضرعا ، ذائبة نفسك بحثا عن رضاه سبحانه . فهي مقاومة .. وهي أطول المراحل فيها يمحص الله الصادق في توبته من اللاهي ، فإن واظبتِ على المقاومة ، هَبَّتْ على قلبك بين فينة وفينة نسمات حلاوة الإيمان وبدأت يوما بعد يوم تتذوقين حلاوته ، حينها يكن لإبليس عليك مداخل أخرى غير التي اعتدتها وهي أخطر من سابقتها تلك آفات القلوب ، فإن ثابرتِ مستعينة بربك وأوقفت على قلبك الحرس المشدد ، حينها تكوني تلك التي تريدينها بإذنه . ولكن لتبقى ذِكراكِ أبدا " والذين جاهدوا فينا .. " فهو جهاد مع النفس لا ينتهي إلا بخروج الروح ، فما دمت أنتِ في جهاد فالله بفضله يهديك ألم يقل سبحانه ومن أصدق من الله قيلا : " .. لنهدينهم سبلنا ، فكوني على الشرط دوما "جاهدوا .. " تكوني في الفضل أبداً " لنهدينهم . ثم إن الله سبحانه قد وعد وقوله الحق في الحديث القدسي الصحيح المروي عند البخاري : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول " ألست تصدقينه ! ، إذا كلما تقربت إليه بطاعة أو اجتناب معصية أو مدافعة خاطر أو إحسان إلى مخلوق أو أي باب من القربات وما أكثرها ، أسرع إليك أكثر مما أنت إليه سائرة ففتح لك مزيدا من أبواب الخير وصرف عنك كثيرا من الشرور ، وكان معك فإذ هو لك كما وعدكِ : " سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " . فبالله خَبِّريني .. كيف يكون عبد كل جارحة من جوارحه الله يحركها له برضاه ؟! *** *** *** *** إننا _أي بنية إلا من رحم ربي_ نتشاغل بمعرفة أمور كثيرة جدا ، وفي غمرة ذلك ننسى أن نتعرف أنفسنا مداخلها ومخارجها مواضع الضعف فيها والقوة ، سلبياتها وإيجابياتها .. ثم بعد ذلك نرجو الارتقاء فأنّا يكون ! . إن النفس بنيتي كطفل صغير ، تحتاج موازنة بين اللين والشدة ، تُريد أن تُكافأ ، وتحتاج لأن تُعاقب ، ولن يربي لك نفسك إلا أنتِ بإعانة وتوفيق من خالقكِ ، فأنتِ أعلم الناس بها وبما حَبَهَا الله من خيرات وابتلاها بِهِ من عيوب وسيئات . هناك يا ابنتي صفات سلبية مشتركة في جميع الأنفس ، إذا اجتهد العبد استطاع تقويمها أو التخفيف من حِدتها ، وهذه الصفات مع تدبرك لكتاب الله جل وعلا تجدينها . إن كتاب الله -يا غالية- كتاب الله ، كتاب الله هو دليلك لمعرفة نفسك ، وفي ذات الوقت هو المطبب لأسقامها ، ومع هذا وذاك هو أيضاً المقويّ لإيجابياتها .. إنه النور والشفاء ، الهدى والدلالة . إن في كل نفس حب وبغض ولاء وعداء ، عزة وذلة قوة وضعف ، نشاط وكسل ، فتور وهمة .. فمن عرفها وعرف مراد الله منه وجه كل صفة إلى المكان الصحيح ، ومن انشغل عنها تخبطت صفاته وربما تعاكست مع مرادات الله منها . هَلُمّي بنيتي وإياي .. نستقصي ذكر النفس في كتاب الله .. ثم من سنة رسول الله ، لنتعرف من خالقنا على أنفسنا التي فطرها سبحانه ، فهو أعلم بِنا مِنا ، وإن نحن معه صدقنا فيقينا .. أعاننا على أنفسنا . أي بنية ، هذا مفتاح .. فإن قبضته بيد من يقين فتح لك طريقك إلى نفسك عبر كتابه سبحانه ، قال من فطر أنفسنا : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " فهو سبحانه سواها .. وعلى الفطرة خلقها ، بيّن لها درب التقى ، وحذرها حُفَرَ الفجور وهبها درجات تزكية .. تصل بها إلى السعادة ، إن هي أحسنت تركيب الدرجات وارتقاءها . وبصّرها بظلمات الضلالة وحذرها الاندساس فيها ، وعلمها كيف تكبح جماحها حين يُهيأ لها أن الظلام نورا ! . إن النجاح كلما بُذِل في سبيله الجُهد أكثر ، كان طعمه ألذ .. وفرح وصولك إليه أمتع ، ولو أتاك على طبق من ذهب دون بذل جهد لما كملت فرحتك به . هي النفس إذاً فيها نزعات شر ومواطن ضعف ، وعندها أسلحة دفع ودروع مقاومة .. حتى يحلو طعم الفلاح . *** *** *** *** بهجة قلبي .. إن عُمَراً رضي الله عنه لمّا وَلِيَ الخِلافة دخل قلبه شيء من عُجْبٍ بعد الفتوحات [ فنادى بالصلاة جامعة . فلما اجتمع الناس وكبّروا صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ثم قال : أيها الناس ، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم ، فيقبّضن لي القبضة من التمر أو الزبيب .... ثم نزل ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين ، ما زدت على أن قميت نفسك يعني : عِبْتَ وازدريت ! فقال: ويحك يا بن عوف إني خلوت ، فحدثتني نفسي قالت : أنت أمير المؤمنين ، فمن ذا أفضل منك ، فأردت أن أعرّفها نفسها ] فاحرسي قلبك يا ابنتي وانتبهي له فإنه مَحِلّ نظر الله .. فإنه سبحانه لا ينظر لشيء منك إلا إليه فصونيه وإيّاك أن يرى فيه ما لا يرضاه .. ولا تفتر عزيمتك عن حراسة قلبك ومراقبة خاطرك وتربية نفسك فإنما نحن هنا في اختبار .. فلا تلتهي عنه . وتذكري صغيرتي .. أن الطريق إلى الله ، تقطع بالقلوب لا بالأقدام وقد قال عليّ رضي الله عنه عن صديق الأمة أبي بكر رضي الله عنه : ما سبقكم بكثير صلاة ولا صيام ، إنما بشيء وقر في قلبه . فكيف هو يقينك بالله وثقتك به ؟ وكم من الأوقات تذكرين المقام بين يديه وأهوال ذاك اليوم العسير ؟ لا كان علي ولا عليكِ كذلك . تذكري دائماً وأبداً مسألته لنا على كل صغيرة وكبيرة يوم أن نؤتى الكتاب وفي ذلك الكتاب " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .. " ! . فليكن خوفك من تلك المصارحة دافعا للانتهاء عن السوء ومعينا على الارتقاء .. فخوف مقام الرب سبحانه سببا للانتهاء عن الهوى . قد طال الحديث بنيـّة .. والقضية شائكة كيف لا وهي قصة الحياة ، والنفس ملول وقد بالغت ، فأكتفي إلى هنا على أمل بمزيد بعد حين ، ولعلي أختم بأسطر من كلام ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر فصل سياسية النفس فقد نطق دررا انتقيت لك منها هذه : ( أعجب الأشياء مجاهدة النفس. لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة ، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا ، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وظلموها. وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها ، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض، أو بر والدة . وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول . فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه ، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام. فإن انبسط ذكر هيبة المملكة . فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها ) . اللهم لك الحمد أن هديتنا ، قد عودتنا فضلك فعلى الحق ثبتنا ، وبأنفسنا بصرنا .. اللهم هذا دعاء العاجزين إليك يستنصرونك لإخوة لهم يقتلون بأيدي ظلمة يتصنعون الإسلام فيا الله .. نصرك الذي وعدت وأرنا في الظالمين ما يشفي صدورنا . سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . اكتملت هذه الرسالة ، صبيحة الأحد الثامن من الشهر الرابع لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين الموافق الثالث عشر من الشهر الثالث لعام ألفين وأحدى عشر . الراجية لكِ كل خير / ابنة الرميصاء .
ابنة الرميصاء
بسم الله الرحمن الرحيم ..
ابنتي الغالية ، أحمد الله إليك الذي أنعم علينا بدين جعل فيه حبنا لبعضنا عبادة نتقرب بها إليه ، وأصلي وأسلم على معلمنا الحبيب المصطفى محمد حيث علمنا كل شيء حتى كيف نحب في الله ، فلما أحب نصح وأخذ بيد معاذ رضي الله عنه قائلا : " « يَا مُعَاذُ إِنِّي لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ. قَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ » " فهكذا هو الحب الصادق ، حب هو خير عون للعبد على الارتقاء بنفسه والترقي في مراتب العبودية ، وهذا هو صدق الإخاء . وبعد بنيـة ؛ فمذ أرسلت لي عقدت العزم أن أرد عليك ردا مفصلا وعاما لعل الله أن ينفع به أقوام أنا وأنتِ منهم ، فلما طال المقام وقصرت الهمة اكتفيت بما سيأتي ، ولعله تكون له تتمة إن فتح الله عليّ بمزيد فضله . هنيئا لكِ بنيتي ، فإني أرى أن الله جل وعلا قد أراد بك خيرا عظيما ، فهو كما يقولون إدراك الداء نصف الدواء ، وإنك إذ شعرت بالتقصير في حق نفسك وطول غفلة القلب عن ربه فهي بشرى خير .. أنك انحنيت لتسلكي درب الهدى .
*** *** *** *** ***
إن مشكلتنا ـ غفر الله لنا ـ إسلام الوراثة ، فقد نشأنا نتعبد اعتيادا في الغالب ، وحين يأذن الله برشدنا تبدأ النفس بالتمرد والنقاشات الداخلية التي لا تنتهي ، وهذا هو بداية الطريق نحو الدين الحق بإذن الله ، أسمعت بما قاله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ؟ ذاك الرجل الذي بلغت كتبه واسمه الآفاق وهو من أشهر رجالات الإسلام بعد النبي والصحب الكرام : { والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت ، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا } ! فما عسى أمثالنا يقولون ؟! . إن المعصيـة ـ عافنا اللهم منهاـ ، ولا أعني بها شيئا محدد بل هي تشمل كل غفلة نفس والتفاتة قلب نحو دنيا حين تتركها ابتداءاً ، تتركها بعجز وتتجرع ألم فقدها ، فإن أنت [صبرت وصابرت] سرعان ما تجد قلبك ينتهي عن السوء بذلا لنيل الرضا طائعة بها نفسك ، فإن أنت [ثبت وجاهدت .. ثم ثابرت] ما عاد لها مكان .. وصرت تسارع للخيرات ذُلاً وتضرعا ، ذائبة نفسك بحثا عن رضاه سبحانه . فهي مقاومة .. وهي أطول المراحل فيها يمحص الله الصادق في توبته من اللاهي ، فإن واظبتِ على المقاومة ، هَبَّتْ على قلبك بين فينة وفينة نسمات حلاوة الإيمان وبدأت يوما بعد يوم تتذوقين حلاوته ، حينها يكن لإبليس عليك مداخل أخرى غير التي اعتدتها وهي أخطر من سابقتها تلك آفات القلوب ، فإن ثابرتِ مستعينة بربك وأوقفت على قلبك الحرس المشدد ، حينها تكوني تلك التي تريدينها بإذنه . ولكن لتبقى ذِكراكِ أبدا " والذين جاهدوا فينا .. " فهو جهاد مع النفس لا ينتهي إلا بخروج الروح ، فما دمت أنتِ في جهاد فالله بفضله يهديك ألم يقل سبحانه ومن أصدق من الله قيلا : " .. لنهدينهم سبلنا ، فكوني على الشرط دوما "جاهدوا .. " تكوني في الفضل أبداً " لنهدينهم . ثم إن الله سبحانه قد وعد وقوله الحق في الحديث القدسي الصحيح المروي عند البخاري : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول " ألست تصدقينه ! ، إذا كلما تقربت إليه بطاعة أو اجتناب معصية أو مدافعة خاطر أو إحسان إلى مخلوق أو أي باب من القربات وما أكثرها ، أسرع إليك أكثر مما أنت إليه سائرة ففتح لك مزيدا من أبواب الخير وصرف عنك كثيرا من الشرور ، وكان معك فإذ هو لك كما وعدكِ : " سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " . فبالله خَبِّريني .. كيف يكون عبد كل جارحة من جوارحه الله يحركها له برضاه ؟!
*** *** *** ***
إننا _أي بنية إلا من رحم ربي_ نتشاغل بمعرفة أمور كثيرة جدا ، وفي غمرة ذلك ننسى أن نتعرف أنفسنا مداخلها ومخارجها مواضع الضعف فيها والقوة ، سلبياتها وإيجابياتها .. ثم بعد ذلك نرجو الارتقاء فأنّا يكون ! . إن النفس بنيتي كطفل صغير ، تحتاج موازنة بين اللين والشدة ، تُريد أن تُكافأ ، وتحتاج لأن تُعاقب ، ولن يربي لك نفسك إلا أنتِ بإعانة وتوفيق من خالقكِ ، فأنتِ أعلم الناس بها وبما حَبَهَا الله من خيرات وابتلاها بِهِ من عيوب وسيئات . هناك يا ابنتي صفات سلبية مشتركة في جميع الأنفس ، إذا اجتهد العبد استطاع تقويمها أو التخفيف من حِدتها ، وهذه الصفات مع تدبرك لكتاب الله جل وعلا تجدينها . إن كتاب الله -يا غالية- كتاب الله ، كتاب الله هو دليلك لمعرفة نفسك ، وفي ذات الوقت هو المطبب لأسقامها ، ومع هذا وذاك هو أيضاً المقويّ لإيجابياتها .. إنه النور والشفاء ، الهدى والدلالة . إن في كل نفس حب وبغض ولاء وعداء ، عزة وذلة قوة وضعف ، نشاط وكسل ، فتور وهمة .. فمن عرفها وعرف مراد الله منه وجه كل صفة إلى المكان الصحيح ، ومن انشغل عنها تخبطت صفاته وربما تعاكست مع مرادات الله منها . هَلُمّي بنيتي وإياي .. نستقصي ذكر النفس في كتاب الله .. ثم من سنة رسول الله ، لنتعرف من خالقنا على أنفسنا التي فطرها سبحانه ، فهو أعلم بِنا مِنا ، وإن نحن معه صدقنا فيقينا .. أعاننا على أنفسنا . أي بنية ، هذا مفتاح .. فإن قبضته بيد من يقين فتح لك طريقك إلى نفسك عبر كتابه سبحانه ، قال من فطر أنفسنا : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " فهو سبحانه سواها .. وعلى الفطرة خلقها ، بيّن لها درب التقى ، وحذرها حُفَرَ الفجور وهبها درجات تزكية .. تصل بها إلى السعادة ، إن هي أحسنت تركيب الدرجات وارتقاءها . وبصّرها بظلمات الضلالة وحذرها الاندساس فيها ، وعلمها كيف تكبح جماحها حين يُهيأ لها أن الظلام نورا ! . إن النجاح كلما بُذِل في سبيله الجُهد أكثر ، كان طعمه ألذ .. وفرح وصولك إليه أمتع ، ولو أتاك على طبق من ذهب دون بذل جهد لما كملت فرحتك به . هي النفس إذاً فيها نزعات شر ومواطن ضعف ، وعندها أسلحة دفع ودروع مقاومة .. حتى يحلو طعم الفلاح .
بهجة قلبي .. إن عُمَراً رضي الله عنه لمّا وَلِيَ الخِلافة دخل قلبه شيء من عُجْبٍ بعد الفتوحات [ فنادى بالصلاة جامعة . فلما اجتمع الناس وكبّروا صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ثم قال : أيها الناس ، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم ، فيقبّضن لي القبضة من التمر أو الزبيب .... ثم نزل ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين ، ما زدت على أن قميت نفسك يعني : عِبْتَ وازدريت ! فقال: ويحك يا بن عوف إني خلوت ، فحدثتني نفسي قالت : أنت أمير المؤمنين ، فمن ذا أفضل منك ، فأردت أن أعرّفها نفسها ] فاحرسي قلبك يا ابنتي وانتبهي له فإنه مَحِلّ نظر الله .. فإنه سبحانه لا ينظر لشيء منك إلا إليه فصونيه وإيّاك أن يرى فيه ما لا يرضاه .. ولا تفتر عزيمتك عن حراسة قلبك ومراقبة خاطرك وتربية نفسك فإنما نحن هنا في اختبار .. فلا تلتهي عنه . وتذكري صغيرتي .. أن الطريق إلى الله ، تقطع بالقلوب لا بالأقدام وقد قال عليّ رضي الله عنه عن صديق الأمة أبي بكر رضي الله عنه : ما سبقكم بكثير صلاة ولا صيام ، إنما بشيء وقر في قلبه . فكيف هو يقينك بالله وثقتك به ؟ وكم من الأوقات تذكرين المقام بين يديه وأهوال ذاك اليوم العسير ؟ لا كان علي ولا عليكِ كذلك . تذكري دائماً وأبداً مسألته لنا على كل صغيرة وكبيرة يوم أن نؤتى الكتاب وفي ذلك الكتاب " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .. " ! . فليكن خوفك من تلك المصارحة دافعا للانتهاء عن السوء ومعينا على الارتقاء .. فخوف مقام الرب سبحانه سببا للانتهاء عن الهوى . قد طال الحديث بنيـّة .. والقضية شائكة كيف لا وهي قصة الحياة ، والنفس ملول وقد بالغت ، فأكتفي إلى هنا على أمل بمزيد بعد حين ، ولعلي أختم بأسطر من كلام ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر فصل سياسية النفس فقد نطق دررا انتقيت لك منها هذه : ( أعجب الأشياء مجاهدة النفس. لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة ، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا ، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وظلموها. وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها ، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض، أو بر والدة . وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول . فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه ، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام. فإن انبسط ذكر هيبة المملكة . فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها ) . اللهم لك الحمد أن هديتنا ، قد عودتنا فضلك فعلى الحق ثبتنا ، وبأنفسنا بصرنا .. اللهم هذا دعاء العاجزين إليك يستنصرونك لإخوة لهم يقتلون بأيدي ظلمة يتصنعون الإسلام فيا الله .. نصرك الذي وعدت وأرنا في الظالمين ما يشفي صدورنا . سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . اكتملت هذه الرسالة ، صبيحة الأحد الثامن من الشهر الرابع لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين الموافق الثالث عشر من الشهر الثالث لعام ألفين وأحدى عشر . الراجية لكِ كل خير / ابنة الرميصاء .