تروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- قصة نزول الوحي، ولكن قبل الوحي كانت هناك مقدمات لنزول الوحي، فكانت الرؤيا الصادقة من المقدمات التي سبقت الوحي بستة أشهر، فكان رسول الله لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وإن كان هذا الأمر غير مُصرِح بأمر الرسالة إلا أنه أمر لافت للنظر.
ولم يكن هذا هو التمهيد الأول، بل كانت هناك مقدمات عديدة عجيبة سبقت الوحي، وقد يرى ذلك وحده، وأحيانا يراها غيره معه، ومن ذلك سلام الحجر عليه، يقول النبي : "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبِعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ"
وهناك حادث أعجب من ذلك، وهو حادث شق الصدر وهذا الحادث ثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، وهذا أمر ثابت جدًّا وهو أن النبي قد شُق صدره وهو غلام وأخرج قلبه واستُخرجت علقة من قلب الرسول وقيل: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر النبي . وكان أنس بن مالك يرى أثر المخيط في صدره .
وبعض من لا يؤمن بالغيبيات ومن لا يؤمن بقدرة الله ينكر هذه القصة أصلاً معتقدًا أن الله غير قادر على ذلك، ويدعي أنه كان بإمكان الله أن يستخرج من قلبه حظ الشيطان دون عملية جراحية.
وكل ذلك نوع من الإعداد والتهيئة والتربية لرسول الله للاستعداد لنزول الوحي.
وكان ذلك أيضًا إعداد وتهيئة لأهل مكة ولجزيرة العرب؛ ليستقبلوا هذا الرسول، فشاع في مكة وفي جزيرة العرب حادث شق صدره ؛ ليعلموا أن هذا الإنسان وضعه مختلف عمن سبقوه، وأن هذا الرجل له وضع خاص.
ولكن الأهم من ذلك أن هذا الأمر هو في حد ذاته اختبار للمسلمين بعد ذلك بقدرة الله .
فمن آمن بأن الملائكة تستطيع أن تنزل إلى الأرض وتعود في لمح البصر، ومن آمن بأن الملائكة تستطيع أن تحمل جبلاً أو تقلب قرية أو غير ذلك، فمن اليسير أن يؤمن بهذه العملية الجراحية الصغيرة التي حدثت في هذا العمق من التاريخ.
والملائكة لا تقوم بهذه الأشياء لقدرة ذاتية فيها، لكن لأن الله يريد، والله قادر على ما يريد.
فالمسألة مسألة إيمان واختبار، فمن كان في قلبه شك فمن الصعب أن يؤمن بهذه القصة وبغيرها كالإسراء والمعراج وشق القمر، أو غير ذلك من الأحداث التي وقعت في زمان النبي .
يروي البخاري قصة بدء الوحي عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
أي أن الله I دفعه إلى ذلك، فكان يخرج فترة معينة من الزمان، قيل أنها شهر وتقريبًا أنه شهر رمضان، يختلي بنفسه يفكر في هذا الكون، وكيف نعبد هذا الإله، العرب بصفة عامة يعرفون أن الله I خالق هذا الكون وهو خالقهم، يقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان: 25]. ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزُّخرف: 87].
ولكنهم يعبدون هذه الأصنام لتكون لهم شفعاء عند الله كما قال الحق تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يونس: 18].
وليتقربوا بها إلى الله كما أخبر بذلك I عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى} [الزُّمر: 3].
لكن الفطرة السليمة تأبى هذه العبادة، وكيف يمكن للإنسان أن يسجد لحجر؟! كيف يمكن أن يعتقد أن هذا الحجر يقدم نفعًا أو ضرًّا؟!
وما سجد النبي لصنم في حياته قط، فكان يعلم أن لهذا الكون خالقًا ولكن لم يكن يعرف كيف يعبده..{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضُّحى: 7].
ومعنى ذلك أنه لم يكن يعرف الطريق المناسبة التي يعبد بها خالق البشر وخالق الكون وخالق السموات والأرض، فهذا ما كان يفعله النبي في غار حراء، وهو أنه كان يتفكر في الكون.
خلوة ولكن بغير اعتزال.
كان رسول الله يخلو بربه شهرًا في كل عام، ويعتكف في رمضان، أما غير ذلك فكان يخالط الناس على ما بهم من شرور وآثام وإيذاء، يصلح ما بهم وينصح ويغيّر.
والذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم، كما روى الترمذي وابن ماجه
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".
ولكن الحذر كل الحذر من الوقوع معهم في شرهم والاندماج في باطلهم، فالرسول لم يكن يجلس أبدًا في مجالس اللهو والسمر وأماكن عبادة الأصنام، ولم يكن يشاركهم إلا في فضائل الأعمال مثل بناء الكعبة وحلف الفضول وغيره.
أما الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي من أن الرسول هَمّ أن يسمر مع الشباب لما سمع عزفًا، فضرب الله على أذنه فنام، فهو حديث ضعيف ضعفه الحافظ ابن كثير والشيخ الألباني.
فالمسلمون وإن كانوا يخالطون الناس إلا أنهم معزولون عنهم عزلة شعورية كما يسميها سيد قطب في معالم الطريق، فهو وإن كان يعيش معهم بجسده إلا أنه يخالفهم ويفارقهم بعقله وقلبه ومنهجه، وما خالطهم إلا لإصلاحهم.
ولو انعزل الصالحون فمن لتعليم الناس، ومن لسد ثغرات المسلمين، ومن لمساعدة الناس، ومن للجهاد ونشر الدعوة.
نلاحظ أن النبي مر بمراحل من التهيئة والإعداد قبل الرسالة من سلام الحجر عليه، مرورًا بشق صدره إلى غير ذلك من الإرهاصات التي حدثت معه قبل البعثة في طفولته وشبابه.
لماذا كل هذه التهيئة وكل هذا الإعداد الذي استمر أربعين سنة، قد يقال إن الله يعده لحمل الأمانة الثقيلة، ولكن أليس من الممكن أن يعده الله لحمل الأمانة في لحظة واحدة يثبت قلبه فلا يخاف ولا يتردد، ما الحكمة من وراء هذا الإعداد الطويل جدًّا؟
إن الله يعلمنا أمرًا مهمًّا وهو التأني في التربية، التدرج في حمل الناس على ما نريد، حتى ولو كان سيحمل الرسول رسالته، فيحملها له بالتدرج.
التدرج سنة من سنن الله في التغيير والإصلاح.
التربية تحتاج إلى تدرج، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى تدرج.
حياة الرسول ثلاثة وستون عامًا، منها أربعون عامًا إعداد للرسول ليتلقى الرسالة، وثلاث وعشرون سنة ليبلغ الرسالة.
وقد يتمنى البعض أن تكون فترة النبوة أكبر لتكون الاستفادة أكبر وأكبر، لكن كل ما أراده الله منا شرعه لنا، وكل المتغيرات التي قد تحدث في حياة الناس وكل الثوابت التي لا يمكن أن يفرطوا فيها حدثت في هذه الفترة الثلاث وعشرين سنة.
لكن لا بد أن تعرف أنك تحتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لتربي فردًا من الممكن أن يحمل همَّ هذه الأمة الإسلامية. ولقد تربى النبي أربعين سنة؛ ليحمل بعد ذلك هَمّ الدعوة، فإذا كان ذلك يحدث مع النبي فلا معنى للاستعجال في تربية الناس.
فلا بد من فقه هذا الدرس جيدًا وهو التأني في التربية، فبعد أربعين سنة في مكة جاء اليوم الذي سيدخل عليه جبريل u وهو في خلوته في غار حراء، جاء جبريل u في هذه اللحظة الماجدة الخالدة في تاريخ الأرض، وهذا الموقف لم يحدث على وجه الأرض منذ ستمائة عام، فلقد بعث النبي على فترة من الرسل، وبعد وفاة النبي لن يتكرر هذا الموقف حتى يوم القيامة.