نزل الوحي على رسول الله في غار حراء وهذه لحظة فارقة وعجيبة في تاريخ البشرية، أنا أعتقد أن هذه اللحظة هي أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض وإلى يوم القيامة.
إن لحظة نزول الوحي، كانت الظلمات قد عمت الأرض بكاملها، والبشرية تسير إلى هاوية سحيقة، هبوط وانحدار وانحطاط في القيم والأخلاق والشرائع، فإذا بالله تعالى يَمُن على عباده بالوحي العظيم {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
كثيرًا ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن قليل منا من يعطي لهذا الحدث هذا القدر العظيم.
الله أرسل رسولاً إلى الإنسانية، فهذا الوحي هو مِنّة من الله على عباده كما ذكر الله في كتابه فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وماذا لو وصلتك رسالة من ملك دولة عظمى، هذه الرسالة يوضح لك فيها أنه يحبك ويمتلك من الخير ما يدخل عليك السرور.
كيف يكون حالك في حينها؟ وما مدى مبلغك من السعادة وهذه رسالة من أحد ملوك الأرض الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!
والله بعظمته وقوته وجبروته وقدرته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على وجه كرة معلقة في الفضاء تكاد لا ترى في الكون الفسيح.
وما يكون حجم الأرض بالنسبة إلى هذا الكون؟ وما هو حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ وبالتبعية حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون؟ وما هو حجم الإنسان بالنسبة للملائكة؟
إن الكثير من الناس لا تقدر هذا الحدث قدره؛ لأنهم لا يقدرون الله قدره.
الله لا يحتاج إلينا، ولا يحتاج إلى غيرنا، ولا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، ورغم ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية ورسالة بشرى وإنذار، هذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل u على أشرف الخلق محمد بأشرف الكلام القرآن الكريم.
في هذه اللحظة نزل الكلام الذي سيظل دستورًا في الأرض إلى أن تفنى الأرض.
هذا الحدث هو تكريم للإنسان كما قال الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تفضيلاً} [الإسراء: 70].
الوحي من أعظم صور التكريم التي امتن الله به على البشرية. ومع كل هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان وإرسال رسول إليه ودستور ومنهج يسير عليه يوضح للإنسان كل نقطة في حياته، والإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، وأحيانًا يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة، وطموحات تافهة، فهو لا يقدر قيمته كإنسان، أحيانًا يظلم غيره، ويؤذي غيره، ويعذب غيره، وهو لا يدري أنه إنسان مكرّم يظلم إنسانًا مكرمًا.
وأحيانًا تنحدر قيمة الإنسانية إلى درجات أقل بكثير من الدرجات الحيوانية.
إن التفكر في لحظة الوحي يحدو بفكر الإنسان ليغير مفهوم الإنسان عن نفسه، ويغير مفهومه عن إخوانه من البشر وعن الأرض التي يعيش فيها.
الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى كل إنسان على وجه الأرض: افعل كذا ولا تفعل كذا، الوحي نور وهداية ودليل، ليس مجرد تكاليف، ولكنه نعمة من الله ورحمة بعباده.
إن الله الذي خلقنا هو أعلم بنا من أنفسنا، وهو الذي يدرك الماضي، ويدرك الحاضر، ويدرك المستقبل، والمطلع على كل شيء، والعالِم بكل شيء، أنزل لنا هذا الوحي لنهتدي بهديه ونأتمر بأمره وننتهي بنهيه.
فاتباعك للوحي سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي شقاء الدنيا والآخرة.
إن الوحي بمنزلة المنقذ لك بعد إشرافك على الهلاك، وبمنزلة الدليل الذي يهديك للطريق بعد تيه طويل في صحراء الحياة.
ولو تخيلت نفسك في صحراء وأشرفت على الهلاك، أو في بحر وأشرفت على الغرق، ووجدت من يأخذ بيدك من الصحراء إلى العمران، وأوصلك إلى شاطئ النجاة بعد أن كان الغرق هو مصيرك دون أن يسألك أجرًا أو منفعة، وما فعل ذلك إلا لأنه يخاف عليك من الهلاك والضياع، هذا هو الوحي الذي يأخذ بأيدي البشرية من التيه الذي يعيشون فيه إلى السعادة في المكان الأعظم في الجنة.
يقول I في كتابه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123].
فالإنسان هو الذي يحدد مصير نفسه تبعا لتعامله مع الوحي، فالذي يتبع لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآخرة، ومن يعرض فقد عرض نفسه للضنك في الدنيا والحشر يوم القيامة أعمى.
يقول سيدنا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلاً. فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلاَمُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلاَمَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلاَمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا".
وفي رواية البخاري يقول: "فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ". وفي رواية أحمد يقول: "فَمَنِ اتَّبَعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا".
فالوحي يدعونا إلى الجنة، أما مخالفة الوحي فالمصير إلى العذاب الشديد.
وقد تعجب حينما تعلم أن الناس يعرفون ذلك، ولكن لا يقدرون للوحي قدره؛ لأنهم لا يقدرون الله قدره.. {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر: 67].
فلو قدر الناس الله حق قدره ما عصوه، لكن يتناسى الناس قدر الله ، وهذا مؤداه الضنك في الدنيا والهلاك المبين في الآخرة.
فالوحي رسالة من الله رب العالمين، ولا بد من فهم سيرة النبي على ذلك الأساس، وهو أن حياة النبي كلها وحي من رب العالمين كما يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].
حتى النوافل في حياته وحي من الله فكما أن صيام رمضان وحي فصيام الاثنين والخميس والثلاثة أيام البيض، وكل النوافل هي وحي من الله، لكن هناك ما هو فرض وما هو نافلة، فكل أمر في حياته وحي، حتى اختياراته البشرية في أموره العادية إن جاءت مخالفة لما أراده الله من البشر ينزل الوحي ليوضح مراد الله ، ولتكون حياة النبي قدوة وأسوة للمسلمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فلخير الإنسان ولخير البشرية ولخير الدنيا والآخرة نتعلم سيرة النبي .
فأمر الوحي وأمر السيرة النبويّة ليس بالأمر الهين الذي يستهان به، ولكن هذا الأمر جِدُّ خطير، وهو من الأهمية بمكان، نسأل الله أن يفقهنا في سيرة النبي .