عام الحزن - وفاة أبي طالب بن عبد المطلب

الناقل : فراولة الزملكاوية | الكاتب الأصلى : راغب السرجانى | المصدر : www.islamstory.com

 

عام الحزن

عام الحزن وفاة السيدة خديجة وأبي طالبحدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في وقت محدود، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتوقيت هاتين المصيبتين صعب جدًّا، فالدعوة الآن في فترة من أحرج فتراتها، ولكن تلك هي حكمة الله ، وسنحاول معًا -إن شاء الله- بعد طرح ما حدث في هاتين المصيبتين أن نستنبط طرفًا من حكمة الله في هذا الأمر.

 

المصيبتان كانتا وفاة عم رسول الله أبي طالب السند الاجتماعي المهم لرسول الله ، ووفاة السيدة الفاضلة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة رسول الله والسند العاطفي والقلبي المهم جدًّا لرسول الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

اختلف المؤرخون في تحديد أي المصيبتين حدث أولاً، منهم من قال قد تقدم موت أبي طالب لأنه حدث بعد الخروج من الشعب بستة أشهر، أي أنه حدث في رجب من السنة العاشرة، ثم وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- لأنه اشتهر أنه حدث في رمضان من السنة العاشرة للنبوة. ومنهم من قدم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وجعل موت أبي طالب في شوال بعد السيدة خديجة بخمسة وثلاثين يومًا في بعض الروايات.

 

والمسألة فيها تفصيل وبحوث وإن كانت لا تهم كثيرًا؛ لأن المصيبتين حدثتا في وقت قريب جدًّا من بعضها البعض، وكانت آثارهما مشتركة.

 

والموت مصيبة كما سماه الله في كتابه حيث قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]. ولكن إن كان الموت بصفة عامة مصيبة فموت السيدة خديجة وأبي طالب كان مصيبة كبيرة جدًّا، وخاصة لقربهما من بعضهما البعض، مما جعل رسول الله -وهو الذي اشتهر بالتفاؤل والتخفيف عن أصحابه- يطلق على هذا العام الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة وهو العام العاشر من النبوة، يطلق عليه عام الحزن.

 

وفاة أبي طالب

مَن كان أكثر من يدافع عن رسول الله ويساعد المسلمين؟ إنه أبو طالب؛ لذا يجب أن يختفي أبو طالب من مسرح الأحداث كي لا يظن أحد أن الدعوة قائمة عليه، وليعلم الجميع أن الدعوة مستمرة؛ لأنها دعوة الله .

 

أما موت أبي طالب فكان مأساويًّا إلى أبعد درجة، لا لأنه مات فقط، ولا لأنه كان ناصرًا للدعوة حاميًا لرسول الله ، دافعًا لكيد أهل قريش من الكافرين، جامعًا لبني هاشم وبني المطلب حول رسول الله ، مؤيدًا لرسول الله باللسان والسنان، مات كافرًا، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه.

 

لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل. رسول الله يعلم الحق بكامله وبكل أبعاده، يعلم أنه سيأتي يوم يحاسب فيه أبو طالب على أعماله، فإن كان مشركًا لم تنفعه أعماله، وإن آمن بدلت سيئاته حسنات، وهو قادم على الموت لا رجعة بعده، وهي إما نار أبدًا، وإما جنة أبدًا، فرسول الله يدخل عليه وقلبه يتفطر ألمًا عليه، أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب يخلد في النار؟ كان رسول الله يحب عمه حبًّا جمًّا، وكان يسابق الزمن ليذهب إليه قبل أن يموت يدعوه إلى الإسلام للمرة الأخيرة، ودخل عليه فعلاً قبل أن يموت وتنفس الصعداء لما وجده ما زال حيًّا، ولكن وجد بجواره فرعون هذه الأمة، يزوره في مرضه الأخير، لا للاطمئنان على صحته ولكن للاطمئنان على وفاته كافرًا بإله محمد ، فلو آمن أبو طالب حتى قبل موته بلحظات فإن هذا سيكون ضربة قاصمة للكفر بمكة، وقد تؤمن قبيلة بني هاشم وبني المطلب إما اقتناعًا برأي أبي طالب وإما حمية له؛ ولذلك فأبو جهل يقف على رأس أبي طالب، يبذل مجهودًا ووقتًا وعرقًا من أجل الصد عن سبيل الله.

 

رسول الله مع عمه قبل الموت

دخل رسول الله على عمه أبي طالب، فقال -كما جاء في صحيح البخاري-: "أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

 

يذكره بالتقاليد الموروثة وبديانة الأب، وكم أهلكت التقاليد من البشر، وأبو طالب يقف حائرًا بين الداعيتين، داعية الخير وأعظم الخلق وأبلغ البشر رسول الله ، وداعية الشر فرعون هذه الأمة وإمام الضلال أبي جهل لعنه الله.

 

فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

 

أي عبادة الأصنام، لا حول ولا قوة إلا بالله! غصة شديدة في حلق رسول الله ؛ فهو يرى مدى الجهد والنصب الذي تعرض له أبو طالب من أجله ولحمايته وإعطائه حرية التبليغ.

 

فَقَالَ النَّبِيُّ : "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ". فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. لا حول ولا قوة إلا بالله!!

 

وأصبح أبو طالب من أصحاب الجحيم، خلود ولا موت وأين؟ في الجحيم.

 

روى البخاري عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ t قَالَ لِلنَّبِيِّ : مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ (في جزء قليل، فُسِّر في حديث آخر بأن النار تصل إلى كعبيه فقط، ولكن يغلي دماغه من هذه النار، نسأل الله العافية)، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ".

 

وطبعًا رسول الله شفع له لا لقرابته ولكن لعمله، بدليل أنه لم يشفع لأبي لهب مثلاً وهو أيضًا عمه.

 

ونحمد الله I على نعمة الإسلام، وهي نعمة لا يقدرها ولا يشعر بها كثير من الناس الذين يرددون كلمة التوحيد دون فهم.

 

بعد وفاة أبي طالب

كان موت أبي طالب سببًا في تغير الموقف في مكة تغيرًا كبيرًا، فقد كان لأبي طالب مكانة كبيرة في مكة خاصة وأنه كان على دينهم، فقد تجرأ الكفار على رسول الله تجرُّؤًا غير مسبوق، حتى إن رسول الله قال: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ".

 

فمع أن الرسول قد تعرض قبل ذلك لإيذاء من أهل مكة في حياة أبي طالب إلا أنه اعتبره وكأنه لم يكن، بالقياس لما حدث بعد وفاة أبي طالب.

 

اعترض سفيه من سفهاء قريش طريق رسول الله فنثر على رأسه التراب، فدخل بيته والتراب على رأسه الشريف، فقامت إليه إحدى بناته، وجعلت تغسل التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها: "لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ".

 

بل حدث ما هو أشد، فكما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وفي رواية أنه عقبة بن أبي معيط)، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ (ولاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود t، عبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة ولن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن رسول الله لقتل، وسيصبح تقدمه مخالفة واضحة؛ لأنهم مأمورون بالتكتم وتجنب إثارة الفتن أو الحرب، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود في أن لا يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته يعني رضاه على تصرف ابن مسعود t) وَالنَّبِيُّ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ -وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا- ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضَّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. (وفي رواية أخرى أنه عمارة بن الوليد)، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.

 

ولا يخفى علينا مدى الألم الذي كان يشعر به رسول الله عند هذه الحادثة، فمع كل ما حدث له وللمؤمنين في السنوات العشر السابقة إلا أنه للمرة الأولى يقف ويدعو على قريش، ثم هو يسمي أسماء بذاتها قد تأكد عنده أنهم لا أمل في إيمانهم، فدعا عليهم بالهَلَكَة، ودعوة الأنبياء مقبولة ومجابة، وهذا أمر لا يتكرر في حياة رسول الله كثيرًا، حتى في موقف الطائف رفض رسول الله أن يدعو على

أهل الطائف

بالهلكة، مع شدة إيذائهم له، ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنه لم يدعهم للإسلام إلا لمدة عشرة أيام فقط هي التي قضاها في الطائف بينما ظل يدعو في مكة عشر سنوات، وقد ثَبَتَ هؤلاء الكفار على كفرهم ولم تردعهم الآيات المتتالية، وحتى بعد هذا الدعاء من رسول الله والذي كان بمنزلة إعلان الحرب عليهم، وغلق باب الدعوة لهؤلاء فإنهم لم يرتدعوا وصدق فيهم قول الله : {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]