بعد ما لاقى رسول الله ما لاقى من أهل الطائف من الحجارة والسباب، وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، دخل رسول الله إلى الحائط، وهو مثقل بالهموم والأحزان والجراح، فأسرع إلى ظل شجرة وجلس تحتها وأسند ظهره إلى الشجرة ومد يده إلى السماء، وانهمرت عبراته وهو يدعو بدعاء ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم والحزن والهم والغم الذي شمل كل كيان رسول الله ، وقد أغلقت أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، باب الرحمن، قال رسول الله :
"اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ".
قد يؤخر الله استجابة الناس للداعية لحكمة لا يعلمها إلا هو I، ولكن أحيانًا يكون الداعية مخطئًا في أمر من الأمور فيغضب الله عليه، فيمنع الناس من الاستجابة له، ورسول الله في هذا الدعاء يذكر أنه طالما أن الله ليس بغاضب عليه فهو سيتحمل كل هذه الآلام والمصائب والأحزان (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي)، هذه الجملة -يا إخواني- هي منهج الحياة (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي). والله لو طبَّق المسلمون هذه الجملة فقط في حياتهم، لفازوا بخير الدنيا والآخرة.
وبينما رسول الله جالس في الحائط إذ ظهر فجأة أصحاب الحائط، من هم؟
إنهما عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، كافرا مكة المشهوران، وكانت لهما أملاك بالطائف، فعتبة هو أبو الوليد الذي أجرى المفاوضات يومًا ما مع رسول الله في أواخر السنة السادسة من النبوة، وشيبة أخوه، وهما من الذين دعا رسول الله -يوم أن وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره- فقال: اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وعليك بشيبة بن ربيعة. ومع هذا العداء المستحكم والصراع القديم إلا أن الحالة التي وصل إليها رسول الله من الألم والتعب والحزن، جعلت القلوب الكافرة ترق وتحن، أشفق الكافران على رسول الله فأخذا عنقودًا من العنب ووضعاه في طبق، وأرسلا به غلامهما إلى رسول الله ، كان هذا الغلام نصرانيًّا وكان اسمه عَدَّاس.
كان رسول الله وزيد بن حارثة t قد بلغ بهما الجوع والعطش مبلغًا عظيمًا، فكان طبق العنب بمنزلة الإنقاذ لهما، فوضع عداس الطبق أمامهما فمد رسول الله يده إلى الطبق وقال: "بِاسْمِ اللَّهِ"، ثم أكل. لم ينس التسمية حتى في هذه الظروف، وقد كانت هذه التسمية البسيطة سببًا في خير كثير، تعجب عداس من هذه الكلمة، فهو لم يسمعها في الطائف مطلقًا، فقال: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فرد رسول الله عليه بسؤالين، يتعرف بهما على الغلام، قال له رسول الله :
"مِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟"
ما هذا؟ رسول الله لا يضيع فرصة أبدًا للدعوة إلى الله ، الدعوة تسري في أوصاله وفي دمائه وفي دقات قلبه وفي نفسه، حتى في هذه الظروف الحالكة وقد رفض دعوته الأسياد والأشراف، لا يستقل هذا العبد الصغير فيجرب معه الدعوة.
قال الغلام: أنا نصراني، من أهل نِينَوَى.
فقال رسول الله : "مٍنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟".
دهش الغلام كيف عرف هذا الرجل يونس بن متى؟!
قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟
قال رسول الله : "ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ".
هنا أدرك الغلام الصغير ما لم يدركه حكماء ثقيف، أو قل: سفهاؤها، أدرك أن هذا الرجل فعلاً رسول، فآمن لساعته، وأكبَّ على رأس رسول الله وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، وكأن الله أبى إلا أن يثلج صدر رسول الله بمؤمن، وعلى بعد خمسة كيلو مترات من البلد المقصود، نعم هو عبد في نظر الناس ولكنه بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعًا ومثلهم معهم.
عتبة وشيبة ابنا ربيعة يرقبان الموقف، ولم يكن يحتاج إلى ذكاء كثير لاستنباط ما حدث، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما عاد عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. لكن القلوب القاسية لم تفقه، فقالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. وكذبوا.
أصبح الموقف الآن في غاية الحرج، الطائف رفضت الدعوة هذا الرفض القبيح، ولا شك أن الخبر قد طار إلى مكة، ولا شك أيضًا أن مكة كانت قد اكتشفت تسلل رسول الله منها دون علمها، إذن مكة ستصبح موصدة الأبواب أمام رسول الله ، وستكون محاولة الدخول إليها في غاية الخطورة، فماذا يفعل ؟
انشغل رسول الله بالتفكير في هذا الأمر، الأقدام تسير في اتجاه مكة، لكن العقل مشغول غاية الانشغال، يقول يصف هذا الموقف، كما جاء في البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
"فَانْطَلَقْتُ -أي من الطائف- وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ". وهي المسماة بقرن المنازل، مهمومًا حزينًا، وكأنه في إغماءة أو في نوم ثم أفاق في قرن الثعالب، أتدرون كم تبعد قرن الثعالب عن الطائف؟ تبعد خمسة وثلاثين كيلو مترًا، سار رسول الله كل هذه المسافة وهو في شبه إغماء من شدة الهم والتفكير.
ثم حدث أمر عجيب هناك في قرن الثعالب، كما جاء في رواية البخاري يقول رسول الله : "فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ (مقامات عالية جدًّا، وتخيل مدى انشراح الصدر لرسول الله في هذه اللحظة، وتخيل مدى الشعور بتفاهة المشركين والمكذبين، فهؤلاء الذين يظنون أنفسهم سادة، كيف يقارنون بالجبال وكيف يقارنون بأعظم الملائكة جبريل u) فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ (والأخشبان هما جبلا مكة: أبو قبيس وقيقعان). فَقَالَ النَّبِيُّ : "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
أولاً: وضح في هذا الموقف الدرجة الرفيعة المرموقة التي عليها رسول الله فلعلها المرة الأولى في تاريخ الأنبياء التي يحدث فيها مثل هذا الموقف، فيخير نبي في أن يهلك الله قومه أو يستبقيهم، فقد كان يأتي القرار بالهلكة ويؤمر النبي بمغادرة البلد فقط، لكن هنا الوضع مختلف جدًّا. وفي إرسال ملك الجبال إشارة واضحة أن الله لن يعتب على نبيه أن يختار إهلاك الناس، بل إنه يشجعه على ذلك بإرسال ملك الجبال نفسه، وكان من الممكن أن يرسل جبريل فقط يعرض عليه الأمر، فلو وافق الرسول جاء ملك الجبال ليهلك البلدة.
ثانيًا: يتبدى في هذا الموقف بوضوح الفارق الضخم المهول بين السياسي الداعية وبين السياسي من أهل الدنيا، سياسيو الدنيا لا ينظرون إلا للمصلحة المادية، سواء لهم أو لبلادهم، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل هو أن يُسلم الناس لرب العالمين، لو حدث تمكين لرسول الله وقد أهلكت طائفة كبيرة من البشر فإن ذلك لا يسره، لأنهم أهلكوا على شركهم، إنما هو يريد لهم الخير، والخير في الإيمان، فلا مانع من أن يعطوا فرصة أخرى، ولو على حساب إيذاء الرسول نفسه، وهذا مثل الأب الذي يفشل ابنه في امتحان فيغضب لفشله، فيأتي أحدهم يريد أن يهدئ الأب فيقترح عليه أن يقتل ولده، فماذا سيكون رد فعل الأب؟ أيرضى؟ محال، وكذلك كان رسول الله أو أشد، عاطفة رسول الله نحو الذين يدعوهم كانت مثل عاطفة الأب نحو ابنه أو أكثر، وصدق الله العظيم الذي قال في حق نبيه : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ما أحوج الدعاة أن يراجعوا نظرتهم إلى الناس! وما أحوجهم أن يعاملوهم معاملة الطبيب الذي يعالج مريضه لا الجلاد الذي يعاقب المذنبين!
ثالثًا: يتبدى أيضًا في هذا الموقف شخصية رسول الله الهادئة التي تزن الأمور جيدًا، فمع كل ما مر به من ألم وهم وحزن بدأ من موت أبي طالب وموت خديجة رضي الله عنها، ثم خروجه إلى الطائف ورفض أهل الطائف للدعوة وقذفه بالحجارة والسباب والشتائم، مع كل هذا إلا أنه لم يكن انفعاليًّا في قراره، لم يتسرع ولم يتعجل، وكانت إجابته في منتهى الهدوء، وكأنه في أفضل أحواله وظروفه. الداعية الانفعالي كثيرًا ما يدفع بدعوته نحو المهالك، كثيرًا ما يأخذ قرارات قد يندم هو شخصيًّا عليها بعد ذلك، تحكيم العقل على العاطفة من سمات الداعية الحكيم الذي يزن الأمور جيدًا، وهذا ما شاهدناه من رسول الله في هذا الموقف.
رابعًا: مرت الأيام والسنون ودخلت مكة ثم الطائف في الإسلام، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة بعد أن ضاعت منهم سنوات طويلة في الشرك، وولد لهم أولاد عبدوا الله ولم يشركوا به شيئًا، وحدثت مأساة الردة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله ، وارتدت جزيرة العرب بكاملها، ولم يثبت على الإيمان إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، وهذه المدن هي مكة والطائف وطبعًا المدينة المنورة، وتحقق أمل رسول الله في أن يخرج الله من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، بل يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض؛ فمن صُلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وهذا نصر كبير للدعوة وإن كان قد حدث بعد وفاة الرسول .
بعد هذا الموقف العظيم يكمل رسول الله طريقه في اتجاه مكة، وعندما يصل إلى منطقة تسمى وادي نخلة على بعد حوالي 43 كيلو مترًا من مكة يمكث هناك ليستريح، وراحة رسول الله ليست في النوم ولكن في الصلاة (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)، فيقف بين يدي ربه يناجيه في خشوع، يقرأ آيات من كتاب الله يهون بها على نفسه ويشد بها من أزره.
المكان فيما يبدو للناس ليس فيه أحد، فوادي نخلة مكان منعزل بين مكة والطائف ورسول الله يقف وحيدًا ليس معه من أحد إلا زيد بن حارثة t، لكن سبحان الله أبى الله إلا أن يعز الدعوة بنصر جديد، فقد كان الجن يمرون بهذا المكان فسمعوا كلام الله على لسان رسوله الكريم ، فوقع الكلام في قلوبهم فـآمنوا!
إنهم الجن، نَعَم الجن.
فإن كان البشر قد كَذّبوا، فإن الجن قد آمنوا، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر، والجن كانوا يعلمون بنبوة الأنبياء السابقين، وكانوا يتوقعون نبيًّا يأتي في هذا الزمان، ومن الواضح أنها المرة الأولى منذ أول البعثة التي يسمع فيها الجن هذه الآيات فوقعت في قلوبهم فآمنوا من فورهم، بل وذهبوا دعاة إلى قومهم يأخذون بأيديهم إلى طريق الله .
حكى الله في كتابه فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29- 32].
لم يشعر الرسول بوجود الجن عند سماعهم للقرآن، ولكن عرف بعد ذلك عندما نزلت الآيات تصف الموقف، وهي إشارة لطيفة للدعاة أنه لا تدري لعل طائفة من الجن تستمع إلى كلمة الحق منك، فتؤمن بينما يكذب البشر، وتكون هذه الطائفة من الجن في ميزان حسناتك يوم القيامة. ثم إن هناك إشارة لطيفة أخرى وهي أن الداعية يجب أن يستشعر أنه ليس بمفرده في هذا الطريق، فالخلق جميعًا يعبدون الله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. ولا يشذ عن هذه المنظومة الجميلة إلا طوائف من الكافرين من الإنس والجن، لكن أنت لست وحدك على الطريق، معك أمم من الجن، معك الملائكة جميعًا، معك الشمس والقمر والنجوم، معك الدواب والهوام والحيتان، منظومة كاملة رائعة لا يشعر معها المؤمن بالوحدة أبدًا، وإن كان فريدًا في وسط البشر.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
بعد أن انتهى رسول الله من صلاته قرر الرحيل من جديد إلى مكة، وهنا استوقفه زيد بن حارثة t وقال: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟! يخشى زيد t على رسول الله من أن تقتله قريش، لكن استمع إلى إجابة الحبيب ، قال: "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُ دِينِهِ وَمُظْهِرُ نَبِيِّهِ".
الله! ثقة، يقين، اطمئنان، سكينة، تمامًا كما قال موسى u عندما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]. ثقة في نصر الله ، هو لا يدري كيف سيُنصر ولكنه متأكد من النصر، موسى u لم يكن يدري ساعتها أن الله سيشق له البحر، وكذلك الرسول لم يكن يدري كيف سينصره ربه ، ولكن كان على يقين من هذا الأمر.
أكمل رسول الله المسير حتى اقترب جدًّا من مكة وجلس يدبر أمره. نعم، الله سينصره، لكن لا بد له من الأخذ بالأسباب، كيف يدخل مكة وهو مطلوب الرأس ولا سيما بعد تكذيب الطائف له، لا شك أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وغيرهما قد نقلوا إلى قريش عزم رسول الله على الاستنصار بالقبائل الأخرى ضد قريش، فماذا يفعل؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.