مع أن كل القبائل التي عرض رسول الله عليها الإسلام رفضت الدعوة، إلا أنني أود أن أقف عند حواره مع قبيلتين فقط من هذه القبائل لما في هذا الحوار من دروس لا تقدر بثمن، أول هذين القبيلتين، قبيلة بني عامر، وهي قبيلة كبيرة قوية عزيزة، وهي من القبائل القليلة في جزيرة العرب التي لم تعرف في تاريخها سبيًا لنسائها، ولا إتاوة تدفع لغيرها، والمباحثات معها في غاية الحساسية، وقد ذهب إليهم رسول الله ومعه صاحبه الصديق t وعرض عليها الإسلام، وحسنه في قلوبهم، استمعوا إليه وأنصتوا، ثم تكلم زعيم من زعمائهم يخاطب بقية الزعماء، ويخاطب في نفس الوقت رسول الله ، هذا الزعيم هو بيحرة بن فراس، قال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
إذن هو يعلم أن هذه الرسالة سيكون لها شأن كبير، ويرى أنه لو كان حاميًا لها مدافعًا عنها فإنه سيأتي وقت سيسيطر فيه على العرب أجمعين، وهذا وإن كان يدل على بعد نظر هذا الرجل إلا أنه يشير بوضوح أيضًا إلى أنه رجل انتهازي نفعي لن يستجيب إلى هذه الدعوة اقتناعًا بقيمتها، ولكن فقط حبًّا في الرئاسة والزعامة والسيطرة، وهذا خطر عظيم. ثم إنه صرح بهذا الأمر علانية فقال لرسول الله : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟
ها هو يصرح بوضوح أنه يريد الأمر لنفسه وقبيلته بعد ظهور رسول الله ، لكنه يجعل ذلك بعد موت رسول الله ، وهذا قد يعدُّ في نظر السياسيين من أهل الدنيا نصرًا وتمكينًا، فالرجل سوف يدافع عن رسول الله حتى يظهر رسول الله ، وسيترك له الأمر طيلة حياته، ولكنه يساوم على زعامة الأمر بعد وفاة الرسول ، ولو كان رسول الله يبحث عن التمكين لنفسه لكان هذا عرضًا مغريًا جدًّا، لكن رسول الله كان شديد الحساسية لأولئك الذين يطلبون زعامة أو رئاسة، فقال له رسول الله في هدوء عجيب وفي ثقة متناهية: "الأَمْرُ إلى اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". الولاية تكون لمن يستحقها، لا يوسد الأمر في الإسلام لغير أهله، ولا يمكن قبول إسلام بني عامر نظير أن تكون زعيمة ولو بعد عشرات السنين. لقد كان رسول الله يعطي كل شيء نظير إسلام الناس إلا الرئاسة والزعامة؛ لأن القائد للقوم يسير بهم، ويدبر شئونهم، فإن كان في نفسه هوى سار بهم بهواه، وهكذا يَضِلّ ويُضَلّ؛ لذلك كان رسول الله يعطي المال الكثير للناس حتى يتألف قلوبهم، ولو طلبوا مالاً أكثر أعطاهم وأعطاهم وأعطاهم، لكن لو طلبوا ولاية ما أعطاهم ولو كانوا من أعز أصحابه أو أقرب أقربائه.
روى الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري t قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلْنِي؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".
وروى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة t قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا".
بل صرح رسول الله بما هو أوضح من ذلك، فلم يجعل الأمر على سبيل النصيحة فقط بل جعله تشريعًا؛ روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ . وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :"إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا الْعَمْلَ أَحَدًا سَأَلَهُ، أَوْ أَحْدًا حَرَصَ عَلَيْهِ".
ففتنة الزعيم لا تعود عليه وحده بل تعود على الأمة جميعها، فالزعيم الحريص على زعامته سيرتكب كل الموبقات من أجلها، سيكذب ويزور ويقتل ويمالئ العدو، الزعيم الذي يحيا لدنياه يهمل دنيا الناس، وإذا اتخذ قرارًا ظالمًا فسيظلم به شعبًا كاملاً، وإذا مشى في طريق خاطئة فسَيُسَيِّر الناس كلهم وراءه؛ لأجل هذا رفض رسول الله شرط بيحرة بن فراس، رفضه وهو في أمسِّ الحاجة إليه، رفضه مع حالة الضعف والقلة والوحدة، ولكنها قواعد واضحة وأسس ثابتة يرسمها لنا أحكم خلق الله .
وبالطبع رفض بيحرة وبنو عامر الانضمام لرسول الله ، وقال في تعجب: أَفَتُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لاَ حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.
وهكذا فشلت مباحثات الرسول مع بني عامر.
أما المباحثات الثانية المهمة التي أريد أن أقف عليها، فهي مباحثات رسول الله مع بني شيبان، وهي قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب يعني قريبة من العراق، وقد ذهب إليهم الرسول ومعه صاحبه الأمين أبو بكر الصديق t.
بدايةً، بدأ أبو بكر بفحص القبيلة على المقاييس المطلوبة فسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة. اهتم أبو بكر جدًّا بالأمر فهو الرجل الخبير بالأنساب ويعلم من هؤلاء، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله وقال في اهتمام: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هؤلاء غُرَر الناس. ليس هذا فقط بل لما سأل عن أسماء الحضور وجدهم أحسن الناس في بني شيبان، كان فيهم مفروق بن عامر وهانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة، وهؤلاء هم أعظم رجال بني شيبان، فالمباحثات ستتم على مستوى الرؤساء والوزراء، فبدأ أبو بكر يسأل عن القوة والمنعة في القبيلة. والحق أنه لا يسأل ليعرف، فبنو شيبان معروفة جيدًا له، ولكنه يستثير فيهم الحمية والعزة ويلمس وترًا حساسًا جدًّا في قلوب العرب.
قال أبو بكر الصديق t: كيف العدد فيكم؟
فقال مفروق المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تُغْلَبَ ألف من قلة (ويبدو أن رقم ألف هذا كان رقمًا كبيرًا جدًّا في أعرافهم؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة، ولا ننسى أن المسلمين في بدر كانوا أكثر من ثلاثمائة بقليل، وكان الكافرون ألفًا فقط).
فاستثاره أبو بكر قائلاً: وكيف المنعة فيكم؟ يعني هؤلاء رجال أشداء، أم مجرد عدد.
شعر مفروق أن هذه إهانة، فبدأ صوته يعلو، قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى (أي في الحرب)، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.
كلام في منتهى الحكمة، فهو وإن كان اندفع متحدثًا عن مآثر قومه وعزتهم إلا أنه اندفاع موزون فهو قد نسب النصر لله -وكانوا يؤمنون به ولكن يشركون معه الأصنام- وذكر أن الحرب دول، فيوم لهم ويوم عليهم، وهذا عين الحكمة.
ثم إن مفروقًا انتبه إلى كثرة أسئلة الصِّدِّيق، فقال في ذكاء ودراية: لعلك أخو قريش؟ أي لعلك هو أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى أمر جديد يقصد رسول الله ؛ فمفروق كان قد سمع بأمر رسول الله ، وشعر أن الذي يسأل هو ذاك الرجل، لكن الذي كان يتكلم في كل هذا الذي سبق كان الصديق t.
الصديق أراد أن يكسب نقطة في الحوار، قال: أوَقد بلغكم أنه رسول الله؟ قالها وكأنه يريد أن يذكر لهم حقيقة مؤكدة، ولكن مفروقًا انتبه إلى كلمة الصديق فردَّ في سرعة: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. وهذا ذكاء منه؛ لأنه لم يسمع بعدُ من رسول الله ، فلم يرد أن يعترف بأنه رسول قبل أن يسمع منه، لكن الحقيقة أن مفروقًا كان رجلاً مؤدبًا مهذبًا -وكل وفد بني شيبان كذلك- التفت مفروق للرسول وقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟
قال رسول الله وبدأ يعرض دعوته، قال: "أَدْعُو إلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِلَى أَنْ تُئْوُونِي وَتَنْصُرُونِي".
ثم إن رسول الله أدرك بذكاء أنه سيدور بخلدهم سؤال مهم: وهو لماذا لا تقوم بهذا الدور قريش وهي القبيلة القوية المنيعة؟ فأسرع رسول الله يبرر ذلك ويقول: "فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ". أي أنه قال لهم بوضوح: المطلوب منكم أن تواجهوا قريشًا، ويبدو أن مفروقًا قد أعجبه كلام رسول الله ولم يكن خائفًا من قريش، لكنه أحب أن يعرف أكثر عن هذا الدين الجديد، فقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟
فكر الرسول أن يقرأ عليه قرآنًا، ولكن ماذا يختار من كل القرآن الذي نزل عليه؟ لقد وجد الرسول مفروقًا ومن معه ذوي أخلاق سامية، فاختار لهم آيات قرآنية تحضُّ على الأخلاق الحميدة، حتى يقف معهم على أرضية مشتركة، وهذا فكر راقٍ جدًّا.
قرأ لهم من سورة الأنعام قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151- 153].
سواء من حلاوة المعاني أو من حلاوة اللغة، شعر أن هذا إعجاز، فأراد أن يعرف أكثر، قال: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟
فقال رسول الله ضاربًا على نفس الوتر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
تأثر مفروق جدًّا بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال (ثم أخذ يذم قريشًا)، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
من الواضح أن مفروقًا أعجبه الإسلام، لكن مفروقًا زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس في يده وحده فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا (وطبعًا الواضح أن هانئ بن قبيصة كان عنده خلفية دينية أوسع، فأحب أن يأخذ رأيه).
وهانئ بن قبيصة -أيضًا- أعجبه الإسلام، وليس عنده أي اعتراض عليه، لكنه كان خائفًا من اتخاذ قرار جريء مثل هذا القرار، فهذا سيترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس مع قريش فقط، بل مع كل العرب؛ فقال: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لَوَهنٌ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزَّلَّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.
هو انسحاب مهذب من هانئ، فهو لم يطعن في كلام رسول الله ولكنه طلب الرَّوِيَّة في الأمر، وسبحان الله! مع جمال كلامه ودقة ألفاظه إلا أنني أجد موقف الصِّدِّيق t في إيمانه أعظم بكثير من موقف هانئ. نعم، الرويَّة في الأمر شيء طيب، لكن عندما يكون الحق واضحًا بهذه الصورة ثم لا تُقْدِم عليه بِعِلَّة التَّروِّي فهذا لا يُسمى ترويًا، ولكن يسمى ترددًا وغيابًا للحكمة وقلة في الثقة بالنفس، أما الصديق t فإنه لم يتردد ولو للحظة واحدة عند رؤية الحق، ولذلك أصبح الصديق صديقًا.
المهم أن هانئ بن قبيصة عبر عن رأيه كفرد، وأنا أعتقد أن هذا كان انسحابًا مهذبًا من هانئ. إذن كان مفروق موافقًا وهانئ مترددًا ويميل إلى عدم الموافقة. والآن إذا كان الأمور سيكون فيها حروب سيصبح رأي وزير الحربية في بني شيبان مُهِمًّا وضروريًّا، فمَن وزير الحربية لديهم؟
إنه المثنى بن الحارثة، قال هانئ: وهذا المثنى بن الحارثة شيخنا وصاحب حربنا.
والمثنى بن الحارثة فارس مغوار وعقلية عسكرية فذة، وأصبح بعد عدة سنوات عندما أسلم من كبار الفاتحين الإسلاميين، لكن الآن وهو ما زال كافرًا فإن له حساباتٍ تختلف عن حسابات المؤمنين، قال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة. يعني هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه بدأ يضيف معلوماتٍ جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه عن الوضع العسكري كلام مهم للغاية، وسيجعله في نهاية الأمر يتجه لاتخاذ قرار خطير، وسنرى ماذا قال المثنى: وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْنِ: اليمامة والسماوة (الصَّرَى: هو تجمع المياه، يعني: نحن بين تجمُّعين للمياه وبالتالي تجمُّعين للبشر). قال رسول الله : "ما هذان الصريان؟".
قال المثنى بن حارثة: أنهار كسرى ومياه العرب. أي تجمع دولة فارس وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كما قلنا كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية في ذلك الوقت، أما الجزيرة العربية ففيها عشرات القبائل. ماذا يريد أن يقول؟ يريد أن يقول: إن إمكانياته محدودة، وسيعرض عرضًا خطيرًا.
قال: فأما ما كان من أنهار كسرى (أي دولة فارس) فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول.
يعني بعبارة أوضح: نحن لا نستطيع إغضاب كسرى فارس، فالخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.
هذا الكلام -لا شك- واقعي جدًّا، كان مفروق يقول منذ قليل: نحن أكثر من ألف؛ لذا فنحن نقدر على العرب كلهم، أما جيش فارس فأكثر من مليونين من الجنود، الفجوة هائلة بالفعل، ومن كانت حساباته مادية فقط فمن المستحيل أن يقف أمام فارس. وفوق هذا فإن توقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام هذه، فاعرفْ يا محمد أنه لو اعترض كسرى فارس فنحن لن ننصرك ضده، انظر ماذا يقول:
وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نُؤْوي محدثًا -لا نخترع شيئًا جديدًا، ولا ندافع عن أحد جاء بشيء جديد- وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. أي أن هذا الإسلام الذي يعبِّد الناس جميعًا لإله واحد، وينزع الحاكمية من أيدي الملوك ويعطيها لله الواحد الأحد، هذا أمر تكرهه الملوك، إلا من رحم اللهُ. وصدق المثنى، فماذا يريد المثنى أن يقول في النهاية؟ في آخر الحديث لخص المثنى كلامه في قرار في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
يا الله! هذا انتصار كبير، لقد وافق المثنى بن حارثة على قبول الإسلام، بل قبول الدفاع عن رسول الله ضد كل العرب، ولكن فقط اشترط شرطًا واحدًا أنه إن اعترض كسرى فارس فهو لن يتدخل.
وفي عرف السياسيين من أهل الدنيا، هذا انتصار هائل. وانظر، رسول الله ، وهو الذي يطارد حتى في مدينته الصغيرة مكة ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من الأصحاب المضطهدين، وبقية أصحابه مهاجرون إلى الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية "بني شيبان"، ثم الاشتراط الوحيد: عدم حرب فارس إذا اعترضت على دعوة رسول الله .
والإنسان قد يفكر ويقول: وأين أنا الآن من فارس؟ عندما يأتي وقت فارس نفكر فيها، أما الآن فأمامنا فرصة الدعوة في كل الجزيرة العربية في حماية بني شيبان.
فماذا قال الرسول ؟
لقد رفض الرسول عرض المثنى بن حارثة.
سبحان الله! لماذا؟ اسمعْ وتأملْ.
لقد قال رسول الله في أدب جمٍّ: "مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ". أي أنكم أحسنتم عندما عرضتم إمكانياتكم بوضوح، ثم قال جملة في منتهى الروعة وهي قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: "فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ".
هي قاعدة عظيمة يعلمنا إياها رسول الله (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ).
لن ينصر الإسلام من ينتقي من الإسلام شيئًا ويترك أشياء، فهذا لا يعرف معنى الإسلام، لا يعرف معنى العبودية لله ، العبد لا ينتقي من كلام سيده. من ينتقِ وفق مزاجه إنما يعبد هواه لا الله، فرسول الله رفض؛ لأنه ليس هؤلاء الذين يستطيعون حمل الدعوة، رسول الله يريد رجالاً يقول لهم: الله أمركم بكذا، فينفذوه حتى لو كانت عقولهم غير مستوعبة، الله قال حاربوا فارس، لا يقول أحد منهم: أين نحن من فارس؟ جاهدْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. ادفعْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صلِّ الفجر في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صِلْ رحمك في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. إذن أين الدين؟
وما معنى العبودية إذن؟ (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ). يا الله! قاعدة هائلة. ثم قال لهم الرسول في يقين رائع: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟"
أي أن أمة فارس ستنهار تحت أقدام المسلمين قريبًا، ماذا ستفعلون ساعتها؟ هل ستدخلون الإسلام؟
فقال النعمان بن شريك زعيمهم الرابع: اللهم لك ذا.
لكن لا شك أن السابق المقاتل قبل الفتح ليس كاللاحق المقاتل في زمن التمكين. وسبحان الله لم يمر على كلام الرسول أكثر من 15 سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدكُّ حصون فارس وتزلزل عرش كسرى. والغريب جدًّا أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفًا من كسرى فارس، صار بعد إسلامه من قوّاد الجيوش التي أزاحت كسرى فارس عن مُلكه، ولكنَّ المثنى بن حارثة بعد إسلامه كان إنسانًا مختلفًا تمامًا عن المثنى قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام، وصدق الرسول الكريم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].
ثم قرأ رسول الله قول الله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. فقد قام الرسول برسالته حيث بشر وأنذر، ثم نهض من مجلسه وقال لأبي بكر الصديق وهو معجب بأخلاق بني شيبان -حتى مع رفضهم للدخول في الإسلام- قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيَّةُ أَخْلاَقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَدْفَعُ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ".
ومع فشل تلك المفاوضات إلا أن الرسول لم يجزع ولم يحزن، فالقواعد في ذهنه واضحة جدًّا، يرى الأمور والأوضاع على حقيقتها، لا يفرط، ولا يتنازل، لا يخدعه أحد أو يخوفه، يعلمنا كيف نبني أمتنا، ومن غير هذه القواعد من المستحيل بناء الأمة، ولهذا ندرس السيرة.
انتقل الرسول مباشرة إلى مجلس مجموعة صغيرة قليلة من الرجال سمعهم يتكلمون، وكان رسول الله لا يترك كبيرًا ولا صغيرًا ولا كثيرًا ولا قليلاً إلا دعاه للإسلام، فمن يا تُرى هؤلاء القوم؟ وماذا دار بينهم وبين رسول الله ؟
هذا ما سنعرفه في المقال التالي إن شاء الله.