تعدّ مسألة الملكية من العناصر الأساسية التي تستوجب التدقيق عند الحديث عن خصائص الوقف. ويقدم الباحث تأصيلاً فقهياً لملكية المنفعة من خلال تعريفها واستعراض أنواعها وأسبابها. كما يحلل البحث ما يختص به الوقف عن باقي أسباب تملك المنافع من عناصر ترتبط بفلسفته ودوره الاجتماعي.
تعد الملكية الخاصة قاعدة النظام الاقتصادي في الإسلام، وهذه الملكية وظيفة اجتماعية، والغاية منها الانتفاع المشروع بكل صوره، فليس التملك غاية في ذاته، ولكنه وسيلة للانتفاع بالعين المملوكة.
وكما عرفت الشريعة تملك الرقبة والمنفعة، عرفت كذلك تملك المنفعة وحدها، ويعبر عن تملك العين والمنفعة معاً بالملك التام، وهو ملك يخول لصاحبه الانتفاع والاستغلال والتصرف الجائز.
وأما تملك المنفعة دون الرقبة فيعبر عنه بالملك الناقص، وهذا الملك قد يخول لصاحبه الاستعمال والاستغلال أو الاستعمال فقط، وذلك وفقاً لشروط هذا التملك، وما يحفه قرائن.
وأرجع بعض المعاصرين أسباب تملك المنافع في الشريعة الإسلامية إلى: الإجارة والإعارة، والوصية والإقطاع والوراثة والوقف [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية لأستاذنا الشيخ علي الخفيف ج2 ص30 معهد البحوث والدراسات العربية – القاهرة].
وقد يكون تملك المنفعة بهذه الأسباب خاصاً أو عاماً: وهناك الأسباب التي يترتب عليها ملكية المنفعة على نحو يحقق مصلحة للأمة كالحمى والصوافي، وإن كان بين الفقهاء اختلاف حول جواز تملك الرقبة والمنفعة في الصوافي، او تملك المنفعة فحسب.
ويتناول هذا البحث دراسة تلك الأسباب في إجمال لا يعرض لكل ما ورد عن الفقهاء من آراء، وإنما يجتزئ بما يقدم تصوراً عاماً عن تملك المنافع بهذه الأسباب، مع الموازنة بينها وبين الوقف وكذلك الموازنة بين الوقف في الإسلام، والوقف لدى غير المسلمين.
عرَّف الفقهاء الإجارة بأنها عقد يفيد تمليك المنافق بعوض، وقد استدل ابن رشد الجد على جواز الإجارة بقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [سور الزخرف، الآية: 32]، وعلق على هذه الآية قائلاً: يقول تبارك وتعالى ليستسخر هذا في خدمته إياه، ويعود هذا على هذا بما في يديه من فضل الله رحمة منه لعباده، ونعمة عددها عليهم بأن جعل افتقار بعضهم إلى بعض سبباً لمعاشهم في الدنيا وحياتهم فيها، حكمة منه لا إله إلا هو" [المقدمات الممهدات ج2 ص164 ط. دار الغرب الإسلامي].
ويشير هذا الاستدلال إلى معنى لم أقف عليه لدى غير ابن رشد من الفقهاء على هذا النحو الذي عرضه [لقد ذكر بعض الفقهاء أن القياس يقتضي عدم صحة الإجارة، لأنها موضوعة للمنافع وهي معدومة، والعقد على المعدوم غرر، لكن الحاجة الماسة داعية إلى ذلك، لأن الضرورة المحققة، داعية إلى الإجارة، فإنه ليس لكل أحد مسكن ولا مركوب ولا خادم ولا آلة يحتاج إليها، فجوزت لذلك كما جوز السّلم وغيره من عقود الغرر (وانظر كفاية الأخبار ج1 ص583). وهذا التعليل بالحاجة إلى جواز الإجارة يلتقي مع مضمون ما جاء في كلام ابن رشد، وإن كان هذا – فيما أرى – قد انفرد بالتدليل بآية الخرف واستنبط منها ضرورة الاجتماع البشري]، وهو يتعلق بأن كل إنسان يفتقر إلى غيره، وأنه لا يستطيع أن يقوم وحده بكل ضرورات حياته؛ ولذا كان مدنياً بطبعه، أي أنه لا يمكنه التفرد عن الجماعة بعيشه، ومن ثم يقول ابن خلدون عن تجمع الناس بعضهم بعض إنه "ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إياهم" [مقدمة ابن خلدون ص38 تحقيق الأستاذ حجر عاصي، منشورات دار الهلال، بيروت].
فالإجارة مشروعة، بل تفرضها سنة الله في خلقه التي فاوتت بين الناس طاقاتهم وإمكاناتهم، وجعلت الجميع كما يقول الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
ويقسم بعض الفقهاء الإجارة قسمين: إجارة على المنافع كإجارة الحوانيت والضياع، وإجارة على الأعمال كاستئجار القصار والصباغ وحمل الأشياء من موضع إلى موضع [انظر: تحفة الفقهاء ج2 ط. قطر].
ومن الفقهاء من يجعل الإجارة ثلاثة أضرب: إجارة عين معينة كالدور وموصوفة في الذمة كبعير للركوب، وعقد على عمل في الذمة كخياطة عمل وحمل متاع [انظر: الكافي ج2، ص315. ط المكتب الإسلامي].
ولكن هذه التقسيمات لعقد الإجارة لا تعني أنه في بعض صوره لا يفيد تمليك المنافع بعوض، فهذا العقد مهما تكن صورته يفيد المستأجر ملك المنفعة التي كانت موضوعاً لـه، غير أن هذه المنفعة تارة تكون محلها عيناً من الأعيان كالسكن بالنسبة للدور، وتارة تكون محلها الذمم كالأعمال بالنسبة للعمال، فإن محل العمل الذي وقع عليه عقد الإجارة هو في ذمة العامل؛ لأنه بهذا العقد تشغل ذمته به كالدين تشغل به ذمة المدين [انظر: الملكة في الشريعة الإسلامية: ج2، ص31].
وللفقهاء شروط وضوابط متعددة للإجارة المشروعة، لا يسمح المجال بتفصيل القول فيها، ومن هذه الشروط أن تكون المنفعة مباحة، وأن تكون العين المؤجرة معلومة، ويمكن استيفاء هذه المنفعة منها مع بقاء عينها إلى غير ذلك من الشروط التي تمنع التنازع أو أكل المال بالباطل.
إذا كانت الإجارة تمليكاً للمنافع بعوض فإن الإعارة تمليك للمنافع بغير عوض لدى الحنفية والمالكية، وخالفهم الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن العارية ليست الإجارة في تملك المنافع، وإنما تعدّ سبباً لإباحتها، وأخذ بهذا الرأي بعض الأحناف [انظر: الملكة في الشريعة الإسلامية: ج2، ص32].
ولكن رأي في تملك المنافع بالإعارة أو إباحتها أدلته، بيد أنها كلها لا تسلم من الأخذ والرد؛ لأنها اجتهادية، ومن ثم ليس فيها دليل يلزم المخالف.
ومهما يكن بين الفقهاء من اختلاف في ملكية المنفعة للمستعير أو إباحتها له وما يترتب على ذلك من حقوق والتزامات بالنسبة للعين المعارة، وهل يد المستعير عليها يد ضمانة فإذا هلكت بلا تعد ولا تقصير ضمنها، أم أن تكون يده يد أمانة فلا يضمنها إلا إذا هلكت بتعد أو تقصير، فإن المستعير ينتفع بالعين المعارة دون عوض، ولذلك عرفها البعض بأنها هبة المنافع [انظر: الكافي، ج2، ص381]، وكانت لهذا من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فهي مندوب إليها، وينبغي على الناس أن يتوارثوا العارية فيما بينهم ويتعاملوا بها، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها واختار لئيمها ومذمومها [انظر: المقدمات الممهدات، ج2، ص469].
وتجوز إعارة كل ما يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه منقولاً كان أم عقاراً، ولا تجوز العارية إذا كانت تؤدي إلى محرم؛ لأن العارية من مكارم الأخلاق، فإذا أفضت إلى معصية أو أعانت عليها لم تكن عملاً معروفاً أو مشروعاً [انظر: سبب الالتزام الشرعي في الفقه الإسلامي للدكتور جمال الدين محمود، ص476 ط. دار النهضة العربية، القاهرة].
وتتفق كلمة الفقهاء على أن المستعير في انتفاعه بالعين المعارة يتقيد بما قيده به المعير، اللهم إلا في منفعة مثل ما أذن بها المعير في النوع أو إلى ما هو أخف منها وأدنى مشقة، فلا حرج على المستعير في الانتفاع بالعين، وهذا ما أخذت به القوانين المدنية المعاصرة، فقد نصت المادة 639 في القانون المدني المصري على أن للمستعير أن يستعمل العارية على الوجه المبين ف ي عقد الإعارة مع مراعاة العرف وطبيعة العين المستعارة، ولا يجوز له دون إذن المعير أن ينزل عن الاستعمال لغيره، ولو على سبيل التبرع، ولا يكون مسئولاً عما يلحق الشيء المعار من تغيير أو تلف بسبب الاستعمال الذي يبيحه عقد العارية [انظر: الملكة في الشريعة الإسلامية ج2، ص38].
والعارية قد تكون مطلقة ومقيدة، وإذا كانت مطلقة فإن للمستعير أن ينتفع بالعين المعارة بأي نوع من ضروب الانتفاع، وفي كل ما تصلح له في أي وقت وفي أي مكان، وإذا كانت مقيدة كان على المستعير أن يلتزم بما قيده به المعير.
من أسباب الملكية في الإسلام الملكية بالخلافة عن المالك، وهذه الخلافة قد تثبت بحكم الشرع، وهذا في المواريث، وقد تثبت بإدارة الشخص، وهذا في الوصايا، وهذه خلافة اختيارية من الموصي ومن الموصى له.
ولقد حدد الشارع حدوداً للخلافة الاختيارية في القدر الذي تجوز فيه، وفي صفة الموصى لـه، وفي الباعث على تلك الخلافة وفي الشروط المقترنة [انظر: شرح قانون الوصية للشيخ محمد أبو زهرة ص9، ط. دار الفكر العربي، القاهرة].
وتعرف الوصية بأنها: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت، وقد أجاز الشارع للمسلم أن يتصرف في ثلث التركة وفق الضوابط الشرعية، لكي يتدارك ما في هذه الحياة، لذلك فهي مندوبة أو مستحبة لمن ترك خيراً أو كثر ماله، ويذهب بعض الفقهاء إلى أنها واجبة للأقارب غير الوارثين [انظر: الكافي ج2، ص474]، وقد ورد عن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – أنه قال: ”إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم“ [رواه ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، وأحمد في مسنده].
وتنصر بعض آيات المواريث على أن الورثة لا يستحقون ما فرض لهم إلا بعد وصية كان المورث قد أوصى بها أو دين.
والوصية كما تكون تمليكاً للأعيان تكون تمليكاً للمنافع.
ويرى الحنفية والحنابلة أن الوصية بالمنافع تمليكها سواء أكانت مطلقة أم مقيدة؛ ولذا يجوز للموصى له أن يؤجر وأن يعير؛ لأنه مالك المنفعة.
وأما المالكية فيرون أن الوصية بالمنافع قد تفيد ملك المنفعة، وقد تفيد حق الانتفاع، وذلك بحسب ما تدل عليه عبارتها وما يحفُّها من القرائن.
ويرى الشافعية أن الوصية بالمنافع قد تكون تمليكاً إذا كانت مؤبدة أو مطلقة، فإذا كانت مقيدة بحياة الموصى له، كانت من قبيل الإباحة [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية ج2، ص40].
وقد ذهبت بعض القوانين إلى أن الوصية بالمنافع لا يجري فيها التوارث، وتنتهي بوفاة المنتفع [انظر: شرح قانون الوصية، ص153 هامش].
يعني مصطلح الإقطاع فقهاً: ما يقوم به ولي الأمر العادل من إعطاء بعض الناس من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً لذلك، وأكثر ما يستعمل في الأرض وبخاصة الموات [انظر: نيل الأوطار، ج6 ص57 ط. دار القمر، بيروت].
والإقطاع مشروع لما روى وائل بن حجر أن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – أقطعه أرضاً بحضرموت، وبعث معاوية ليقطعها إياه [رواه الترمذي: كتاب الأحكام، باب ما جاء في القطائع، وصححه، وأبو داود: كتاب الإمارة، باب في إقطاع الأرضيين. وانظر المرجع السابق]، وروي أن أبا بكر أقطع الزبير، وأقطع عمر علياً، وأقطع عثمان خمسة من أصحاب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: الزبير وسعد، وابن مسعود وخباباً وأسامة بن زيد رضي الله عنه [انظر: الفقه الإسلامي وأدلته ج5، ص567 ط. دمشق].
ويرى الأحناف أن الإقطاع قد يكون سبباً لملك المنفعة، كما يكون سبباً لملك الرقبة وأنه أفاد ملك المنفعة فقط ينتهي بموت صاحبه.
ويتفق المالكية والشافعية على أن الإقطاع ليس من قبيل التمليك، وأنه لا يفيد إلا ملك المنفعة، وأن للإمام أن يسترد ما أقطعه في أي وقت شاء.
ولا خلاف بين الحنابلة في أن للإمام أن يقطع على وجه الاستغلال لا وجه التمليك، ولكنهم يختلفون إذا كان الإقطاع على وجه التمليك فمنهم من منعه ومنهم من أجازه.
وإذا كان الإقطاع على وجه الاستغلال كان لمن أقطع له أن يؤجر، لأن الإجارة من قبيل الاستغلال، وهذا يدل على ملك المنفعة [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، ج2 ص43].
ويبدو من هذه الإشارات إلى آراء الفقهاء في الإقطاع أنه يفيد ملك المنفعة بلا خلاف، ولكنهم لا يتفقون على أنه يفيد ملك الرقبة.
يراد بالوراثة هنا وراثة الأعيان، وللفقهاء آراء مختلفة في جواز وراثة المنافع، فالحنفية يرون أن ملك المنافع ومثله حق الانتفاع لا يقبل التوارث، بل ينتهي بموت مالكه ولا ينتقل إلى الورثة بأية حال.
واستثنى الحنفية من ذلك المرور والشرب والمسيل والتعلي فذهبوا إلى انتقالها بالوراثة، وإن كانت من قبيل ملك المنفعة؛ وذلك لأنها جرت مجرى الأموال في دوامها وبقائها لاصقة بالعقار فثبت فيها لذلك التوارث [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، ج2 ص44].
وأما المالكية والشافعية والحنابلة فيقيدون وراثة المنافع إذا كانت الوصية بها غير محددة بموت الموصى له، وذلك بناء على أنها أموال عندهم، والأموال تورث، ولهذا يرون في الوصية المؤقتة أنها تنتقل إلى الورثة إذا مات الموصى له قبل انقضاء المدة المحددة، ويكون هذا الانتقال مقصوراً على المدة الباقية فمن أوصى له بسكن دار عشر سنين ثم مات بعد سنتين من قبوله الوصية حب ورثته محله في المدة الباقية بالوراثة.
ويذهب الحنفية إلى أن الإجارة تنتهي بوفاة المستأجر أثناء مدتها، فلا توارث فيما يترتب عليها من منافع، ولكن الشافعية والحنابلة يرون أن منافع العين المستأجرة تنتقل بطريق الوراثة بقية المدة إذا مات المستأجر في أثناء مدة الإجارة.
ويذهب المالكية إلى أن الورثة يقومون مقام المستأجر في استيفاء منافع العين المؤجرة المدة الباقية إذا كانت أجرة هذه العين قد أعطيت للمؤجر في حياة المستأجر، فإذا لم تكن الأجرة قد أعطيت كلها والتزم ورثة المستأجر بما يكون قد بقي للمؤجر من أجرة، فإنهم يقومون مقام مورثهم في منافع بقية المدة إذا رضي المؤجر بذمتهم أو نقدوه الأجرة، فإن لم يرض كان له فسخ عقد الإجارة.
وقد أخذت القوانين المعاصرة بوراثة المستأجر لمنافع العين المؤجرة. والإعارة لدى الأحناف تنتهي بوفاة المستعير فلا توارث فيما تفيده من منافع، ووافقهم في هذا الشافعية والحنابلة.
وأما المالكية فيرون أن الإعارة إذا كانت مقيدة بمدة أو بعمل فإنها تلزم المعير ومن ثم لا يجوز له أن يسترد العارية قبل المدة أو قبل انقضاء العمل، وطوعاً لهذا يقوم وراث المستعير مقامه فيما بقي من المدة.
وذهبت القوانين الوضعية إلى أن العارية تنتهي بوفاة المستعير ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك.
ولا توارث في الإقطاع عند من يرى أنه يبطل بموت المنتفع، وكذلك عند من يرى أنه لا يفيد إلا حق الانتفاع ما لم يجر العرف ببقائه بعد وفاة المنتفع وانتقاله إلى ورثته بالوراثة.
وعلى القول بأن الإقطاع لازم ويفيد ملك المنفعة تجري فيه الوراثة [انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية ج2، ص44-47].
أصل الحِمَى عند العرب في الجاهلية أن الرئيس منهم كان إذا نزل بأرض مخصبة استعوى كلباً على مكان عال، فحيث انتهى إليه صوته من كل جانب حِماه لنفسه فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه [نيل الأوطار ج6، ص52].وهذا اللون من الحِمَى لا يجوز شرعاً فقد نهى عنه النبي – صلّى الله عليه وسلّم – لِمَا فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق [الفقه الإسلامي وأدلته ج5، ص571].
فالحمى يطلق على تخصيص أجزاء من أرض الكلأ للخيل الغازية ونعم الصدقة وابن السبيل ولذوي القطعان الصغيرة ممن لا يملكون أرضاً يرعون فيها، وقد حمى الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – فقد روي عن ابن عمر أن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – حمى النقيع للخيل، خيل المسلمين [رواه الإمام أحمد، والنقيع موضع على بعد نحو مائة كيلو متر من المدينة، والنقيع يطلق على البئر الكثيرة الماء، ويراد به في الحديث مكان يكثر فيه الماء ويمكث طويلاً فيكثر فيه الخصب لذلك].
وقد حمى أصحاب الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – من بعده، وبخاصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فقد روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: ”أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال له يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر – رضي الله عنه – وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كره أمراً فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي ما به، جعل يردد ذلك، فقال عمر: المال مال الله والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من أرض المسلمين شبراً في شبر [انظر: الفقه الإسلامي وأدلته ج5، ص572].
وعن أسلم مولى عمر، أن عمر استعمل مولى لـه يدعى: "هُنَيّاً" على الحمى، وقال له: يا هنيّ: اضمم جناحك على المسلمين، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصُّرَيمة ورب الغنية، وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ما شيتهما يأتيني ببينة يقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، فالماء والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورق.
وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً [نيل الأوطار ج6، ص52].
لقد كان موقف ابن الخطاب – رضي الله عنه – من الحمى موقفاً صارماً، لقد واجه المعترضين عليه في إصرار وحجة، ولم يأبه بمن رأى في عمله ظلماً لـه، لأنه لا يحمي الأرض لنعم عمر وآل عمر، وإنما لمصالح المسلمين [انظر: منهج عمر بن الخطاب في التشريع للدكتور محمد بلتاجي ص202 ط. دار الفكر العربي، القاهرة].
عرف تاريخ الأمة ما يسمى بالصوافي، وهي كل أرض كانت للحكام الذين قضى الإسلام على سلطانهم، وفتح بلادهم، كما تشمل أرض كل من قتل في الحرب من الأعداء، أو أرض رجل لحق بأهل الحرب، وهذه الأراضي كان للإمام الخيار فيها فيما يراه محققاً لمصالح الأمة. ويروى أن عمر بن الخطاب استصفاها، أي جعلها خالصة لبيت المال، ومن ثم سميت الصوافي، كما سميت أيضاً القطائع، لأنها اقتطعت فيما بعد لمن يتعهدونها.
وقد اختلف في شأن أرض الصوافي، فمن الفقهاء من يرى أنها أصبحت ملكاً للمسلمين كافّةً، فحكمها حكم الوقف المؤبد، ومن ثم لا يجوز اقتطاع الرقبة، ومنهم من يذهب إلى أنه ما دام للإمام الخيار فيها بما يراه محققاً لمصلحة الأمة فإنه يجوز إقطاع الرقبة إذا كان ذلك يعود على الأمة بالخير والمصلحة [انظر: منهج عمر بن الخطاب في التشريع للدكتور محمد بلتاجي ص204 ط. دار الفكر العربي، القاهرة].
يتضح من ذلك الحديث المجمل عن أسباب تملك المنافع أن هذه الأسباب – وإن كان لها شبه بالوقف وأسهمت في الحفاظ على قوة المجتمع الإسلامي لم تبلغ منزلة الوقف ولم تحمل رسالته الشاملة؛ لأن دائرة الخير فيها محدودة، ولا تعرف صفة الاستمرار، فضلاً عن أن بعضها كان ينقطع بتغير الولاة أو وفاة المنتفع، وبعضها الآخر كانت المنفعة من ورائه لقاء عوض كالإجارة، فليس لها من وجوه الخير إلا معنى التعاون بين الناس على مواجهة أعباء الحياة، تلك الأعباء التي ينوء الفرد وحده بحملها، والتي تفرض على الجميع أن يبذل كل منهم وفق ما يسر لـه من الطاقات، حتى يحصل كل فرد على ما يحتاج إليه من أمور معاشه دون عنت أو مشقة بالغة.
ولكن الوقف الخيري يختلف عن كل هذه الأسباب في أن رسالته تشمل قطاعات متباينة في المجتمع وتأخذ طابع الاستمرار؛ ولذا ظل هذا الوقف الصدقة الجارية التي صنعت الحضارة الإسلامية، وحافظت على هُوية الأمة، وكانت للدولة عوناً في حماية الموازنة المالية من العجز أو التقصير في أداء واجباتها، فقد حملت عبء كثير من مسئوليات الدولة إن لم يكن أغلبها.
صحيح أن للزكاة رسالتها المهمة في حماية الأمة من كثير من المشكلات، وأنها بمصارفها المعروفة تلتقي مع الوقف في بعض صوره وأنواعه، وأن هناك علاقة تكاملية بينه وبينها، غير أن فريضة الزكاة لم تلق من الدولة على مستوى العالم الإسلام يما يجب من التحصيل والإنفاق، وترك أمرها لضمائر الأفراد وتقديرهم الذاتي في أغلب الأحيان، مع أن مسؤولية وليّ الأمر تقتضي جمع الزكاة ممن [انظر: فقه الزكاة للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ج2، ص747 ط. مؤسسة الرسالة] وجبت عليهم دون تهاون في ذلك وإنفاقها في مصارفها المشروعة وقد نجم عن إهمال الدولة لجمع الزكاة أن فتر الحماس لإخراجها، وتصرف من يخرجها أحياناً دون التزام بالضوابط الشرعية، ولكن الوقف ظل يحمل رسالته، وكان الإقبال عليه عبر العصور قوياً، ولذلك راج سوقه وكثرت الأموال الموقوفة كثرة هائلة، وكانت المورد الذي لا ينضب معينه لصنع التقدم والرخاء والتطوير والازدهار، وهذه حقيقة يعترف بها المسلمون وغير المسلمين، ومن عجب أن من الغربيين من عكف على دراسة الوقف وتحليل وثائقه في أكثر من دولة إسلامية على مدى ستة قرون (1340-1947م) وانتهى إلى أن أوجه الخير التي حبست عليها الأموال كان لها أثرها الرائع في العمران والحضارة والتنمية [انظر: بحث الوقف الإسلامي للدكتور جمال برزنجي ص38، ندوة الوقف - الكويت].
وإذا كان الوقف في الإسلام يختلف عن أسباب تملك المنافع من حيث الشمول والاستمرار، فإنه يختلف عن الوقف في الغرب، أو الوقف في الدول غير الإسلامية من حيث الباعث والغاية والمجالات، فالحضارات القديمة وإن عرفت بعض ميادين البر فإنها كانت مقصورة على المعابد والمدارس، وفي العصر الحاضر عرفت أمم الغرب المؤسسات الخيرية والاجتماعية الكثيرة، ولكنها لم تبلغ ذروة السمو الإنساني الخالص لله عز وجل، كما بلغته الأمة الإسلامية في كل عصورها.
وإن لطلب الجاه والشهرة أو انتشار الصيت أو خلود الذكر الأثر الكبير في اندفاع الغربيين نحو المؤسسات الإنسانية العامة، على حين كان الدافع الأول للأمة الإسلامية على أعمال الخير ابتغاء وجه الله – جل شأنه – سواء أعلم الناس بذلك أم لم يعلموا، ويكفي شاهداً على هذا أن المجاهد البطل صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) أنفق أمواله كلها على جهات البر [انظر: من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي، ص122، ط. المكتب الإسلامي، والناصر صلاح الدين للدكتور عبد الفتاح عاشور ص287 سلسلة أعلام العرب]، وملأ البلاد الشامية والمصرية بالمؤسسات الخيرية من مساجد ومدارس ورباطات وغيرها دون أن يسجل على واحدة منها اسمه، وإنما كان يسجل عليها أسماء قواده، ووزرائه وأعوانه وأصدقائه، وهذا غاية ما يكون من التجرد عن حظوظ النفس في أعمال الخير [انظر: من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي، ص122، ط. المكتب الإسلامي، والناصر صلاح الدين للدكتور عبد الفتاح عاشور ص287 سلسلة أعلام العرب].
على أن الغربيين في مؤسساتهم الاجتماعية والخيرية كثيراً ما يكون الانتفاع بها مقصوراً على أبناء بلادهم أو مقاطعاتهم. وفي بعض الأحيان توجه أموال تلك المؤسسات إلى أعمال غير إنسانية كمساعدة المتردين على السلطة الشرعية أو الذين يغتصبون حقوق سواهم وممتلكاتهم.
والمؤسسات الخيرية في الإسلام، وعلى رأسها مؤسسة الوقف، تفتح أبوابها لكل إنسان بقطع النظر عن جنسه أو لغته أو عقيدته أو وطنه.
والمؤسسات الخيرية الإسلامية شملت وجوهاً من الخير والتكافل الاجتماعي لم يعرفها الغربيون حتى اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدهشة، وتدل على أن النزعة الإنسانية في الأمة الإسلامية أشمل وأصفى من كل نزعة إنسانية لدى الأمم الأخرى [إن وثائق الوقف تبدأ غالباً بعبارات تدل على أن الواقف إنما وقف أمواله طلباً لمرضاة الله وابتغاء وجهه الكريم، لا سعياً وراء مغنم دنيوي، وتشتهر الوثائق الوقفية في تركيا جمل ذهنية تشير إلى أغراض وغايات الأوقاف الإسلامية التركية، وهذه الجمل هي: بحق فردانية الله تعالى وقفت هذا – وبحث رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقفت هذا – وبحق صدق أبي بكر رضي الله عنه وقفت هذا – وبحق عدالة عمر وقفت هذا – وبحث حياء حضرة عثمان وقفت هذا – وبحق سخاء حضرة علي وقفت هذا. وانظر مجلة الوعي الإسلامي، العدد 374 شوال 1417هـ ص64].
والوقف – كما أشرت من قبل – هو المؤسسة الأم في مجال العمل الخيري في الإسلام وهي مؤسسة فريدة في مواردها ومجالات إنفاقها، وكان لها دورها في تنمية المجتمع تنمية شاملة كانت محل تقدير واهتمام من جميع الباحثين والعلماء في الشرق والغرب على السواء.
أ. د. / محمد الدسوقي
أستاذ بكلية الشريعة – جامعة قطر