الجامعات بين التغيير والاستقرار

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : د‏.‏ محمد نصار | المصدر : www.ahram.org.eg

كان توقيت بدء الثورة في الخامس والعشرين من يناير قبيل إجازة نصف العام التي استمرت أسبوعين وما تلا ذلك من تأجيل الدراسة لمدة وصلت لشهر في بعض الجامعات عاملا مؤثرا بالسلب في وصول مد التغيير.

الذي دفعت به الثورة للجامعات, فعندما حل الفصل الدراسي الثاني كانت مصر قد أنجزت قدرا كبيرا من التغيير بعد فترة مفعمة بالتوتر, ودخل الاقتصاد مرحلة حرجة تتطلب الهدوء الذي لم تكن البلاد تستطيع الاستغناء عنه مدة أخري.
هنا عاشت الجامعات تحت العهد السابق فترات من الركود والتراجع وانعدام الكفاءة في التعيينات الجامعية والميل في غالب الحالات إلي الإتيان بأشخاص إما يتسمون بالطاعة العمياء المصحوبة بانعدام الرؤية الفكرية, وإما بالفساد الإداري والمالي, وإما بالفشل الاتصالي بحكم أن ولاء تلك القيادات الرديئة هو في المقام الأول لمن أتي بهم لمناصبهم, لا لكلياتهم ولا لزملائهم, في تراتبية حكمت العمل الجامعي في كل مستوياته وصولا إلي منصب وزير التعليم العالي نفسه.
إلا أن المد الثوري وحالة الاحتقان الشديدة التي أنتجتها تلك القيادات جعلت هذا الهدوء المرغوب فيه بشدة من جانب قيادة الدولة أمرا صعب المنال, وأنتج هذا أزمة أصبحت حالة كلية الإعلام بجامعة القاهرة تجسيدا حيا لها, فمن جانب توجد ضرورة للتغيير وخوف من ضياع فرصته مع صعوبة وجود حراك عام في الدولة مع ثبات الحالة في الجامعة, وهذا هو العامل النفسي المحرك للحركة الاحتجاجية المستمرة في بعض المواقع الجامعية. ومن جانب آخر توجد ضرورة للاستقرار الجامعي إنجازا للفصل الدراسي لا المحافظة علي تلك القيادات.
وفي الحقيقة لم تكن إدارة الأزمة علي مستوي حركة التغيير التي أنتجتها الثورة فاستمرت الأزمات وتطاولت في بعض الأماكن وإن هدأت مؤقتا في أماكن أخري. واللافت للنظر هنا عدم قدرة الخطاب الذي اعتمدته وزارة التعليم في التعامل مع الأزمة علي مواكبة الأوضاع فضلا عن استباقها ولو من جانب تهدئة الفعاليات الجامعية المختلفة من أساتذة وطلاب وإداريين, فبينما كان جميع هؤلاء يتطلعون إلي تغيير يستأصل الفساد المالي وعدم الكفاءة الإدارية ويرد بعض الحقوق لأصحابها, كان خطاب وزارة التعليم يرفض التغيير ويرد ذلك إلي ضرورة الاستقرار, كي تنتظم العملية التعليمية وينتهي الفصل الدراسي علي خير.
وعلي عكس خطابات أخري في الدولة, بدأت مع حكومة الفريق شفيق, تعاملت مع الإضرابات الفئوية ذات المطالب الباهظة أصلا بخطاب استباقي يؤكد مشروعية المطالب وأنها في طريقها للتحقيق مع ضرورة إعطاء الدولة الفرصة لالتقاط الأنفاس, جاء خطاب وزارة التعليم مانعا من التغيير وقامعا لأشواقه, رغم أن التغير المطلوب في الجامعات هو تغيير في القيادات وهو تغيير لا يشكل ضغطا علي ميزانية الدولة ولا يعوق عملية التنمية, بل هو سبيل مؤكد لدفعها قدما وبث روح التفاؤل في الدولة.
هذا فضلا عن استناد خطاب وزارة التعليم علي مغالطة تقول إن التغيير السريع يضاد للاستقرار, معيدة بذلك إنتاج خطاب النظام السابق بدلا من التوافر علي إنتاج رؤية للتغيير لم تكن لتستغرق الكثير من الوقت لإنجازها, رؤية تحقق ما هو ضروري للجامعة كي لا يزداد الاحتقان فيها, وتحافظ في الوقت نفسه علي سير العملية التعليمية. فلم يكن المحتجون يبحثون عن تقليل ساعات التدريس مثلا ولا عن تغيير جداول المحاضرات, ولا عن زيادة الحوافز في المقام الأول, بل كانوا يبحثون عن قيادات يثقون فيها ويطمئنون إليها, قيادات تعرف معني الديمقراطية وتعيشها وتجعل غيرها يعيش فيها.
ما كان للجامعات المصرية أن تشهد رداءة الأداء الإداري لكثير من قياداتها, وتلوث هؤلاء بالتعامل المستمر مع جهاز أمن الدولة السابق بل الإتيان بالبلطجية وإدخالهم الجامعات في بعض الأحيان ثم تقبل بأن تستمر تلك القيادات في مناصبها لأجل غير مسمي, بل أن تسكت الجامعة وتبتلع مرارة وجود تلك القيادات!
وكانت الحجة الرئيسية لوزارة التعليم العالي منذ الأيام الأخيرة للحكومة السابقة, كما عبر عنها الدكتور أحمد جمال الدين الذي تولي هذه الوزارة لعدة أيام قبل أن يتركها لخلفه الدكتور عمرو سلامة, أن القانون لا يسمح بإجراء انتخابات لتغيير القيادات الجامعية ولو علي مستوي العمداء.
وكان الحل العملي لهذا الإشكال يتمثل في واحد من أمرين; الأول: أن يصدر مرسوم من المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتغيير هذا القانون, وهو حل قد لا يكون مقنعا لقيادات المجلس نفسها التي تبدو غير راغبة في التدخل في الأضاع المدنية بشكل كبير, وهو موقف يستحق الكثير من التقدير إن صح هذا التفسير.
والثاني: أن تجري انتخابات لتغيير العمداء بوصفهم أصحاب الثقل الإداري الحقيقي داخل الكليات بشكل غير رسمي ولكن منضبط من الناحية الإجرائية ثم يقوم رؤساء الجامعات بإقالة العمداء الحاليين وتعيين العمداء الجدد. وكان الإجراء المتمم لهذا الإجراء أن تبدأ عملية تشاور بين رؤساء الجامعات والعمداء لتغيير من يستحق التغيير من وكلاء الكليات اعتمادا علي أن العمداء يحملون رؤية القواعد التي اختارتهم بوصفهم صاروا معبرين عن هذه الإرادة التوافقية لأعضاء هيئات التدريس.
وكان من شأن هذا الحل أن يقضي علي مركزية اتخاذ قرارات تعيين العمداء التي تضع الخيوط كلها بأيدي رؤساء الجامعات العاجزين عمليا عن الاختيار بسبب العدد الكبير من الكليات في كل جامعة وانتهاء عصر التقارير الأمنية التي كانت تمثل العامل الحاسم في الاختيار وفي ظل المركزية الخانقة لحسن الاختيار.
والغريب أن هذا الحل جري تنفيذه في حالة كلية الآداب بجامعة عين شمس بفعل تعيين عميد الكلية مستشارا ثقافيا, فكان أن جرت الانتخابات بسبب إصرار أساتذة الكلية علي إجرائها, ثم قام رئيس الجامعة بتعيين من وقع عليه الاختيار عميدا للكلية.
وهذا الحل العملي مازال بالإمكان تعميمه علي مراحل تتناول عددا من الجامعات يتلوها عدد آخر, أو يمكن كبديل أن ينفذ في الجامعات كلها مع تقسيم التنفيذ إلي مرحلتين أو ثلاثة تضم كل مرحلة عددا من الكليات يفصل بينها بفاصل زمني قصير يتمكن خلاله رؤساء الجامعات من تنفيذ التغيير وتعزيزه.
وأشد ما يخشي هو أن يبقي خطاب التغيير في قطاع الجامعات بطيئا أو ضعيفا متأثرا بنظام سياسي وبطريقة تفكير صار جزءا من الماضي, بحيث تكون السمة المميزة له هي القصور الذاتي الناشئ عن أوضاع قديمة قد يكون اعتادها البعض. ومن حق الجامعة, التي هي روح الدولة علي الحقيقة, ومحط آمال النهضات, وطليعة التقدم والإنجاز ألا يكون الخطاب المتعامل مع مشكلاتها وتطلعاتها في ذيل خطابات التغيير التي عمت البلاد, خاصة أن هناك وزارات تشهد حراكا مهما بفعل حركية من يتولون تلك الوزارات, كوزارة السياحة مثلا. ومن حق الشاعرين بخيبة الأمل من بقاء أصحاب الأداءات الرديئة في مواقع العمادة والوكالة أن يحصلوا علي الحد الأدني من متطلباتهم وهو القيادة المتسمة بالكفاءة المعبرة عنهم وعن طموحاتهم المشروعة.