تمنُّ دول العالم المتقدمة صناعياً على الدول الفقيرة بأنها تتبنى إجراءات لمكافحة الفقر نيابة عنها، ومن ذلك إلغاء ديون مجموعة من الدول الفقيرة وذلك في محاولة لإسعاد ملايين الفقراء. ولم تدرك أنهم لم يعلموا ولم يشعروا بهذه القروض حتى ينعموا بنتائج قرارهم الأخير.
هناك سؤال بسيط يطرح نفسه والإجابة عنه توضح مَن المستفيد من القروض ومن المستفيد من الإعفاء، والمقصود بالمستفيد هنا المستفيد الحقيقي لا الاسمي، وذلك كعادة الاقتصاديين في التفرقة بين القيم الحقيقية والاسمية للمتغيرات الاقتصادية.
هذه القروض في مجملها قدمت لحكومات تعاني من الفساد المالي والإداري وأغلبها لم يصل إلى مستحقيها، بل ظلت في البنوك الغربية لكن تحولت من حساب إلى آخر، وما يصل إلى البلدان الفقيرة يذهب للمقاولين الغربيين الذي ينفذون المشروعات الممولة بهذه القروض، وأجوراً للخبراء والمستشارين الغربيين، ولا يمكن إغفال الفساد المالي أيضاً عند ترسية هذه المشروعات أو تقدير المقابل المادي لخبرات الأفذاذ من المخططين وواضعي السياسات والاستراتيجيات ومنفذي البرامج التنموية والإغاثية في الدول الفقيرة، وما برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق عنا ببعيد.
ولذا فإنه من غير المتوقع أن يكون الإعفاء من الديون حلاً لمشكلة الفقراء في العالم، فهي لم تترجم أساساً إلى مشروعات وخدمات وإعانات يستفيدون منها، كما أنهم لا يسددون حالياً شيئاً إذ إنهم لا يتوافر لهم الغذاء والسكن والعلاج، والضروري جداً، فأبسط مقومات الحياة غير موجودة، وما حصل لا يعدو أن يكون دعماً للمستفيد الحقيقي من هذه القروض وإزاحة هم الدين عن كاهله، وتمكينه من إضافة أية قروض أو إعانات جديدة إلى حسابه بدلاً من إعادتها مرة أخرى مضافاً إليها الفوائد إلى المقرضين سداداً للقروض القديمة.
لا أتصور أنه من المستحيل الوصول إلى القروض الأصلية وصرفها على مستحقيها والتأكد من وصولها إليهم، وذلك حتى يكون للإعفاء معنى لدى فقراء العالم، وحتى يشعروا بعظيم الامتنان لأغنياء العالم.
من الأمور البدهية أن التشخيص السليم للمشكلة أو المرض هو الأساس في العلاج، وما نحتاجه الآن هو التعرف على أسباب الفقر في دول غنية بمواردها الطبيعية والبشرية وتكاد تكون ممول التقدم الصناعي ومستوى المعيشة المرتفع في الدول الغنية، ولو أخذنا حالة العراق ونيجيريا وليبيا والسودان وروسيا لحار العقل في استيعاب حقيقة أن الفقر موجود في هذه الدول فضلاً عن أنه ضارب أطنابه.
تكمن الأسباب الحقيقية للفقر في أنماط الحكم الدكتاتورية والفساد المالي ونهب المال العام، ويبدأ الحل من تثقيف الشعوب وتمكينها من تقرير مصائرها ومحاسبة الفاسدين وإقصائهم عن مراكزهم وتطبيق الشفافية في السياسات والإجراءات الحكومية.
ومن الأشياء الطريفة لحل مشكلة الفقر الحفلات الغنائية والراقصة التي استمتع بها الأغنياء كثيراً، وكان من المناسب توفير جهاز تلفزيون وكهرباء ومكان مناسب لكل عائلة فقيرة حتى تستمتع بمتابعة مدى اهتمام الأغنياء بهم وتدرك ذلك قبل أن تموت جوعاً أو عطشاً أو مرضاً لئلا يساء فهم هذه الحفلات وينظر إليها على أنها ترانيم جنائزية للفقراء الأموات، وتكون الدول الغنية بذلك قد شملت بعطفها الفقراء الأحياء منهم والأموات.
جريدة الجزيرة / الأربعاء 29 من جمادى الأولى 1426هـ من يوليو "تموز" 2005م العدد 11969
الدكتور / محمد اليماني