لنعترف أننا مجتمع غير اقتصادي، أعني أننا مجتمع نستهلك أكثر مما ننتج، نفتقد ثقافة الندرة، بل ثقافة الزهد، نتصرف بلا مسؤولية تجاه أنفسنا والأجيال المقبلة وكأننا لا نخشى نضوب النفط أو إيجاد البديل له ونفاد الموارد. لا نجيد صرف الريال على النشاط المناسب ذي العائد الأعلى، أولوياتنا إما غامضة وإما غائبة وإما غير مرتبة. في كثير من الأحايين نصرف دون خطة ومعرفة بالبدائل المتاحة، فتجدنا لا نحسب لكل ريال والعائد من صرفه، بل هاجسنا وهدفنا من الاستهلاك أن نجاري بعضنا بعضاً ونتنافس في المباهاة والشكليات ثم نحاول إيجاد مبررات منطقية أو غير منطقية لهذا السلوك الاستهلاكي. الأدهى والأمر أن وصل بنا الحال إلى نعت من يسلك سلوكاً اقتصادياً بأنه بخيل! فالاقتصاد مفهوم مرفوض اجتماعياً لا يتسق مع قيم الكرم العربي من البذل بسخاء والعطاء دون حساب فيم يستحق وما لا يستحق ليصل إلى حد البذخ! هناك الكثير من المظاهر الاجتماعية العجيبة التي يصعب فهمها وتبريرها. البعض (إن لم تكن الأكثرية) لديه نزعة نحو الحصول على الأكبر والأكثر من كل شيء، بغض النظر عن التكلفة والفائدة المحققة. فهذه حفلات الأعراس أكبر شاهد وأوضح دليل على الإنفاق في غير محله. كل ذلك من أجل ألا يعاب على أهل العروسين أو من أجل التميز عن الآخرين! أما بناء المساكن فقد تعدى الحدود لتتحول إلى قصور! فلطالما سمعنا في المجالس نقاشات تدور حول تكبير المسكن قدر الإمكان بل أكثر من حدود القدرة دون الربط بين مساحة المسكن وحجم العائلة والتكلفة التشغيلية. المبرر لهذا التضخم في المساكن يأتي تحت شعار "بيت العمر"! مع أن مساحة المسكن إذا لم تكن متناسبة مع احتياجات السكان فإنه يكون مكلفاً غير مريح كما الحذاء الذي يلزم أن يكون على مقاس القدم فإذا كان أكبر لم تستطع المشي. وإذا كان أصغر آلمك. أو حين نذهب للتسوق دون دراية تامة وهدف محدد لما سنقوم بشرائه لينتهي بنا المطاف بشراء أشياء فقط لأنها استهوتنا أو لأن سعرها مخفض حتى ولو لم تكن لنا بها حاجة. أحسب أن ذلك يعود إلى كوننا لا نستشعر مسؤولية تصريف أمور حياتنا، خاصة كوننا لا نستشعر مسؤولية تصريف أمور حياتنا، خاصة المالية، وغياب الوعي الاقتصادي. فالكثير منا لا يضع ميزانية للعائلة تحدد أولويات الصرف ومستواه والخطة المالية للاستثمار وما نطمح أن يكون عليه وضعنا المالي في المستقبل. همنا الاستمتاع بالإنفاق وممارسة عادة الشراء دون قيد أو شرط دونما تكليف أنفسنا المراجعة والتدقيق في صرف كل ريال. بل هناك من يردد: "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" ويتخذ ذلك منهجاً وفلسفة في تصريف أموره المالية. وهو بلا شك نهج خاطئ يشجع على اللامبالاة وإدارة للمال دون وعي وحرص على إنفاقه فيما يعظم المنفعة. البعض يستمر في شراء وحدات كثيرة من السلعة نفسها مع أن الوحدات غير متساوية فيما تعطيه من منفعة ورضا نفسي. فقانون تناقص المنفعة يخبرنا بأنه كلما استهلكنا أكثر من السلعة نفسها فإن ما تضيفه الوحدات الإضافية لمنفعتنا تكون أقل من سابقتها. لذا كان من الأجدر أن نقارن بين البدائل وألا نستمر في شراء السلعة نفسها والتحول لشراء سلع أخرى لم نأخذ كفايتنا منها تكون أكثر منفعة. إن مفهوم الندرة الاقتصادي المغيب يشير إلى أن هناك تكلفة غير التكلفة المباشرة التي ندفعها لاقتناء بعض السلع، هناك تكلفة التخلي عن شراء بعض السلع من أجل الحصول على سلع بعينها وهو ما يطلق عليه الاقتصاديون تكلفة الفرصة أو البديل. وعندما يتعلق الأمر باستهلاك سلع ضرورية للحياة مثل الماء ويكون سعرها التبادلي (السوق) أقل من قيمتها الاستخدامية (منفعتها)، نجد الكثيرين يستهلكونها دون اكتراث خاصة في الأماكن العامة مثل المساجد والمدارس والحدائق العامة والفنادق وغيرها حيث الماء دون تكلفة مباشرة. أما فيما يتعلق بالقرارات والسياسات والتشريعات العامة فما زلنا نفتقد استراتيجيات اقتصادية توحد وتنسق الجهود بين القطاعات المختلفة تجاه أهداف استراتيجية تنقلنا إلى مستويات أعلى من التقدم الصناعي والتطور الاجتماعي في فترة محددة كما فعلت ماليزيا في تحديد 2010 لتصبح دولة صناعية متقدمة. حتى الآن لم نتمكن من إيجاد اقتصاد تجميعي تكاملي فيما عدا شركات سابك حيث تكون هناك صناعات على غرار صناعات البتروكيماويات مثل صناعة السيارات الإلكترونية تتألف من عدة مصانع كل مصنع يتخصص في إنتاج جزء من المنتج في كل صناعة. ما نحتاج إليه هو صناعات رأسمالية تقوم على إنتاج الآلات اللازمة لتكوين قاعدة صناعية، إضافة إلى صناعات تحويلية أصيلة تحول المواد الخام إلى منتجات أكثر قيمة بأيد وطنية. إلا أن المشاهد أن أكثر المصانع تجميعية لسلع استهلاكية في الغالب غذائية، أكثر موادها مستوردة من الخارج، أغلبية العاملين من الوافدين ومع هذا يكتب عليها صنع في السعودية! وكأنما نخدع أنفسنا ونحن نفاخر بعدد هذه المصانع ظناً أن هذه المصانع ستحولنا إلى اقتصاد صناعي أو متطور أو أنها تهيئ لنا مركزاً تنافسياً ونحن على أعتاب الانضمام لمنظمة التجارة العالمية. بل إن هذه الصناعات الاستهلاكية تستنزف الموارد الاقتصادية بسبب التحويلات المالية خارج الاقتصاد الوطني فضلاً عن أنها لا توفر وظائف ولا تزيد في دخول المواطنين. كثير من القرارات العامة لا تكون منسجمة ومتداخلة فيما بينها، بل في بعض الحالات على العكس تماماً تكون متناقضة مع بعضها بعضاً. أما الإنفاق الحكومي فيتصف بعدم التكامل وعدم ترتيب الأولويات بسبب الاعتماد في اتخاذ القرار على القوى النافذة لكل تنظيم بيروقراطي، فبعض المشاريع الحكومية تستحوذ على الإنفاق السخي وهي لا تشكل أولوية اجتماعية بل حجمها يفوق حجم الطلب عليها، وبالتالي كان من الأجدر اقتصادياً تحويل جزء من التكاليف لقطاعات أخرى أكثر احتياجاً للدعم. كما أن المؤسسات المسؤولة عن قرار الإنفاق هي ليست نفسها المسؤولة عن قرار التخصيص ما يؤدي إلى جنوح المؤسسات التنفيذية إلى التوسع في الإنفاق من أجل التضخيم الإداري. وحتى القطاع الخاص الذي يفترض أن المنافسة تؤدي إلى الارتقاء بالخدمات والسلع وخدمة الزبائن إلا أن هناك الكثير من الحالات التي يتم التعامل فيها مع الزبائن بكل جفاء وجمود وتقديم سلع متدنية الجودة. هذه السلوكيات تتناقض مع الحكمة الاقتصادية في إنفاق الريال فيما يعطي أعلى عائد. ومرد ذلك على مستوى الأفراد طغيان القيم والعادات والتقاليد والمفاخرة الاجتماعية على عملية اتخاذ القرار وندني مستوى الوعي الاقتصادي وثقافة الادخار والاستثمار. أما على المستوى الحكومي قد يكون من أهم الأسباب المركزية الشديدةوقصور النظام المالي وانعدام الشفافية والمساءلة. يجب أن نعي أن لدينا مشكلة تكمن في النظر إلى الاقتصاد كقطاعات متفرقة وليس ككل متكامل، وبالتالي نعجز عن طرح السؤال الأهم فضلاً عن الإجابة عنه: كيف نريد أن يكون اقتصادنا بعد 20 سنة؟ وما متطلبات ذلك؟ والدور التكميلي لكل قطاع؟
لقد حان الوقت أن ندرك أننا جميعنا في السفينة نفسها وأن علينا جميعاً العمل لتكبيرها وتطويرها لاستيعابنا، وأهم من ذلك تحديد وجهتنا حتى نصل جميعنا سالمين غانمين.
جريدة الاقتصادية / الأحد 25 جمادى الآخرة 1426هـ 31 يوليو 2005 العدد 4311
الدكتور / عدنان بن عبد الله الشيحة
أستاذ إدارة المدن المشارك / رئيس قسم التخطيط الحضري والإقليمي – جامعة الملك فيصل