إن من أهم المعايير التي تتخذ أساساً للتمييز بين الدول المتقدمة والدول النامية هو مدى ما وصلت إليه الدولة من تقدم تقني وصناعي، إذ لا يُنظر إلى تاريخ هذه الدولة أو تلك، ولا حضارتها الموغلة في القدم، ولا عدد سكانها، ولا موقعها الجغرافي، ولا إلى أي معيار آخر من المعايير المماثلة. ولهذا فإن الوصول إلى درجة معينة من التقدم تسمح بتصنيف الدولة ضمن طائفة الدول المتقدمة أمر ليس سهلاً، بل إنه يتطلب بذل الجهد ووضع استراتيجية طويلة المدى، تقسم إلى مراحل زمنية محددة، بحيث تتضمن أولويات معينة، وخطوات يتم إنجازها الواحدة تلو الأخرى.
ولكي تحقق الدولة تقدماً صناعياً حقيقياً، يلزم أولاً البدء بإنتاج وتصنيع سلع ومنتجات للاستهلاك المحلي، ثم يعقبها تصنيع منتجات أو سلع وسيطة تدخل ضمن مكونات صناعات أخرى، وتغني عن الاستيراد من الخارج. وهذا يتطلب مضاعفة المقدرات التقنية للصناعات الوطنية.
ومن الملاحظ أن نصيب الدول العربية من الصناعات بمختلف أنواعها متواضع جداً، إذ تشير بعض الإحصاءات التي قدمت ضمن أوراق العمل في ندوة فرص الاستثمار الصناعي في السعودية التي عقدت في الرياض في 31/5/1999، إلى أن الدول العربية مجتمعة لا تحظى بأكثر من 1.7 في المائة من إجمالي الاستثمارات العالمية المباشرة، يتم توجيه نسبة بسيطة منه للاستثمار الصناعي، وهو أمر ملحوظ كذلك على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تُشير الإحصاءات على أن معدل النمو السنوي للاستثمارات الصناعية في هذه الدول قد انخفض خلال السنوات الأخيرة حتى وصل إلىنحو 4 في المائة مع نهاية عام 1996، بعد أن وصل إلى 35 في المائة في 1994، وقد عزا الخبراء الاقتصاديون هذا الانخفاض إلى انخفاض أسعار النفط وإيراداته من ناحية، وإلى الآثار التي ترتبت على الحروب التي تعرضت لها منطقة الخليج في تلك الفترة من ناحية أخرى. كما أشاروا إلى أن هناك حاجة إلى ضخ نحو 11 مليار دولار سنوياً في قطاع الصناعة، وذلك للمحافظة على معدلات النمو السابقة، بحيث يصل مجموع الاستثمارات في قطاع الصناعة التحويلية إلى نحو 134 مليار دولار في 2005، ونحو 154 مليار دولار في 2010.
ولكن من الملاحظ في السنوات الأخيرة أن أسعار النفط قد ارتفعت ارتفاعاً ملحوظاً لم يكن له نظير في الماضي، حيث تجاوز سعر البرميل الخام من النفط حالياً أكثر من 60 دولاراً أمريكياً، ما ترتب عليه وجود فوائض مالية كبيرة لدى هذه الدول، لهذا فإن الأمر يقتضي توجيهها نحو الاستثمار الصناعي، وذلك لإنشاء قاعدة صناعية فيما تجعلها في مأمن من الأزمات المفاجئة، نتيجة الحروب كما حدث إبان حربي الخليج الأولى والثانية ومع تقلبات أسعار النفط.
وتشير الإحصاءات كذلك إلى أن 80 في المائة من صادرات هذه الدول تعتمد على النفط والغاز، وأن الاستثمارات الصناعية الخليجية خلال العقد الأخير من القرن العشرين ارتفعت بمعدل 180 في المائة لتصل إلى 80 مليار دولار عام 1998، فيما ارتفع ناتج الصناعات التحويلية من 13.35 مليار دولار عام 1988م ليصل إلى 25.64 مليار دولار عام 1997، وازداد نصيب الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي من 5 في المائة إلى أكثر من 10 في المائة خلال فترة المقارنة.
وعلى ذلك فإن كان التصنيع يُعد خياراً استراتيجياً للإسراع في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف دول العالم، فإن له أهمية خاصة في السعودية، إذ اهتم به ولاة الأمر، فأصبح القطاع الصناعي مصدراً من مصارد الدخل الوطني، حيث حقق نمواً وصل إلى نحو 96 في المائة؛ وتزداد أهمية هذا القطاع مع قرب انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية، ما سيترتب عليه زيادة حدة المنافسة في مجالات التصنيع لسد احتياجات السوق المحلية والانتقال إلى آفاق الأسواق العالمية.
ونظراً لما يشهده الوقت الراهن من تغيرات عالمية ترتكز على حرية تدفق الرساميل وتحرير التجارة العالمية وتحديات المنافسة؛ فإنه قد حان الوقت لتوجيه الرساميل المحلية والأجنبية نحو الاستثمار في المشاريع الصناعية الحيوية القادرة على سد الاحتياجات الاقتصادية للسوقين المحلية والعالمية، بدلاً من المضاربات في أسواق الأسهم والمساهمات العقارية وغيرها من المجالات التي يكون دورها محدوداً في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن إنشاء المصانع سيترتب عليه إيجاد فرص عمل للشباب وفتح آفاق لقيام أنشطة خدمية لهذه الصناعات، وإنعاش صناعات وقطاعات أخرى، أي أن الاستثمار الصناعي يُمكن أن نطلق عليه تسمية الاستثمار المتحرك أو الحيوي، مقارنة بالاستثمار في المضاربات الذي نطلق عليه تسمية الاستثمار الساكن أو الفردي، أو القاصر، لأن لأثره لا يتعدى سوى صاحبه وليس له أي دور اجتماعي ملموس. ومما لا شك فيه أن الوصول إلى هذه الأهداف يتطلب وضع آليات قانونية لتفعيل دور القطاع الخاص في التنمية الصناعية.
جريدة الاقتصادية / الخميس 15 جمادى الآخرة 1426هـ 21 يوليو 2005
العدد 4301
د. محمد عرفة / أكاديمي وكاتب إعلامي