نظرة اقتصادية لإدارة المدن

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : عبد العزيز بن عبد الله الخضيري | المصدر : www.arriyadh.com

نظرة اقتصادية لإدارة المدن

 

تعد إدارة التنمية العمرانية للمدن من أصعب العلوم العملية والنظرية، وذلك لتداخل الكثير من العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار، ويعد تخطيط المدن من العلوم التي يشارك فيها الكثير من الشركاء والتخصصات المختلفة، ويعكس التخطيط عدداً من المتطلبات المختلفة لهم، كما أن مفهوم تخطيط المدن في كثير من دول العالم علم غير واضح المسؤولية والمتطلبات، فالمدرسة التخطيطية القديمة تنظر إلى تخطيط المدن على أنها تحديد استعمالات الأراضي وأنظمة البناء فقط، كما ينظر إلى الأجهزة القائمة على إعداده وتنفيذه من نظرة قاصرة حول أن مسئوليتهم تتعلق بإعطاء رخص البناء مع تقديم ما تحتاج إليه المدينة من سفلتة، إنارة، نظافة، ودفن للموتى بحيث أصبح العمل في مثل هذه الأجهزة من الأعمال المرهقة غير المقدرة.

إلا أن المدرسة الحديثة اليوم ونتيجة لتطور المدن وتعدد مكوناتها بدأت ترى أن تخطيط المدن أو ما يمكن أن ينظر إليه بشكل أوسع التخطيط العمراني يشمل العمران بجميع التخصصات ذات العلاقة بعمارة الأرض والإنسان معاً بشكل متكامل ومتوازن، والتأكيد أن الاهتمام بجانب دون الآخر يضر تحقيق التوازن بينهم، ولهذا فإن التخطيط العمراني ينطلق من مستويات مختلفة ومسؤوليات متنوعة وعدة تخصصات، فالمستويات تشمل: الوطني، الإقليمي، المحلي، والتفصيلي، والمسؤوليات تشمل: وضع الرؤية التنموية واتخاذ القرار والتنفيذ، والتخصصات تشمل مختلف المدخلات التنموية مثل التخطيط الاجتماعي، الاقتصادي، البيئي، والأبعاد الأمنية والتنموية وغيرها كثير.

إن النظرة للبُعد الاقتصادي في تخطيط المدن يأخذ الكثير من التوجهات المطلوبة للإقلال من تكاليف بناء المدن وإدارتها وصيانتها، ويمكن التركيز على الكثير من القضايا الاقتصادية، التي منها توجهات النمو بين الرأسي والأفقي، ونوعية الاستعمالات التجارية بين المراكز التجارية والشوارع التجارية، وتكاليف توفير المرافق والخدمات وتقليل أطوال الشوارع، بحيث تنخفض التكلفة في تمديد شبكات المرافق العامة، مثل: المياه والكهرباء، الهاتف، والصرف الصحي وتصريف السيول، والسفلتة والإنارة والتشجير وتكلفة صيانتها وإعادة تأهيلها.

إن الدراسات التي تم إجراؤها على الكثير من الأحياء السكنية في المدن السعودية التي تم تخطيطها وتنفيذ عدد منها، أوضحت أن أطوال الشوارع فيها تمثل نسبة تخطيطية كبيرة لا تتناسب مع الرؤية الاقتصادية، فحي سكني مساحته أربعة ملايين متر مربع تتجاوز أطوال الشوارع فيه 85 كيلو متراً طولياً، وذلك يعني أن أطوال شبكات المياه والكهرباء والهاتف والصرف الصحي وتصريف السيول والسفلتة والإنارة وغيرها من المرافق الأخرى تتجاوز تكلفتها الأولية المليار ريال، وذلك نسبة إلى أطوال الشوارع وتكلفة المتر الطولي من الشبكات.

إن فكرة تقليل أطوال الشوارع فقط دون تغيير لعرضها سيوفر ملايين الريالات من تكلفة إنشاء شبكات المرافق العامة، ولهذا عندما تم تطبيق هذا التوجه في تخطيط الأحياء الجديدة تم خفض أطوال الشوارع من 85 ألف متر طولي إلى 35 ألف متر طولي، بمعنى توفير نحو 50 ألف متر طولي من الشوارع، وهذا خفض تكلفة إنشاء شبكات المرافق العامة إلى أكثر من النصف، بمعنى أنه تم توفير أكثر من 500 مليون ريال كخطوة أولى ثم انعكس ذلك على التكلفة اللاحقة، التي تشمل النظافة والصيانة، بحيث انخفضت إلى أكثر من 50 في المائة دون تأثير في الوظيفة والكفاءة الأساسية لهذه الشوارع.

إن تطبيق هذا التوجه التخطيطي الاقتصادي سوف يوفر ملايين الريالات على الأجهزة المعنية بتوفير مثل هذه الشبكات، كما سوف يساعد على توجيه المبالغ الموفرة لخدمة أحياء ومدن وقرى أخرى بشكل اقتصادي متميز، وإذا أضفنا إلى ذلك تقليل عروض الشوارع والاستفادة من الفرق في العروض لزيادة أرصفة بعضها، فإن ذلك سوف يضيف ميزة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة لتخطيط مثل هذه الأحياء، حيث تمثل القيمة الاقتصادية المباشرة توفير آلاف الأمتار المربعة التي يمكن تخصيصها لاستعمالات أخرى ضمن الأحياء، كما أن القيمة الاقتصادية غير المباشرة تتمثل في إيجاد ممرات للمشاة تكون آمنة ومريحة لهم لممارسة رياضة المشي، وهذا سوف ينعكس بشكل مباشر على الصحة العامة للأفراد ويخفف من فاتورة وزارة الصحة، لأن العلاقة عكسية، فكلما قلت الأمراض وخصوصاً أمراض هذا العصر، التي يمثل زيادة الوزن أحد أهمها، قلت مصروفات مختلف قطاعات الصحة وعاش المجتمع بشكل عام في صحة جيدة.

إن إعادة النظر في أسلوب ومنهجية التخطيط ودعم ما تم تبنيه من أفكار تخطيطية وما تم اعتماده من مخططات وفقاً لهذا التوجه الاقتصادي سوف تنعكس بشكل مباشر على القيمة الاقتصادية المضافة إلى تطوير هذه الأحياء، ولهذا فإننا مدعوون جميعاً لتبنيها والإصرار على تنفيذها وإزاحة جميع العقبات التي تقف في وجه تحقيقها مهما كانت، خصوصاً أن الكثير من العقبات تنطلق من نظرة قاصرة لبعض المسؤولين والمستثمرين والمواطنين لمثل هذه التوجهات، خصوصاً أن مثل تلك النظرة لا تخلو من مصالح خاصة لا تتفق والتوجهات التخطيطية المقترحة، كما أن البعض من يكره التغيير مهما كانت إيجابياته انطلاقاً من عادة متأصلة في كره كل ما هو جديد.

إن متطلبات التنمية القادمة، خصوصاً فيما يتعلق بمفهوم التخطيط العمراني ودوره في معالجة الكثير من المشاكل الاقتصادية، الاجتماعية، الأمنية، والبيئية وغيرها تتطلب الالتفات له والعناية به وتسخير الإمكانات البشرية والمادية لدعمه ودعم تفعيل مخرجاته، خصوصاً في الأمور التي يمكن أن نلمس نتائجها الإيجابية المباشرة مثل إعادة النظر في أسلوب تخطيط الأحياء السكنية، والتركيز على أهمية تحقيق بيئة عمرانية ملائمة وآمنة للسكان، وتقليل تكاليف إنشاء وصيانة مختلفة شبكات المرافق والخدمات العامة.

الاقتصادية / الاثنين 14 رمضان 1426هـ العدد 4389

الدكتور / عبد العزيز بن عبد الله الخضيري – باحث متخصص في التنمية