عادة ما يُعوِّل الاقتصاديون عند الحديث عن أرباب المشاكل الاقتصادية وحلولها على الاعتبارات والجوانب المادية الملموسة. وهذا أمر متوقع بحكم أن علم الاقتصاد الحديث منشؤه غربي حيث لا وجود مؤثر للاعتبارات المعنوية أو غير الملموسة، إضافة إلى فلسفة وتركيبة كثير من الاقتصاديين الذين لا يكادون يتصورون حدثاً إلا وله سبب ملموس، ولا يتخيلون حلاً لمشكلة ما إلا بناء على سياسة مرسومة قاموا بتصميمها وتطويرها وفق نسق وأطر تقليدية تخضع كل شيء للأسباب والروابط والعلل المادية.
ومن الطبيعي أنه لا يمكن إنكار الأسباب المادية للمشاكل بشكل عام والاقتصادية بشكل خاص، ولا أحد ينكر أننا مجبولون ومأمورون بالأخذ بالأسباب المادية المحسوسة أثناء سعينا في حل مشاكلنا على اختلاف أنواعها. لكنه من غير الطبيعي، سيادة النظرة المادية الصرفة للأمور، وإخضاع أمور الحياة لتفسيرات هذه النظرة.
وإذا كان علم الاقتصاد يزخر بكم هائل من النظريات والتحليلات والأطر الفلسفية المبنية على التصور المادي للأحداث والعلاقات السببية للأحداث والنتائج، فقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على وجود عوامل غير ملموسة تؤثر في كثير من المتغيرات الاقتصادية فهناك من المعاصي ما يكون سبباً لمحق البركة من الرزق ونزعها وإن كان كثيراً فلا يشعر الفرد بكثرته وإن شعر فلا يستطيع التمتع به، وهناك ما هو سبب لمنع المطر من السماء وانتشار القحط والجفاف. وفي المقابل، فهناك من الطاعات ما يكون سبباً في إكثار الرزق ومباركته ونماء المال وزيادته وسبباً في الإحساس والشعور بالرضا والسعادة أو بتعظيم المنفعة في عرف الاقتصاديين.
وهناك من المعاصي والمخالفات الاقتصادية على وجه الخصوص ما يكون سبباً في حدوث الكوارث التي لا تقتصر على ممارسيها بل ربما تعم المجتمع بأكمله مثل شيوع المعاملات الربوية وأكل السحت وأموال الناس بالباطل وأكل أموال اليتامى والاختلاس من المال العام أو الخاص ومنع الزكاة واحتكار أقوات الناس والغش والإخلال بالموازين وغيرها.
ولذا فإن المفترض عند البحث عن سبب مشكلة اقتصادية ما أو عند وضع وتصميم العلاج لها ألا تغفل هذه الأسباب ولا سيما أنه وردت نصوص توضح علاقة السبب بالمشكلة أو أثر الحل في التغلب عليها هي أكثر مصداقية في جميع الأحوال من النظريات والتفسيرات الاقتصادية الوضعية، بل ربما كان بعضها معارضاً لما هو قطعي الثبوت والدلالة، وذلك كمن يرى أن في الاقتراض أو الإقراض بفائدة سبباً لحل مشكلة اقتصادية معينة أو سبباً لجلب الرزق وزيادة الدخل.
ومن الأدلة الواضحة على الأثر غير الملموس لبعض التصرفات على متغيرات اقتصادية معينة ما ورد في الحديث: (ما نقص مال من صدقة بل تزده) وفي هذا توكيد على أن مما قد يراه الشخص سبباً لنقصان المال هو في الواقع سبب لزيادته.
الجزيرة / الأربعاء 23 من رمضان 1426هـ العدد 12081
الدكتور / محمد اليماني