معاداة العلاج النفسي على الطريقة العربية
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
الدكتور محمد أحمد النابلسي
| المصدر :
www.hayatnafs.com
يمتاز المجتمع العربي بنظراته الخاصة ومفاهيمه المميزة للعلاج النفسي . ولا يمكن لأي شخص ( أو مدرسة أو مجموعة ) أن يتنكر لخصائص مجتمع ما حتى ولو كانت هذه الخصائص وليدة تفسير خاطئ وغير منطقي للحقائق . ولكن المجتمعات الراغبة في التطور لابد أن تتخلص من شوائب الإشاعات وأن تقضي على غابات الجهل الكثيفة التي تحول دون التعامل مع الواقع بالموضوعية اللازمة . هذا إذا كانت هذه المجتمعات راغبة فعلاً في التطور . فإذا رفضته أو خافت منه فإنها تلجأ إلى الحيل لإيجاد تبريرات " منطقية " للواقع تمهيداً لقبوله دون أي تغيير . والواقع الذي نود مناقشته هو واقع عجز الفرد ( العربي ) عن الإفادة من العلاجات النفسية المتوافرة ، ويتضح لنا حجم الخسارة الناجمة عن هذا العجز ، من خلال مراجعتنا لتعريف أهداف الطب النفسي المعاصر
(1)
.
فهو " يهدف إلى مساعدة الشخص على بلوغ المستوى الذي يؤهله لأن يعيش المستوى الأفضل لسعادته ولأن يكون في المستوى الأفضل الذي يتيح للمجتمع الإفادة من قدراته ومساهماته " . فمن خلال هذا التعريف تتضح أمامنا الخسائر التي تلحق بالمجتمع عندما يتخلف أفراده عن العلاج . فالمضطرب نفسياً هو في الواقع إنسان مشلول من الناحية الاجتماعية . إنه من ناحية يعيش حياته بعيداً عن السعادة ومن ناحية أخرى يفقد فعاليته الاجتماعية وحتى الأسرية . ولعلنا ندرك ، بصورة أكثر جلاء ، حجم هذه الخسائر إذا ما عرفنا أن 10% من السكان يحتاجون إلى زيارة العيادة النفسية ، وذلك وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي تؤكد أن المشكلة أكبر حجماً في الدول النامية منها في الدول المتقدمة ولكن ما هي الأسباب المؤدية إلى هذه الخسائر ؟ ..
تتداخل الأجوبة المبررة لهذه الأوضاع وتلامس مواضيع غاية في الدقة والحساسية حتى يتفجر من خلالها نقاش يختلف فيه المحاورون عما إذا كانت هذه النقاط أسباباً أم نتائج ! وفيما يلي سنحاول استعراض هذه الأسباب :
أ- الشائعات الكاذبة : تطول قائمة هذه الشائعات بحيث يصعب مجرد تعدادها ، حتى إن بعضها بات متداولا وكأنها حقائق ثابتة لا تقبل الجدل . وفيما يلي عينة منها :
-
يمكن شفاء حالات الجنون دون دواء .
-
الأدوية النفسية تسبب الجنون .
-
يمكن للعلاج النفسي ( دوائي أو غير دوائي ) أن يلحق الضرر بالمريض .
-
الأدوية النفسية سموم يجب الابتعاد عنها .
-
كل زوار العيادة النفسية هم من المجانين .
-
تستطيع العلاجات التقليدية أن تحل الأزمات والأمراض النفسية كافة .
-
المرض النفسي ينجم عن السحر أو الكتابة أو هو من أعمال الشياطين .
ونكتفي بهذا القدر لننتقل إلى السبب التالي ..
ب- القساوة النفسية : لطالما أشدنا ، ولا نزال ، بترابط الأسرة العربية وبالأدوار النفسية والاجتماعية الخاصة التي يلعبها النظام الأسري العربي . ولكن هذا النظام ، مثله مثل سائر الأنظمة ، لا يخلو من ثغرات يمكنها أن تتحول إلى مآزق ومشاكل جدية في حال تجاهلها وعدم الحيطة لها . ولنأخذ مثلاً موقف العائلة العربية في حال إصابة أحد أفرادها بالمرض النفسي ، ولنقارن بين هذا الموقف وموقفها في حال إصابة أحد أفرادها بالمرض الجسدي . ( أنظر جدول المقارنة بين المرضين الجسدي والنفسي ):
المرض النفسي
المرض الجسدي
1-
يتردد الأهل كثيرا قبل اللجوء إلى الطبيب .
2-
يحاولون التهرب من تنفيذ التعليمات .
3-
يفضلون مراجعة أكثر من طبيب
4-
يحيطون التشخيص بالشك .
5-
يحاولون إخفاء نبأ المرض حتى عن المقربين .
6-
عدائية غير ظاهرة أمام المعالج
7-
محاولة إنهاء العلاج بأقصى سرعة ممكنة ( حتى قبل أوانه ) .
8-
الميل إلى اعتباره موضوع سيىء (لدرجة محاولة التخلص منه معنوياً)
9-
الشعور بالجروح النرجسية .
10-
توجيه انتقادات مكثفة إلى المريض .
11-
مشاعر خوف .
12-
مشاعر قابيلية تجاه المريض .
13-
يحاولون إخفاء أو إغفال بعض العوارض .
1- يستدعى الطبيب بشكل فوري .
2-
تنفذ تعليمات الطبيب بدقة .
3-
يثقون بالطبيب .
4-
يقبلون التشخيص .
5-
يكون المرض مناسبة اجتماعية للزيارات
6-
الامتنان للمعالج .
7-
الرغبة في متابعة العلاج لغاية الشفاء التام .
8-
الميل إلى التماهي بالمريض (لدرجة ظهور علائم انهيارية ) .
9-
التعاطف مع مظاهر المرض .
10-
معايشة مع مظاهر المرض
11-
مشاعر عطف
12-
مشاعر هابيلية تجاه المريض .
13-
يسردون أعراض المرض بدقة
ج- انخفاض مستوى الوعي الصحي : لسنا في مجال تعداد الآثار السلبية لواقع انخفاض هذا المستوى إذ يكفينا أن نذكر بمحاولات التهرب من حملات التلقيح . وفي هذا المجال يهمنا انخفاض مستوى الثقافة النفسية بحيث نلاحظ زيادة في نسبة ولادات الأطفال المشوهين ، إضافة إلى المواقف السلبية الأخرى المؤدية إلى رفض العلاج النفسي عامة والطبي النفسي خصوصاً .
د- المرض النفسي والخيال الشعبي : استناداً إلى العوامل المذكورة أعلاه يحاط المريض النفسي العربي ( ومعه المرض ) بهالة من الغموض ، فتنسج حوله الحكايات ومنها ما هو في غاية الطرافة بحيث يمكنها أن تتحول إلى نكات ناجحة لولا اللهجة فائقة الجدية التي تروى بها هذه الحكايات . ويتجسد هذا التصور في أدبنا القصصي ( خاصة عند نجيب محفوظ ) بشخصية الشحاذ
–
المجنون الذي يلازم مقهى الحي في الغالب .
هـ العجز الطبي : في هذا المجال ، علينا أن نقرر حقيقة واقعة ومفادها أن العجز الطبي يلعب الدور الأهم في نشوء هذه الإشكالات ، فلو راجعنا قائمة الأمراض التي يدعي المشعوذون معالجتها ، والتي تنسج حولها الحكايات ، لرأينا أن هذه القائمة تضم إلى جانب الأمراض النفسية جميع الأمراض التي لا يزال الطب عاجزاً أمامها . هذا في حين تغيب عن هذه القائمة كامل الأمراض التي يملك الطب علاجاتها الشافية . ومما تقدم يجب ألا نفهم هذا العجز على أنه عجز مطلق ، إنما مجرد ثغرات يدخل منها المشعوذون إلى ميدان الشفاء . فعلى صعيد الطب النفسي تحديداً ، فإنه بات اليوم قادراً على التحكم بمختلف المظاهر المرضية كما بات قادراً على شفاء القسم الأكبر من الأمراض النفسية المعروفة .
و- الخطأ الطبي : تتميز مناقشة هذا الموضوع بحساسية كبيرة . لذلك نكتفي بالتذكير بتلك الفوارق في تشخيص الفصام واختلاف نسبه باختلاف المدارس . فالمريض نفسه يمكن أن يكون فصامياً لدى أحد الأطباء وغير فصامي لدى غيره . أضف إلى ذلك مساهمة بعض الأطباء في تدعيم " رهاب العيادة النفسية " لدى مرضاهم ، فنرى بعض أطباء الاختصاصات الأخرى يصفون المهدئات لمرضاهم ويحذرون من تلقيها من الاختصاصي ! .
* الثقافة العربية النفسية :
(أ) الطب النفسي والرواية : عندما نتكلم عن الرواية فإننا نتكلم عن السينما ضمناً ، ذلك أن غرابة مشاعر المريض النفسي وصعوبة فهمها من قبل الجمهور تشكل عوامل تجعل من الصعب اختصارها في قصة قصيرة ( خلا بعض الحالات) . وعليه فإننا نلاحظ وجود علاقة أكيدة بين الطب النفسي والرواية لم تعد خافية بل إنها باتت مقسمة بوضوح إلى عدة فروع هي :
1-
الرواية التي تعرض لحالة ولحالات مرضية نفسية ( الأبله ، الذهان
(2)
) الخيط الرفيع ، ومن فضلك أعطني هذا الدواء ، إلخ ..) .
2-الرواية التي تعرض طريقة العلاج النفسي وتنتقدها ( البرتقالة المعدنية ، مجانين ، ليتك كنت هناك الخ
…
) .
3-الرواية التي تعرض موقف المريض النفسي من العلاج ( سيبيل ، برسونا ، السراب ،
…
..الخ ) .
4-الرواية التي تعرض مواقف الطبيب النفسي وانفعالاته ( هارولد ومود وبيت الألعاب الناس العاديون ، الخ ..) .
5-الرواية التي تعرض لتجارب وأمراض نفسية خاصة ( طيران فوق عش الكوكو ، السراب ، الناس العاديون الخ .. ) .
6-الروايات التحليلية التي تعرض عقدة نفسية أو أكثر وانعكاساتها على حياة حامل العقدة وسلوكه ( الناس العاديون ، المناوئون ، الخ
…
) .
(ب) دور الرواية في الثقافة النفسية : يملك الأسلوب الروائي ( خاصة عندما يتحول إلى فيلم سينمائي ) الجذب والتأثير .لذلك فالرواية النفسية هي في رأينا الوسيلة المثلى لنشر الثقافة النفسية ، وتعديل المواقف الخاطئة من العلاج النفسي ، ووضع الحدود لممارسات الشعوذة . ولذلك أيضاً شروط :
1-أن يملك الروائي ثقافة نفسية واسعة ويستند إلى وقائع ثابتة .
2-أن يطلب عقلنة الرواية من قبل اختصاصيين .
3-أن يكون على علاقة مباشرة مع شخصية المريض ( كأن يعايش المرض ويرى تأثيره ومظاهره على المرضى أو أن يكون هو نفسه مريضاً كما كانت حال دوستويفسكي ) .
4-أن يستبعد جميع الشائعات والحكايات التي لا تستند إلى حقائق عملية .
5-أن يتجنب الإسقاطات غير المأمونة مما قد يجعل من روايته مصدرا آخر للشائعات .
6-
عدم إصدار الأحكام المطلقة .
7-
عدم وضع النهايات الجازمة ، وخاصة التخلي عن محاولات إقناع القارئ بالنهاية . فللقارئ حقه في تخيل مبررات هذه النهاية ، خاصة وأنه لا يمكن لأي مؤلف أن يدعي إحاطته بمختلف الأسباب المؤدية إلى النهاية . ويكفينا في هذا المجال اعتراف فرويد
(3)
بعجزه عن الإحاطة بجميع مدلولات " أحلام مريضته دورا " .
ولدى مراجعتنا لأكثرية الروايات النفسية العالمية نجد أن غالبيتها العظمى لم تلتزم بهذه الشروط باستثناء روايات دوستويفسكي .
(ج) الأموات الأحياء : في هذه الفقرة نتكلم عن التحفة الأدبية " لحظات اليقظة " التي ألفها طبيب الأعصاب أوليفر ساكس ، الذي بدأ تجربته ، المدونة في هذه القصة ، في العام 1966 ، حين دخل إلى أحد عنابر مستشفى " مونت كارمل " السري . ويصف ساكس ما شاهده في هذا العنبر قائلاً : " وجدت هناك عدداً من وجوه البشر الأموات . كأنهم تماثيل من لحم ودم .. كانت لهم نظرات زائغة وابتسامات بلا معنى
…
لقد كانوا أناساً من حجر
…
وقد انفطر قلبي لهذه المناظر المأسوية ولم أستطع نسيانها إلا بعد فترة طويلة .. وهؤلاء المرضى ( الأحياء الأموات ) الذين يصفهم ساكس في لحظات اليقظة كانوا مصابين بأغرب أمراض القرن العشرين على الإطلاق ، وهو المرض الذي يصيب حامله بالنوم الأبدي إذ ينام المريض لسنين طويلة فلا هو بالحي ولا هو بالميت . ولقد ظهر هذا المرض فجأة في العام 1920 ولم يلبث أن اختفى فجأة ( كما ظهر ) بعد عشر سنوات حاصداً خمسة ملايين مريض . ومن حينه تم عزل مئات الألوف من هؤلاء المرضى في مستشفيات سرية . وفي العام 1967 ( أي بعد ما يراوح بين 37 و 47 سنة على نوم هؤلاء ) ظهر عقار جديد مضاد للشلل الرعاشي ( باركنسون ) فكان بارقة أمل لهؤلاء المرضى إذ يظن الأطباء أن لمرضي النوم الأبدي وباركنسون منشأ مشتركاً . ويصف لنا المؤلف تردده قبل تجربة هذا الدواء على مرضاه النيام ، ثم يصف تغلبه على التردد وقراره باستخدام الدواء . فماذا كانت النتيجة ؟
تحركت التماثيل واستبدلت النظرات الزجاجية الجامدة بنظرات حية معبرة . لقد دبت الحياة في هؤلاء المرضى وانطلقت ضحكاتهم بعد حوالي نصف قرن على خمودها . ولكن المأساة لم تلبث أن تفجرت إذ تحولت البهجة إلى صدمة ومن ثم إلى كآبة . والكتاب يصف هذا التحول بلهجة تجمع بين المعايشة الإنسانية والملاحظة الطبية الدقيقة . ومن القصص التي يعرضها الكتاب " قصة روز " وهي ملهمة الكاتب المسرحي الإنجليزي الشهير هارولد بنتر في مسرحية شيء مثل ألاسكا . لقد أصيبت روز بالمرض وهي في الواحدة والعشرين ، وعندما استيقظت من نومها ( الذي لم تحس بطوله ) نظرت في المرآة لتجد نفسها فجأة عجوزا في الثانية والستين . لقد غاب الوجه المتألق المتفجر بالحياة وظهرت مكانه أخاديد وتجاعيد وعيون ذابلة من كثرة النوم . وعندها صرخت روز : " من الذي سرق عمري ؟ " ثم تهاوت في أعماق الكآبة . إن قصص هذا الكتاب تضع مؤلفها في منصب ريادة الرواية النفسية
–
العلمية . خاصة وأن أعماله لم تقتصر على هذا الكتاب حيث كتب في مواضع عديدة أهمها : الصداع النصفي ، والمرضى غير القابلين للشفاء ، ومرض كورساكوف .
* الرواية النفسية العربية :
قد لا يمكننا الكلام على رواية نفسية عربية ، ولكن ذلك لا يعني أبداً غياب المعرفة النفسية والمعايشة الإنسانية من رواياتنا . وفيما يلي نورد اختصاراً بعض الأمثلة :
أ-
أهل الكهف ( توفيق الحكيم ) ، وهي تلامس كتاب ساكس في نقاط عديدة .
ب- زقاق المدق ( نجيب محفوظ ) ، وقد سبق أن ذكرنا أننا ، عندما نراجع شخصية " صاحب الوكالة " نجد أن نمطه السلوكي هو من النوع (أ) ، وهو النمط المعرض للإصابة بالذبحة القلبية حتى إن دقة الوصف السلوكي تجعلنا نجزم دون أي شك يكون هذه الشخصية واقعية وبأن نجيب محفوظ قد تعامل مع هذه الشخصية عن قرب . فليس من الممكن أن تصل المصادفة إلى حدود الوصف الدقيق لعلائم هذا النمط السلوكي .
ج -حديث الصباح والمساء ( نجيب محفوظ ) ، وفيها سرد متتالٍ للانفعالات والمواقف اللاواعية والاضطرابات الشخصية . فمن موقف قاسم أمام موت ابن أخته أحمد إلى الأثر الذي تمارسه بعض الشخصيات حتى بعد موتها ، إلى النواحي النفس
–
اجتماعية التي تخلق بنية هيكلية تحدد اتصالات الناس ببعضهم حتى ولو كانوا أقارب . ولكن الوصف الأدق كان لقاسم عمرو وإذ وصف محفوظ اضطراب شخصيته الناجم عن إصابته بالصرع الخفيف . ومن مظاهر هذا الاضطراب تحوله نحو الإفادة من الغموض المرافق لهذا الاضطراب . وتبقى في هذه الرواية مميزات أهمها طريقة العرض التي استخدمها المؤلف ، إذ قام بتعريفنا إلى كل شخصية على حدة . وفي سياق هذا التعريف كان يطلعنا على علاقة هذه الشخصية بباقي شخصيات الرواية . ولدى مراجعتنا لهذه التعريفات نرى أن محفوظ يتبع للمرة الأولى منهجية نفسية حقيقية في روايته . فيذكر لنا الأحداث المؤثرة في بنية الشخصيات التي يعرفنا إليها فقد صدم قاسم بوفاة ابن مطرية ( أحمد ) صدمة أثرت على كامل شخصيته ، وكذلك أثر الصرع على شخصيته . وكانت لكل شخصية نقاط تثبيتها وصدماتها التي عرضها الكاتب ليدعم رسمه لها .
* الاقتباسات العربية :
غالباً ما تكون هذه الاقتباسات على شكل سيناريو لبعض الأفلام العربية . ويتم الاختيار بشكل عشوائي أو تجاري بحيث تؤدي هذه الأفلام دوراً بالغ السلبية له آثار خطرة من شأنها أن تدعم العوامل التي تشوه حقائق العلاج النفسي وحقيقة ما يدور في العيادة أو في المستشفى النفسي ، بل إن هذا التشويه يطاول أحياناً شخصية المعالج نفسه . وفيما يلي عرض لبعض الوجوه السلبية لهذه الاقتباسات والإعدادات وبعض المسماة تأليف .
1-
الاقتباس السيئ : يمارس المعالج النفسي العربي عمله في أجواء خاصة هي الأجواء العربية
(4)
التي تفرض على المعالج الالتزام بعدد من الشروط ، بحيث يجد نفسه عاجزاً عن ممارسة الأساليب التي تعلمها . فمن غياب بعض الآلات والفحوصات والأدوية إلى معاداة العلاج النفسي ، يجد المعالج العربي نفسه في وضع جديد يضطره إلى اعتماد تكييفات خاصة لممارسته . فٍإذا أضفنا إلى ذلك كون المدارس الغربية انعكاساً لفلسفات الغرب ، المتناقضة مع الأسلوب الحياتي العربي ومع بعض تقاليده ، فإننا ندرك أن هذا التغيير النوعي في أسلوب الممارسة ومحتواها هو تغيير عميق .. مما يجعل من غير المنطقي أن ننظر إلى المعالج العربي وفق مقاييس نظرتنا ذاتها إلى المعالج الأجنبي أو حتى إلى المعالج العربي الذي يعمل في بلد أجنبي . ومن أمثلة الاقتباس السيئ تلك الاقتباسات المعادية للطب النفسي ( علناً أو ضمناً ) . ذلك أن هذه الروايات أو المواقف المعادية لا تمارس أي تأثير سلبي في المجتمع الأميركي حيث خبر الجميع تجربة العلاج النفسي واقتنعوا بفائدتها . وعليه ، فإن هذا العداء هو نوع من الترف والرغبة في الأفضل بالنسبة للأميركيين ، أما في بلادنا العربية فإن اقتباس هذه المواقف يؤدي إلى مالا تحمد عقباه .
2-
النهايات السيئة : في أحد الأفلام العربية
(5)
تنتهي الرواية بموت البطلة انتحاراً لأن معالجها رفض أن يقيم معها علاقة عاطفية . وهذا الفيلم يوحي للمشاهد بأن للعلاج النفسي نتيجة من اثنين ، فإما أن يؤدي إلى قيام علاقة بين المعالج ومريضاته ، وإما أنه لا يعطي أيه نتيجة فتموت المريضة . وعليه فإننا لا ننتظر أن يتوجه مشاهدو مثل هذا الفيلم إلى العلاج
…
وهذا مجرد مثال .
3- شخصية الطبيب النفسي : تتراوح هذه الشخصية ، في هذه الاقتباسات ، بين الأقطاب التالية :
أ-
الطبيب المعتوه أو المغفل .
ب- الطبيب الذي يستغل المهنة لأسباب سياسية أو مادية أو غيرها .
ج- الطبيب الذي يعامل مرضاه وكأنهم آلات .
د- الطبيب الذي يحاول أن يسيطر على مرضاه .
هـ- الطبيب / النجم الاجتماعي .
والواقع أن هذه الشخصيات ، الموجودة في الأفلام العربية والأجنبية على حد سواء ، ليست سوى انعكاس لآراء المرضى في أطبائهم ( حتى بعد الزيارة الأولى ) . وهذه الآراء تتضخم إما بحكم المرض وإما بحكم الجروح النرجسية . والواقع كذلك أن الرواية ( خاصة المنتجة سينمائياً ) تتغلغل إلى حد بعيد في لا وعي الجمهور الذي يتحول مع الوقت إلى مؤمن بها وكأنها من المسلمات .ومما يزيد الأمور تعقيداً أن المشاهد العربي بات مطلعاً على الأفلام الأجنبية ومتأثرا بها على نحو كبير . وهي ، كما رأينا لا تمارس تأثيراً خطراً على المشاهد الأجنبي في حين أنها بالغة الضرر بالمشاهد العربي . وتحصيناً لهذا المشاهد فقد آن الأوان لإنتاج الأفلام التي تظهر الأمور على حقيقتها دون تعريضها للتشويه .
4- اقتباسات صحافية : تقتبس صحافتنا عدداً من الأنباء والمواقف والمقالات مع بعض التحوير . ومن هذه الاقتباسات ما يتعلق بعلم النفس ، فترى في صفحاتها أمثالا متكررة لمساوئ الاقتباس الذي لا يراعي الواقع . ومن المؤسف أن بعض هذه الاقتباسات بات يكون الخلفية النفسية الثقافية لعدد لا بأس به من المثقفين العرب ( ومن ضمنهم الروائيون وكتاب القصص ) . وهنا نكرر التالي :
-
يمكن للمجتمع الأميركي ، الذي يقود أبحاث الطب النفسي في العالم ، أن يتقبل فكرة معاداة الطب النفسي . إلى حد أن هذه المعاداة قد تبدو على جانب من الموضوعية في الظروف الأميركية . ولكن ظروفنا العربية لا تسمح لنا بقبول فكرة معاداة فرع نحن بأمس الحاجة إليه وخاصة عندما نقرأ فقط عن معاداة الطب دون أن تتاح لنا فرص الاطلاع على إنجازاته .
-
من المبرر أن يستنفر الأوروبيون أمام واقعة استهلاك مجتمعاتهم لملايين بل عشرات الملايين من وصفات العقاقير المهدئة ، وهم يحاولون الحد من هذه الظاهرة سواء عن طريق إعادة النظر في جهاز القيم لديهم أو عن طريق محاولة الحد من الضغوطات النفسية الناجمة عن المجتمع الصناعي أو عن طريق المقالات التي تحذر من المبالغة في استخدام المهدئات دون إشراف الطبيب . ثم نأتي نحن لنترجم إحدى هذه المقالات التي تحذر المبالغة في استخدام المهدئات دون إشراف الطبيب . ثم نأتي نحن لنترجم إحدى هذه المقالات ولنعتبرها مرجعنا الأول والأخير في الميدان . ونعرض الآن لإحدى هذه الترجمات الخطرة كما وردت بنصها الحرفي ..
لقد اختفت المنومات من الصيدليات . أطباء النفس اليوم يعلمون أن القلق في الواقع هو مصدر الإنهيار العصبي وقد أوجدوا طريقة لمعالجة المدمنين من أصحاب الاضطراب العصبي .
ترى أحدهم منهكا بآلاف الهموم التي تصادفه في حياته اليومية ، ودائما في جيبه أو على مكتبه زجاجة صغيرة تحوي حبوباً مهدئة وعند أول هزة عصبية تراه يبتلعها ، ثم يعود بعد هدوئة إلى ممارسة حياته اليومية بشكل عادي .
لقد نجحت مهدئات الأعصاب بشكل فعال . الفرنسيون يستهلكون المسكنات أربع مرات أكثر من باقي سكان الدول الصناعية . وبينهم نسبة كبيرة من النساء المعزولات ، الأشخاص المسنين وكل الذين يعانون من أوجاع مؤلمة .
والسؤال : هل يصبح الفرنسيون تحت تأثير الضغط والإرهاق الأكثر إدماناً على تناول المهدئات بين سائر الشعوب ؟
الشيء الوحيد الممكن استنتاجه هو أنه في البلدان الفرانكوفونية عموماً ، وفي بلجيكا وسويسرا وكندا يبتاعون كثيرا المهدئات . الكيبيك مثلا التي تؤلف ثلث الشعب الكندي تستهلك فقط نصف الأدوية المسكنة المباعة كل سنة في هذا البلد .
في فرنسا أصبح استعمال المهدئ من " الموضة " ، وفي عملية إحصاء لآلاف العمال في أحد المصانع ، ظهر أن 18% يأخذون مرة على الأقل بنزديازبين وهو من المسكنات الأكثر انتشارا في الأشهر الثلاثة الماضية .
وقد شمل الإحصاء الفئات الشابة بين سن العشرين والخمسين ومن هم بصحة جيدة . إن 18% يعتبر رقما كبيرا علما أن الكثير من الناس يأخذون الحبوب المهدئة ، إما في المساء للنوم أو بالنهار .
لماذا هذه الكثافة في الاستعمال ؟
البعض يشعرون بالقلق وبالإرهاق النفسي أو يعانون من ارتفاع في الضغط لقد جرت الأبحاث حول العلاقة بين استعمال المهدئات وظروف العمل الشخصية .
وأمام النتائج المذهلة والمتصاعدة أبدى وزير الصحة الفرنسي بعد جلسة لمجلس الوزراء دهشته حيال هذه النسبة المرتفعة فقدم مشروع قانون يقضي بحصر بيع المسكنات والطلب إلى الأطباء تحديد الوقت لتناول هذا العلاج .
لماذا هذا التضييق من قبل الوزير ومن قبل الصحافة ، ولماذا التركيز على سوء استعمال المسكنات
…
. لماذا هذا العقاب الظالم ضد هذا النوع من الأدوية التي تلبي الحاجة ، وهل يستطيع أحد التخلص من المهدئات ؟؟؟
العلاج الوحيد للكآبة .
قبل ظهور بنزديازبين في الستينات كان الدواء المنوم هو العلاج الوحيد للكآبة . الأطباء كان عليهم دائماً معالجة مآسي مرضاهم خصوصا عندما تتخطى درجة الكآبة ، وتدخل في الحياة الفردية الاجتماعية وتصبح دون مفعول سواء على الصعيد الجسدي كالأرق وبعض الاضطرابات القلبية ، الإحساس بالاختناق وغيره ، أو على الصعيد الأخلاقي خوف مرعب ، قلق ، مرض نفسي .
وكان لابد من الانتظار عدة سنوات لاكتشاف أن هذه الأدوية المهدئة تبرز عدة محاذير ، اضطرابات عقلية قد تؤدي إلى الجنون لأن تناولها في البدء يكون بسبب تخطي أزمة مستعصية وصعبة وتصبح فيها بعد من قبيل الإدمان ولا يمكن التخلي عنها فيكون الأرق والكآبة سيدي الموقف .
ومهما يكن فهناك شروط بديهية لاستعمال المسكن كتحديد الوقت المعين لاستعماله ومن ثم تعيين الكميات اللازمة .
وعلى الطبيب المعالج عند وصفه المسكنات لمريضه لفترة طويلة أن يشرح له النتائج التي يلمسها كالأرق والكآبة ونرى مرضى الأعصاب يساعدون من هم في وضعهم العصبي والنفسي دون أي إرشادات طبية دقيقة .
وأمام الكآبة نعطي إحساساً بالقلق النفسي المتواصل وبأرق معبر عن ثورة في النفس وبانهيار عصبي سلبي ينصح أطباء النفس باستعمال وسائل أخرى غير المسكنات .
أحد الأطباء يقول : " وعندما تبدأ حالة الكآبة الأكثر انتشاراً خصوصاً في حالة الانهيار العصبي يجب محاولة التقريب بين أسبابها ونتائجها .
وعليه فإن حالة القلق ليست إلا سببا لانهيار الأعصاب بطريقة أو بأخرى ومعالجة حالة الانهيار بأدوية مضادة لها تؤدي إلى اختفاء حالة القلق والكآبة وعندما تكون الكآبة هي السبب الأول لاضطرابات فعلية يجب البدء بمعالجتها. كل هذه المعالجات بالمهدئات تحارب الحالات التالية : الحزن والانكفاء والاضطراب العقلي .
لكن متى لا يؤدي القلق إلى درجة الانهيار العصبي ؟
لم تكن مقبولة طريقة " السمع المركز " من بعض الأخصائيين والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى إزالة الحزن عن وضع ما . أما اليوم فهناك تقنيات حديثة ظهرت وتساعد على تفادي حالة الانهيار . فتشخيص حالة المريض وتصرفاته تعطي نتائج إيجابية وتؤدي إلى التخفيف من الاضطرابات وتكون فعالة في الأمراض العصبية من كل الأنواع وغيرها من المعالجات التي تركز على الوضع العقلي والتي تساعد بالسيطرة على المريض المتشنج الأعصاب .
وبالمطلق إذا كانت المهدئات مناسبة لبعض الحالات فهي لا تعطي أي فعالية بالنسبة لحالات عصبية متدهورة ومهما يكن من أمر يجب على الجميع أن ينتفض ويرمي المسكنات في سلة المهملات .
في اليابان العلاج الوحيد ضد الكآبة هو الكحول ، الويسكي والبيرة وخصوصاً في السهرات المسائية وبعد يوم طويل يقضيه الياباني في المصنع 500 ألف ياباني فقط يتناولون المهدئات كي يتمكنوا من متابعة أعمالهم اليومية في المصانع ، والبعض الآخر يستشير بصورة دورية الطبيب النفسي الموجود في مركز العمل .
مئات الآلاف من علب المهدئات تباع سنوياً في فرنسا وهي تتخطى في هذا المجال الولايات المتحدة وألمانيا أو أي بلد صناعي آخر . لكن البعض يبرر ذلك بأن الفرنسيين هم الأكثر استهلاكا لمعظم أنواع الأدوية في العالم .
من الملاحظات التي نسجلها على مثال هذا المقال - العينة نذكر التالية :
1-إنه مترجم عن مجلة شعبية يمكنها اعتماد مبدأ التهويل والترهيب .
2-إن كاتبه غير اختصاصي ، وكذلك مترجمة .
3-إن المنومات لم تختف من الصيدليات بل إننا لا نزال نشهد ظهور أصناف جديدة منها .
4-
إن أحداً لا يعلم بأن القلق هو مصدر الانهيار العصبي . فالانهيار العصبي يمكنه أن يعود إلى جملة من الأسباب التي لا علاقة لها البتة بالقلق ، وإن كان القلق يرافق الانهيار في الغالب ولكن دون أن يكون مسببه .
5-يتساءل الكاتب لماذا هذا التركيز على سوء الاستعمال؟ وتأتي الترجمة بالجملة مبتورة ! إن المقصود بإساءة استعمال المواد هو استعمالها دون استشارة طبيب وبكميات تتجاوز تلك التي ينصح بها الأطباء لمدد طويلة . وهكذا فإن هذا التركيز ليس بالجديد وهو لا يتعلق فقط بالأدوية النفسية ولكنه يتخطاها إلى جميع الأدوية حيث يجب الالتزام بحدود الجرع التي يحددها الطبيب ، حيث يمنع استخدام الأدوية عشوائياً وبدون وصفة طبية .
6-يقول الكاتب : " قبل ظهور البنزوديازبين في الستينات كان الدواء المنوم هو العلاج الوحيد للكآبة
…
الخ" وهذا الكلام غير صحيح ، فمضادات الانهيار والمهدئات العظمى الفاعلة في علاج الانهيار كانت معروفة في الخمسينات وكانت مستخدمة في علاج الكآبة " .
7-نلفت النظر إلى أن البنزوديازيبين هي من فصيلة المهدئات مضادة للقلق وليست مضادة للإنهيار .
8-يقول الكاتب إن المهدئات تؤدي إلى الجنون ! فهل يقصد المخدرات ؟ نحن نوافقه بتحفظ إذا قصد هذا ، أما إذا كان قصده أن المهدئات البسيطة يمكنها أن تؤدي إلى الجنون فنؤكد له عدم صحة معلوماته وضرورة تنبيهه إلى خطورة إدعاءاته .
9-يقول الكاتب : " على المعالج أن يشرح للمريض النتائج التي يلمسها كالأرق والكآبة إلخ " ، مع أنه يقول في مقدمة المقال إن هذه المهدئات هي علاج الكآبة . ونحن هنا لا نعرف ما إذا كان الخطأ من الكاتب أو المترجم . ولكن على أية حال فإن علائم الاضطراب إنما تظهر لدى إيقاف استعمال هذه المهدئات دون إشراف طبي .
10-
يقول الكاتب : " ومهما يكن من أمر ، يجب على الجميع أن ينتفض ويرمي المسكنات في سلة المهملات
…
الخ " . وهنا نقول بأنه لو كان ثورياً إلى هذا الحد فلماذا لا يدعو إلى إغلاق شركات الأدوية المنتجة لهذه الأصناف وإلى إلغاء اختصاص الطب النفسي وإصدار قانون يمنع من التوجه إلى العيادات النفسية
…
فبذلك يتمكن من حل المسألة بشكل جذري !!
وإذا كان زملاؤنا الفرنسيون يتغاضون عن مثل هذه المقالات استناداً إلى ثقافة الفرنسي التي تجعله صعب الإنقياد للتضليل واستناداً إلى خبرة هذا الإنسان وتجربته في العيادة النفسية .. وإذا كان هؤلاء الزملاء يرون في هذا المقال ترهيباً ( وإن يكن كاذباً ) فمن شأنه أن يحد من إساءة استعمال المواد في مجتمعهم ، فإننا لا نستطيع أن نقبل بمثل هذه الترجمات الرديئة لمقالات بمثل هذه الخطورة بالنسبة لمجتمعنا . فحبذا لو يعلم هذا المترجم كم من الأفراد يستقي ثقافته من الصحافة اليومية وهو يقدس الكلمة المكتوبة . وحبذا لو يعلم كم من الصعوبات والعوائق تنتج عن مثل هذه الترجمات . فإذا كان هدف العلاج النفسي الوصول بالفرد إلى المستوى الأفضل لسعادته ولكي ينفع مجتمعه ، فإن إعاقة هذا العلاج بنشر مثل هذه الإشاعات ( التي ربما تكون نافعة في مجتمعات أخرى ) لهي مسئولية كبيرة ، وبخاصة عندما تقترن بسوء الثقافة وسوء الترجمة وانعدام القدرة على الاستيعاب .
* الوجه الاجتماعي للمرض :
ثمة وجه آخر من الوجوه التي يهملها أدباؤنا وكتابنا الثقافيون ، ونقصد به موقف مجتمعنا من هذه الأمراض ، وهو موقف متمايز تبعا لنوع المرض ، بحيث نلاحظ إلصاق صفة الجنون بمجموعة متنوعة من الاضطرابات النفسية التي لا علاقة لها بالجنون ، في حين ينجو مجنون البارانويا من وصمة الجنون كما ينجو معه مريض الفصام العظامي والسلوك التشردي الفصامي . بل إن مجتمعنا يحيط بعض هؤلاء المرضى أحياناً بهالة من الغموض والماورائية . وهنا أجد من الضروري العودة إلى مؤلفات نجيب محفوظ وإشاراته المتكررة إلى هذه الحالات وموقف المجتمع منها ، ففي روايته حديث الصباح والمساء ، يتطرق محفوظ إلى كيفية إحاطة قاسم عمرو عزيز بهالة من الغموض والتصوف نتيجة لمواقفه (الناجمة أساساً عن إصابته بمرض الصرع ) الغامضة والمبهمة . بل إن محفوظ يصف لنا قدرة هذا المريض على استغلال هذه الوضعية استغلالاً مادياً جعله من المحظوظين مادياً في محيطه العائلي . وتتكرر هذه الإشارات في مؤلفات محفوظ فيعكس بعضها شخصية " مجنون الحي " وبعضها التفسيرات الشعبية لأسباب جنون بعض الشخصيات . ولكن هذه الإشارات بقيت ذات مستوى سطحي في تحليلها لهذه الشخصيات . كما يهمنا في هذا المجال مناقشة محاولة مميزة لمحفوظ ، عنينا بها همس الجنون ، حيث يوجه إدانة خفية إلى المجتمع وإلى بنيته .. وهو يطرح إشكالية الجنون بقالب يشبه إلى حد بعيد قالب المدرسة المعادية للطب النفسي كما أنها تقترب في بعض جوانبها من وجهات نظر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، وبالرغم من عدم موافقتنا على هذه الطروحات فإننا نسجل سبقاً لمحفوظ وهو تحويره لصورة المجنون من إنسان مرعب مخيف وخطر إلى إنسان ذي خلفية صالحة وفكر قويم وضحية من ضحايا الفساد الاجتماعي . على أن هذا التحوير أصبح اليوم مدعما بعدد من الروايات والقصص والأفلام والمقالات والكتب التي باتت تتناول هذا الموضوع بطريقة أقرب إلى الواقع والحقيقة ، وإن كانت حمل في طياتها العديد من المغالطات بالنسبة لبقية الحقائق المتعلقة بالعيادة والممارسة النفسية كما أشرنا أعلاه .
ولكن ما هي الحلول التي يمكن اقتراحها أمام هذه الوقائع والمغالطات ؟ إنها ليست بالسهلة وهي تقتضي مشاريع ثقافية موسعة سنحاول عرضها في الفقرة التالية :
* الاقتراحات والحلول :
تلقى مسؤولية هذا الوضع على عاتق الثقافة العربية ككل . ومن هنا فإن مجمل الحلول التي يمكن اقتراحها تبقى ناقصة مالم تتكامل في مشروع ثقافي
–
عربي . فالمشاكل المعروضة في هذا الفصل لها معادلاتها في الميادين الأخرى ويكفينا هنا الإشارة إلى أننا نختار من الكتب العملية ما يلائم نزعاتنا ومن أمثلة ذلك ترجمة كتاب ليس في جيناتنا
(6)
التي أتت بعد سنوات طوال على صدوره بالإنجليزية ، ظهر خلالها من البراهين العلمية ما يدحض العديد من طروحات الكتاب وما يكفي للتأكيد على أثر الكتاب على أثر الجينات وأهميتها . مما يعني أنه " في جيناتنا " وليس " ليس في جيناتنا " . والمثقف العربي يقرأ اليوم هذا الكتاب على أنه الحقيقة ( أو حتى الحقائق ) العلمية المطلقة . وفيما يلي نعرض تباعا للاقتراحات التي نراها مناسبة لتخطي هذا الواقع ونبدأ بـ :
1-ضرورة قيام المدرسة العربية لعلم النفس والطب النفسي .
2-تشجيع تيار النقد النفسي في الأدب العربي .
3-استقاء الأمور من مصادرها . وهنا نذكر بأن فلوبير كتب رائعته مدام بوفاري انطلاقا من قراءته لنبأ انتحارها في إحدى الصحف ، فانطلق يدرس الحالة ويعاين الأمكنة حتى توصل إلى إخراج هذه التحفة التي خلدته .
4-ضرورة تدعيم المكتبة العربية وسد ثغراتها .
5-ضرورة العمل على إخراج التراث النفسي العربي إلى النور ، فهذا التراث إنما يحمل في طياته عناصر لا وعينا الجماعي وهويتنا النفسية التي نكاد نفقدها في بحر المشاكل المشار إليها أعلاه .
6-العمل على إصدار " سلسلة الرواية النفسية " التي تعمل على ترجمة الروايات النفسية الأجنبية والتعليق عليها بشكل يسمح للقارئ أن يفيد منها ولكن دون أن يقع في حبائل النقل العشوائي ومساوئه .
(1)
مجلة الثقافة النفسية ، المجلد الأول ، العدد الثاني ، 1990
(2)
مثلث في ثلاثة أفلام سينمائية هي
psycho 1,11,111
(3)
بسبكوسوماتيك الهيستيريا والوساوس المرضية ، بيروت ، دار النهضة العربية 1990
(4)
مقالة نحو ضرورة قيام المدرسة العربية للطب النفسي ولعلم النفس " مجلة الثقافة النفسية ، العدد الأول 1990 .
(5)
فيلم " من فضلك أعطني هذا الدواء .
(6)
ترجمة سلسلة عالم المعرفة ، عنوانه الأصلي هو
Not in Our Genes
.
" من كتاب : نحو سيكولوجية عربية ، 1995 للمؤلف "