الانتحار ليس حلاً ..

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : الدكتور لطفي الشربيني | المصدر : www.hayatnafs.com


صدمت المشاعر العامة بمطالعة أخبار مؤسفة عن حالات انتحار متعددة على صفحات الحوادث بالصحف مؤخراً  كان الفاصل بينها أيام معدودة .. ورغم صدمتي كإنسان مثل غيري بمثل هذه المآسي الإنسانية إلا أنني – كطبيب نفسي – أتناول هذه المسألة في سياق أكثر شمولاً .
والانتحار هو قتل النفس بطريقة متعمدة وهذا هو التعريف الذي تتضمنه مراجع الطب النفسي ، وهناك مصطلح آخر مقابل كلمة الانتحار Suicide هو الفعل المدروس لإيذاء النفس " Deliberate Self Harm , DSH " وقد يكون مجرد محاولة للانتحار لم تتم أو قتل للنفس ، وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية في أواخر التسعينيات إلى أن عدد حالات الانتحار في أنحاء العالم يبلغ 800 ألف حالة سنوياً .
ويعتبر الاكتئاب النفسي هو السبب الرئيسي في 80% من حالات الانتحار والذي يتتبع الأخبار ويطالع صفحات الحوادث في الصحف يجد أن أخبار حالات الانتحار تكاد تكون ثابتة بصفة يومية ، وهناك فرق بين الأزمات النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى التفكير في الانتحار كحل للهروب من هذه الأزمات وبين الاضطرابات النفسية التي تؤدي إلى الانتحار وفي مقدمتها الاكتئاب   .
ومن خلال متابعة الحالات في العيادات النفسية  نجد أن التفكير في التخلص من الحياة كحل لوضع حد لمعاناة الاكتئاب من الأعراض الرئيسية المتكررة في معظم حالات الاكتئاب وهناك عوامل كثيرة تتدخل في هذا التفكير منها شدة حالة الاكتئاب وطبيعة المشكلات التي يعاني منها الشخص  في حياته وارتباطه بأسرته ومعتقداته الدينية والفكرية ، وقد تسهم كل هذه العوامل في أن يسيطر المريض علي فكرة إيذاء النفس أو الانتحار أو على العكس من ذلك قد تدفعه إلى الإقدام على الانتحار حيث لا يجد أي دعم أو مساندة من المحيطين به أو يفقد الأمل تماماً في الخروج من الحالة التي يعاني منها ، وهناك مؤشرات تدل على أن احتمال إقدام المريض علي الانتحار قائم ويمكن للأطباء الاستدلال علي ذلك من خلال توجيه بعض الأسئلة إلى المريض بالتأكد من مدى عمق فكرة الانتحار في رأسه وإمكانية إقدامه علي تنفيذها وهنا نقدم قائمة من الأسئلة التي يمكن من خلالها استكشاف الميول الانتحارية لدى مرضى الاكتئاب ، وجدير بالذكر أننا في العيادة النفسية يجب أن نناقش مع المريض ما يدور برأسه من أفكار انتحارية على عكس وجهة النظر التي تقول أنه يجب تجنب الحديث عن الانتحار حتي لا نعطي المريض الفكرة حول موضوع الانتحار ، ومن الأفضل أن يقوم الطبيب النفسي في الحديث طرحه مع مريض الاكتئاب ومناقشته في هذه الأفكار دون تجنب المواجهة لأن ذلك يكشف ما يدور بعقل المريض حتي يمكن تفادى تزايد هذه الأفكار وإقدامه علي الانتحار فيما بعد .
 

وهذه المجموعة من الأسئلة يمكن أن تكشف عن تفكير مريض الاكتئاب في إيذاء نفسه أو الانتحار :
* هل فكرت قبل ذلك أو تفكر الآن في التخلص من هذه المعاناة بإيذاء نفسك ؟
* هل تدور بعقلك بعض الأفكار حول التخلص من الحياة ؟
* هل تفكر في وسيلة لإيذاء نفسك والهروب من مشكلتك بالانتحار ؟
* هل قمت قبل ذلك بأية محاولة لإيذاء نفسك ؟ وكيف تم ذلك ؟
* هل قمت بكتابة بعض الأوراق أو الرسائل حول فكرة أن تتخلص من حياتك ؟
* هل هناك ما يمنعك في التفكير في الانتحار ؟
* هل تعيش بمفردك الآن وتبتعد عن أسرتك وأقاربك ؟
* هل تعاني من بعض الصعوبات النفسية التي لا يمكنك احتمالها ؟

ومن خلال إجابة مريض الاكتئاب عن هذه الأسئلة يمكن الاستدلال علي مدى تفكيره في إيذاء نفسه للانتحار ..  وهناك بعض العلامات التي يستدل بها الأطباء النفسيين على أن بعض مرضى الاكتئاب لديهم دافع قوى علي الإقدام علي الانتحار ومن هذه العلامات إحساس المريض بالضيق الشديد وبأن صبره قد نفذ ولم يعد لديه القدرة على الاحتمال ، وهو في هذه الحالة يبدو مستسلما ولا يرحب بمناقشة مشكلاته او البحث عن حلول لها لأن الحل بالتخلص من الحياة يبدو أمامه وكأنه الخيار الوحيد والأمثل في حين يغلق الباب أمام أية حلول أخرى وقد يتساءل المريض عن أهمية الحياة وقيمتها ويذكر انه لا سند له في هذه الدنيا وان الحياة مظلمة ولا أمل في المستقبل ، ويفسر علماء النفس الانتحار بأنه نوع من العدوان الداخلي الذي يرتد إلى النفس بدلا من الخروج إلي المحيطين للشخص .
ورغم أن بعض الأشخاص يقدمون على الانتحار دون أن يعرف عنهم الإصابة بالاكتئاب قبل ذلك إلا أن فحص ومراجعة حالات الانتحار تؤكد أن نسبة كبيرة منهم كانوا يعانوا من حالات اكتئاب نفسي شديد في الوقت الذي أقدموا فيه على ارتكاب فعل الانتحار ، وعلى العكس من الفكرة السائدة حول ارتباط الانتحار بحالات الاكتئاب الشديدة فإن بعض حالات الاكتئاب النفسي الحادة التي تكون مصحوبة بالبطء الحركي الشديد وهبوط الإرادة قد تسبب عجز المريض عن الإقدام على تنفيذ الانتحار رغم أن الفكرة تدور برأسه ، وقد لاحظ الأطباء النفسيون أن الإقدام على الانتحار يحدث في هؤلاء المرضى بعد أن يتلقوا العلاج حيث يبدأ المريض في التحسن الحركي قبل أن تزول أعراض الاكتئاب في بداية الشفاء وهنا يمكن تنفيذ عملية الانتحار .
وفي الحالات المبكرة من الاكتئاب قد يقوم المريض بإيذاء نفسه حين يلاحظ أن هناك تغييراً هائلا قد أصابه ولم يعد يستطيع التحكم في حالته النفسية ، ويقوم مرضى الاكتئاب بتنفيذ محاولات الانتحار عادة في ساعات الصباح الأولى وهو الوقت الذي تكون فيه مشاعر الاكتئاب في قمتها ، وقد لاحظت دوائر الشرطة في بعض الدول الأوربية أن حالات الانتحار تقع دائما في عطلة نهاية الأسبوع وفي أيام الأعياد وتفسير ذلك هو أن إحساس الاكتئاب يزداد عمقا لدى الكثير من الأشخاص في مثل هذه المناسبات التي يفترض أن تكون فرصة للبهجة والاستمتاع بالحياة ، ولوحظ أيضا زيادة نسبة الانتحار في المدن مقارنة بالمناطق الريفية والسبب هو انعدام الروابط الإنسانية في المدن المزدحمة مما يزيد من شعور الفرد بالعزلة رغم أنه وسط زحام من الناس . وهذه بعض الحقائق والأرقام عن الانتحار في العالم :
* عدد حالات الانتحار في العالم يبلغ 800 ألف حالة سنوياً حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى احتمال زيادة هذا العدد إلى مليون شخص كل عام ، وفي الولايات المتحدة وصل عدد حالات الانتحار إلى أكثر من 230 ألف شخص بمعدل شخص ينتحر كل 20 دقيقة أو 75 حالة انتحار يومياً . وهؤلاء هم الذين ينجحون في إتمام الانتحار بينما يصل معدل محاولات الانتحار إلى 10 أضعاف هذا العدد .
* أعلى معدلات الانتحار توجد في الدول الاسكندنافية ( السويد - النرويج - الدنمارك ) ، وتصل إلى 40 لكل 100 ألف من السكان ، وفي بعض دول أوروبا الشرقية مثل المجر تصل هذه المعدلات إلى 38-40 لكل 100 ألف ، في فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا تزيد هذه المعدلات على 20 لكل 100 ألف .
* في مصر وفي دول العالم العربي والدول الإسلامية تنخفض معدلات الانتحار لتسجل معدل لا يزيد عن 2-4 لكل 100 ألف من السكان ، ويعود ذلك إلى تعاليم الدين الإسلامى الواضحة بخصوص تحريم الانتحار وقتل النفس .
* تزيد معدلات الانتحار في الرجال مقارنة  بالسيدات بمعدل 3 أضعاف بينما تزيد معدلات محاولات الانتحار التي لا تنتهي بالقتل الفعلي في المرأة مقارنة بالرجال .
* أكثر أساليب الانتحار انتشاراً في الرجال هي استخدام الأسلحة النارية والشنق والقفز من أماكن مرتفعة ، أما في المرأة أكثر الأساليب استخداماً هو تناول جرعات زائدة من الأدوية المنومة او المهدئة او السموم  (مثل سم الفئران ) .
* تزيد معدلات الانتحار مع تقدم السن ، تزيد معدلات الانتحار بعد سن 45 سنة في السيدات وبعد سن 55 سنة في الرجال ، كما تزيد فرص نجاح إتمام الانتحار كلما تقدم السن ، وتصل معدلات الانتحار في كبار السن إلى 25% من مجموع حالات الانتحار رغم أنهم يمثلون نسبة 10% فقط من مجموع السكان .
* تزيد معدلات الانتحار في غير المتزوجين وخصوصاً الأرامل والمطلقين حيث أن الزواج وإنجاب الأطفال يعتبر من العوامل التي تحد من الإقدام علي الانتحار .
* تزيد معدلات الانتحار في الأشخاص الذين قاموا قبل ذلك بمحاولات لإيذاء النفس سواء كانت بطريقة جادة أو لمجرد لفت الانتباه وفي الأشخاص الذين يعانون من العزلة الاجتماعية ، أو الذين أقدم أحد أفراد الأسرة من أقاربهم على الانتحار .
* هناك بعض المهن ترتبط بمعدلات عالية من الانتحار ، وتزيد معدلات الانتحار في العاطلين عن العمل وفي الأشخاص الذين ينتمون إلى الطبقات الراقية ، وتزيد معدلات الانتحار في الأطباء بمعدل 3 مرات أكثر من الفئات الأخرى ، ومن بين التخصصات يأتي في المقدمة بالنسبة لزيادة احتمالات الانتحار الأطباء النفسيين وأطباء العيون ثم أطباء التخدير ، ومن المهن الأخرى التي يقدم أصحابها علي الانتحار بمعدلات عالية الموسيقيون وأطباء الأسنان والمحامين .
* ترتبط معدلات الانتحار ببعض فصول السنة حيث سجلت زيادة في حالات الانتحار في فصل الربيع والشتاء في بعض المناطق ، وترتبط حالات الانتحار بالإصابة ببعض الحالات النفسية مثل الاكتئاب والإدمان ، كما تقل معدلات الانتحار في فترات الحروب وفترات الانتعاش الاقتصادي بينما تزيد في الفترات التي يحدث فيها كساد اقتصادي عام وزيادة في معدلات البطالة .
وهناك بعض حوادث الانتحار تبدو غير مفهومة ويحيط بها الغموض ومن أمثلتها بعض الحوادث التي تطالعنا بها الصحف بين الحين والآخر ومنها علي سبيل المثال أب يقتل زوجته وأطفاله الصغار ثم ينتحر أو أم تلقي بأطفالها الثلاثة في النيل ثم تحاول الانتحار بعد ذلك أو انتحار جماعي لمجموعة من الحيتان والدلافين على شاطئ البحر .
وتفسير هذه الحوادث من وجهة النظر النفسية أنها من أنواع الانتحار الذي يطلق عليه أحياناً الانتحار الممتد Extended Suicide ويعني أن يقوم بالتخلص من حياته وفي نفس الوقت يقرر قتل جميع الأشخاص الذين يرتبط بهم بعلاقة إنسانية قوية والدافع إلى ذلك هو أنه يريد أن يتخلص من  معاناته للاكتئاب وفي نفس الوقت يريد أن يخلص الأشخاص الذين يعتبرهم امتداداً له من معاناة الحزن بعد رحيله ، أما دافع الانتحار الجماعي للحيوانات فمن الصعب تفسيره وربما يكو السبب هو حالة اكتئاب عامة تصيب هذه الحيوانات مما يدفعها إلى الإصرار على التخلص من حياتها على هذا النحو .
ونظراً لأن مشكلة الانتحار تمثل أحد الأولويات في المجتمعات الغربية فقد تم تأسيس جمعيات كثيرة في كل المدن تعرف بجمعيات الإنقاذ أو جمعيات مساعدة الراغبين في الانتحار ويمكن لأي شخص يفكر في الانتحار أن يتصل تليفونياً بإحدى هذه الجمعيات التي تعمل علي مدار الساعة ويبلغهم بأنه يفكر أو ينوى الإقدام على الانتحار فيتجه إليه المتطوعون من أعضاء هذه الجمعيات ليقدموا له المساعدة وفي معظم الأحيان تنجح الجهود في التفاهم مع الشخص الذي يفكر في الانتحار ويمكن الحوار معه فيتراجع عن عزمه في الإقدام على الانتحار ، ورغم زيادة خدمات الصحة النفسية في الدول الغربية إلا أن معدلات الانتحار تظل عالية بالمقارنة إلى الدول العربية والإسلامية .
وهنا نذكر بعض الحقائق الهامة من وجهة نظر الأطباء النفسيين حول موضوع الانتحار في مقدمة هذه الحقائق نشير إلى أهمية مناقشة كل مرضى الاكتئاب بصفة عامة عن موضوع الانتحار بطريقة مباشرة دون تردد وتوجيه الأسئلة لهم حول التفكير في الانتحار ورغبتهم في التخلص من الحياة حيث يمكن في 8 من كل 10 منهم الاستدلال علي نية المريض بالنسبة للإقدام على الانتحار ويجيب 50% من المرضى على ذلك بإبداء رغبتهم صراحة في الموت ، وقد يفضي بعضهم إلي الطبيب بأن لديه خطة جاهزة للتخلص من حياته.
ونؤكد هنا على أن أي تهديد من جانب المريض بأنه يفكر في  الانتحار يجب أن يؤخذ بجدية من جانب أسرته وأقاربه والأطباء المعالجين، وهنا نضع بعض العلامات التي يمكن من خلالها الاستدلال على احتمالات الانتحار حتى تؤخذ في الاعتبار من جانب كل المحيطين بالمرضي النفسيين بصفة عامة ومرضى الاكتئاب خصوصاً ، وهذه العلامات هي ظهور القلق والإجهاد على المريض وترديد عبارات حول التخلص من الحياة ومعاناة أزمة مادية أو عاطفية أو عائلية ، أو الأشخاص الذين تبدو عليهم مظاهر التشاؤم الشديد وفقدان الأمل في كل  شيء ، ومن خلال الخبرة في مجال الطب النفسي فإن اهتمامنا يتزايد ببعض الحالات التي نعلم باتجاهها إلى التفكير في إيذاء النفس أو التخلص من الحياة مثل الرجال بعد سن الأربعين ، ومدمني الكحول ، والذين يعانون من أمراض مزمنة أو مستعصية ، أو الذين فقدوا شخصاً عزيزاً لديهم ، أو الذين يواجهون صعوبات في أعمالهم ، والعاطلون ، والذين صدموا بخسارة مادية هائلة ، وهنا نؤكد أن الغالبية العظمى من حالات الانتحار يمكن الوقاية منها ومساعدة هؤلاء الأشخاص باكتشاف نواياهم مبكرا وتقديم العون لهم قبل أن يتخذوا قرارهم النهائي بالإقدام على التخلص من الحياة .
 
 

 

وأخيراً فان الرسالة التي أريدها أن تصل إلى الجميع هي أن الانتحار أو قتل النفس ليس حلاً لأية أزمة أو مشكلة .. وهناك دائما الكثير من البدائل التي يمكن التفكير فيها حين تتأزم الأمور وتشتد المحن ، ويمكن أن تتلمس النور وسط السواد الحالك المحيط بنا ،ويتحقق الخروج من النفق المظلم وانتصار إرادة الحياة ،والحل هنا من وجهة النظر النفسية يتفق تماماً مع المنظور الإسلامي للتعامل مع البلاء والشدائد بالعودة إلى الله سبحانه وتعالى والتمسك بإيمان قوي والتحلي بالصبر والثبات ،حتى يقضى الله أمره ، وهو القادر على كل شيء .

( تم النشر في 6/10/2002 )