العولمة .. ملاحظات نفسية
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
د.حسان المالح
| المصدر :
www.hayatnafs.com
تتميز العولمة بجملة من التغيرات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية والثقافية ومن المتوقع أن هذه التغيرات سوف يكون لها آثار نفسية على صعيد الفرد والمجتمع .
وإذا أخذنا التغيرات التقنية في وسائل الاتصال والمعلومات مثلاً فإننا نجد عدداً من الصفات والسلوكيات التي تميزها :
1-
الاتصال بالآخر :
تتيح تقنيات الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والبريد الإلكتروني والهاتف الجوال الاتصال بالآخر وبسرعة فائقة والتعامل معه ومن الممكن تسمية ذلك " ازدياد أهمية التواصل " بين البشر ولكن في الوقت نفسه أن هذا الاتصال يبقى" فضائياً " وليس مباشراً . كما يلاحظ أن هذا الشكل من الاتصال يطغى على اتصال الفرد المباشر والحميم بالآخر مما يمكن له أن يجعله هامشياً و ثانوياً . ومع ازدياد أهمية قيمة الاتصال كقيمة إنسانية وما يتبعها من تطور في مهارات اللغة و التفاهم و الحوار بين الفرد و الآخرين تبقى نوعية هذا الاتصال خاصة وغير مباشرة مما يمكن أن يساهم في عزلة الفرد عملياً و انطوائه .. مالم يحدث توازن و توجيه لهذا النمط من الاتصال في تطوير الاتصال المباشر جنباً إلى جنب مع الاتصال الفضائي .
2-
الفردية و الذاتية :
تتميز تقنيات الاتصال الحديثة بأنها تنمي الفردية والذاتية .. وهي تمنح المستخدم لها قدرات على التحكم بضغط الأزرار و بسرعة والتنقل من موضوع إلى آخر إلى موقع إلى أشخاص .. وفقاً لمزاج الفرد وتفكيره وإرادته. كما أن إسم الفرد و عنوانه ورمزه الخاص به يظهر على الشاشة ويتداوله الآخرون .. وفي ذلك اعتداد بالذات وإرضاء للفردية والنرجسية والأنا .. وتعزيز و تضخيم لها . وفي نفس الوقت تتيح نفس التقنيات إمكانية التنصت على ما يكتبه الفرد أو يخزنه في جهازه الشخصي ( الكومبيوتر ) .. وأيضاً إمكانية التدخل في بريده الشخصي و إغراقه بمعلومات قد لا يحتاج إليها .. إضافة إلى إمكانية حدوث تخريب لجهازه الإليكتروني و الأذى الذي يمكن أن يلحق به. كما أن سرقة بطاقات الائتمان و استخدامها غير الشرعي يمكن أن يؤدي إلى خسائر مادية كبيرة . وهكذا يشعر الفرد ظاهرياً أنه مستقل وحر و يتصرف كما يريد مضخماً وهم الفردية و النرجسية ولكنه في نفس الوقت معرض للتدخل و الاجتياح .. ومن المتوقع أن يؤكد ذلك قيماً و صفات سلبية مثل القلق و الحذر و الشك وعدم الأمان .
3-
التنافس والمغامرة والربح :
تفتح العولمة بجوانبها الاقتصادية والتقنية الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام التنافس وإمكانيات الربح والمغامرة الاقتصادية و الاجتماعية و العملية .. ولكن في الجهة الأخرى نجد أن الربح و المصادفة الناجحة والحظ لا يستمتع بها إلا قلة .. ويبقى القانون الاقتصادي هو " التحكم بالأرباح الكبرى من نصيب الشركات الكبرى " ويبقى وهم الفرصة السانحة يستهوي الفرد ولكن من المتوقع أن يصيبه بالإحباط وخيبة الأمل والكوارث أيضاً بعد التجربة و المعاناة .
4-
الصدمة الثقافية :
تمثل تقنية الاتصالات ثورة هامة في مجال الثقافة والمعلومات والقيود المفروضة عليها تبقى محدودة ويمكن لهذا الانفتاح المعرفي والثقافي أن يكون له آثار إيجابية إلا أنه يمثل صدمة ثقافية وتربوية للكثيرين .. مما يعني اهتزاز القيم والأفكار والثوابت التي يحملها الإنسان ويسبب ذلك قلقاً وتناقضاً لا يسهل فهمه والتعايش معه من قبل الفرد وربما يجعله سلبياً يتقبل كل شيء ويتصالح مع مختلف والأفكار وأساليب العيش .. وربما يجعله أكثر تعصباً ونكوصاً وتطرفاًَ وعودة إلى الماضي وبين ذلك خيارات واحتمالات أخرى متنوعة ومنها الشعور بالنقص والضعف ونقد الذات والشعور بالعجز والاكتئاب والفقدان .
ويعبر كثيرون عن قلقهم من كمية المعلومات المتاحة ونوعيتها .. ويشعر الفرد بأنه فقد السيطرة ليس على أبنائه وأسرته فحسب بل حتى على أصدقائه ومعارفه .. وكل على هواه دون رقيب .. ومن الناحية الاجتماعية يمكن أن تنتج ثورة المعلومات والاتصالات هامشاً أكبر للحرية والمعرفة ولا شك في ذلك .. وهذا ما يستدعي تعديلات في بنية الهيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة.
ويبقى أن هناك صدمة ثقافية تحتاج إلى التعامل معها بكل قلقها وتناقضاتها من قبل الفرد والمجتمع وهذا يعني " ازدياد التوتر والاضطراب والتغير والتحول" .
5-
استيراد وتصدير الأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية :
تستدعي العولمة فكرة " القرية الكونية الواحدة " بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. وأيضاً المرضية.
ومن الملاحظ أن تبادل الأمراض المختلفة أصبح أكثر شيوعاً بين مختلف الشعوب .. ويحدث ذلك بسبب العدوى والتقليد والتأثر وغيره من خلال تبادل المنتوجات المتنوعة ابتداءً من البشر والآلات والأطعمة إلى الكتب والمجلات والأفلام ..
ومن المتوقع أن المجتمعات الأكثر تطوراً يمكنها أن تتعامل بشكل أفضل مع مثل هذه المشكلات بحكم إمكانياتها وتطورها .. وتبقى المجتمعات النامية أكثر عرضة وتأثراً بالمشكلات العديدة التي تفرضها هذه الأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية .. مما يعزز الشعور بالضعف والعجز وعدم الأمان لدى الفرد والمجتمع.
كلمة أخيرة
لا يمكننا اتهام التطور العلمي والتقني بمخاطر العولمة ومساوئها .. والعلم وسيلة بيد الإنسان والمجتمع يمكن أن يستخدم في سعادة البشر .. كما يمكن أن يستخدم في غير صالحهم .. ولا بد من القول بأن العولمة تحمل في داخلها تناقضاتها وصراعاتها .. ولا بد من التعامل مع الواقع والظروف المعاصرة دون الهرب إلى الأمام أو إلى الخلف .. ويبدو أن هناك تحديات كبيرة وكذلك هناك مسؤوليات متنوعة يجب أن يحملها الفرد والمجتمع .. وهكذا الحياة.