الإبداع والاضطراب النفسي .. مقدمة :
مالذي يجمع بين فينسنت فان كوخ وتشايكوفسكي وبيكاسو ورخمانينوف ؟ إضافة لكونهم يشتركون في الشهرة التاريخية كموسيقيين أو كفنانين تشكيليين .. فإن هؤلاء الرجال الأربعة يشتركون في خاصية متميزة يمكن وصفها بالإبداع المتميز وبالاضطراب النفسي الشديد معاً ( Post,1994 ) .
والحقيقة أن غوغان وكوليه وتولستوي وشارلوت برونتي وكافكا هم أمثلة قليلة من شخصيات أخرى لا تعد من مشاهير الفنانين الذين عانوا من اضطرابات نفسية موثقة تاريخياً ( Post,1994 ) .
مساران للبحث أفضل من مسار واحد
شكراً للتقدم الذي حدث مؤخراً في ميدان تقنيات التصوير العصبي الدماغي ..والذي أدى إلى تشخيص أكثر دقة للمرض النفسي في الأشخاص الأحياء . فقد اكتشف أطباء العصبية نسبة قليلة من الناس ولديهم تميز خاص ، وقد فتح ذلك الباب أمام مجموعة من الاستقصاءات حول الارتباطات الفيزيولوجية بين الفن البصري وبين تلف الدماغ . وهذا يناقض تماماً الأشخاص المصابين بداء ألزهايمر ، والذين لديهم تدهور واضح في كل المهارات الفنية التي اكتسبوها من قبل ( Cummings & Zarit ,1987 ) ، ميللر ( Miller ) وهو الرائد في هذا المجال الجديد نشر عدة مقالات حول الظهور الفعلي لمواهب فنية عند أشخاص لم يكن لهم أي تميز ولم يكونوا فنانين . وكما سأناقش من خلال مراجعتي لأبحاثه ، فإن الحالات الخمسة التي قدمها جميعها وجد لديها من خلال التصوير الدماغي بتقنية SPECT ، شكلاً من الخرف تم وصفه وتحديده مؤخراً، يعرف باسم الخرف الجبهي الصدغي ( FrontoTemporal Dementia,FTD ) . وبعد مناقشة مختصرة لصعوبة تعريف وتحديد الإبداع على أنه ينشأ من جزء محدد أو من وظيفة من الدماغ سوف أقدم الموجودات التي وجدها ميللر وسأختم بطرح احتمالات قضايا فلسفية وأخلاقية يثيرها الموضوع .
الارتباط بين الإبداع والجنون هل هو مصادفة فقط ؟
في العشرين سنة الأخيرة تم تكديس كميات متزايدة من الأبحاث الطبية ذات الدعم النقدي والتي تقدم دليلاً على وجود رابط بين الإبداع وبين الاستعداد للاضطرابات المزاجية ( Hare.1987:Jamison.1993;Post,1994 ) . وعلى الرغم من صعوبة تصنيف وقياس صفة غائمة مثل الإبداع ، فإن هذه الدراسات تمثل هزة أرضية لما فيها من استقصاءات منهجية للموضوع . وفي دراسة Post تم اختيار 291 من الشخصيات العالمية المتوفين والذين اختيروا على أنهم مثال للأشخاص المبدعين ، وكل واحد منهم تم تصنيفه ضمن ستة فئات : علمي ، مؤلف موسيقي ، سياسي ، فنان ، مفكر ، أو كاتب . وقد اختير الأشخاص وفقاً لتوفر ونوعية ومصداقية المعلومات المناسبة عن حياتهم وعن صفاتهم الشخصية ( معلومات موضوعية وليس سيرة ذاتية شخصية ) Post ,1994) ) . ومن ثم فإن المعلومات المستخلصة عنهم تم تحويلها إلى تشخيص نفسي عندما يكون ذلك مناسباً ، مستخدماً الدليل الأمريكي لتشخيص الاضطرابات النفسية المتوفر في حينه(DSM-III-R American Psychiatric Association ) .
وقد أوحت نتائج هذه الجهود الكبيرة أن هناك اضطرابات نفسية أكثر انتشاراً في الفئات الإبداعية مثل الفنانين والكتاب مقارنة مع العلماء أو المثقفين الأقل إبداعاً . وقد ختم Post بأن هناك صفات مرضية في الشخصية مرتبطة سببياً مع بعض أنواع الإبداع القيم ( 1994 ) .
الإبداع والليثيوم : لا يتوافقان معاً
بينما كانت جاميسون Jamison تقوم ببحث يشبه مشروع بوست من حيث الأسلوب ، فإنها قدمت مناقشة أكثر منطقية في عدة أمور ، لأنها كانت تحاول أن تجيب على سؤال أكثر تحديداً وأكثر قابلية للقياس الكمي .
فقد قفزت فوق حدود البذرة التي زرعها DeLang و Aldershof وهما اللذان وجدا أن هناك انتشاراً عالياً وبشكل غير عادي في المهارات الخاصة مثل الموهبة الفنية ، في عينة من الأطفال المصابين باضطراب الهوس الاكتئابي ( 1993 ) . فقد خططت جاميسون دراستها لتختبر النظرية التي تقول أن التطرف في المزاج أو التفكير أو السلوك مرتبط بالتحديد بالإبداع الفني ( 1989 ) . وقد وصلت إلى ذلك من خلال دراسة معدلات العلاج من الاضطرابات المزاجية في عينة من عمالقة الكتاب والفنانين البريطانيين ، ودرست الاختلافات في حال وجودها بين فئات المجموعة نفسها من حيث نوعية المهنة ( شعراء ، كتّاب الرواية ، كتّاب مسرحيين ، كتّاب السيرة الذاتية ، والفنانين ) .
القضايا
ناقشت جاميسون أيضاً بعض ما يترتب على بحثها من قضايا نظرية وعيادية وأدبية واجتماعية أخلاقية . وقد وضعت بعين الاعتبار مسائل مثل فهم العمليات العقلية والإدراكية والمزاجية وتغيرات السلوك والتي تشترك فيها حالات الهوس والاكتئاب والحالات الإبداعية . وأيضاً الإمكانيات الممكنة لتخفيف الوصمة السلبية المرتبطة بالمرض النفسي ، وتأثيرات العلاجات النفسية ( مثلاً : دواء الليثيوم ) على الإبداع ، والتحفظات المثارة حول الأبحاث الوراثية على اضطرابات المزاج ( Jamison,1989 ) .
وقد أثار كميينغس وزاريت ( Cummings & Zarit ) مسائل هامة مشابهة في مقالتهما حول " احتمال مرض ألزهايمر عند فنان " (1987)" Probable Alzheimer Disease in an Artist " . حيث قدما حالة رسام وعمره 75 عاماً تدهورت مهاراته الفنية بشكل واضح خلال عامين ونصف من التقييم المبدئي لسلوكه والتقييم العصبي النفسي الذي خضع له بسبب احتمال مرض ألزهايمر عنده . ومن خلال مراقبة تأثير الأذى الدماغي على التدهور الواضح للإبداع الفني ، طرح المؤلفان نظرية حول طبيعة الموهبة الفنية و اعتبراها صفة فطرية تعكس فرادة منظومة التكوين التشريحي – الوظيفي لدماغ الفنان . و يتضمن ذلك أن الإبداع ظاهرة لا يمكن تربيتها أو تنميتها إرادياً وأنها على العكس فهي فقط نتيجة فيزيولوجية لبنية عصبية معينة .وقد جاءت معارضة مثيرة لهذه القصة من خلال الاستجابات لتلك المقالة . ومن الواضح أن أعداداً كبيرة من النقاد الفنيين رأوا إبداعات خاصة في سلسلة اللوحات التي رسمها الفنان المريض والتي اعتبرها كميينغس وزاريت دليلاً على التدهور الواضح والمثير لمهاراته الفنية والإبداعية ، ولم يوافقوا على ذلك الوصف وانتقدوه بعنف . وفي رسالة لكاتب يجادل فيها بأن اللوحة الثانية في سلسلة اللوحات والتي تم رسمها بعد سبع سنين من بدء ظهور مرض ألزهايمر على الفنان أنها " لوحة مذهلة " " و" أنها عمل عبقري يذكر بأهم لوحات فان كوخ " مجلة الجمعية الطبية الأمريكية 1988 ( JAMA ). ومثل رد الفعل هذا يوضح الطبيعة الذاتية في مسألة تقييم الإبداع ، كما أنه يذكرنا بالطبيعة المعقدة والغامضة غالباً ، لهذه الجوانب من التفكير والسلوك الإنساني .
النظر إلى الخرف
الخرف الجبهي الصدغي : جبهة الإبداع الجديدة
تفاصيل عن المرضى
خاتمة
لاحظ غولدمان راكيك أن العمليات البصرية المكانية التي تتدخل في نشاطات مثل الرسم والتلوين من الذاكرة تعتمد على التلفيف الظهري الوحشي ماقبل الجبهي ( dorsolateral prefrontal convexity ) . وكما وصف ميللر فإن هذه المنطقة هي المنطقة الأساسية من الدماغ التي لم يمسها الضرر في جميع الحالات الخمسة المصابة بالخرف الجبهي الصدغي ، وكانت كل المهارات الجديدة التي تطورت لديهم بصرية ولم تكن لفظية أبداً . وقد افترض ميللر آلية ممكنة لهذه الظاهرة التي لاحظها وسماها التسهيل الوظيفي المعاكس ( paradoxical functional facilitation ) .وافتراضياً فإن فقدان المهارات الاجتماعية وظهور السلوك الفاضح ربما لم يكن مصادفة أن يكون ضمن أعراض الخرف الجبهي الصدغي ، ووفقاً لمييلر: فإن الانحلال الانتقائي للقشر الأمامي الصدغي والبصري الجبهي ( والذي يعتقد أنه مرتبط بالمهارات الاجتماعية ) يقلل من ضبط المنظومات البصرية الواقعة خلفها والتي تتدخل بالإدراك ، وبالتالي فهي تزيد وتحسن من الاهتمامات والمهارات الفنية للمرضى (1998 ) .
References
Cummings,J.L.&Zarit J.M. ( 1987 )Probable Alzheimer Disease in an artist.
Journal of the American Medical Association,258,2731-4.
Edward-Lee,T.,Miller,B.L.,Benson,D.F.,Cummings,J.L.Russell,G.L.,Boone,K.,&Mena,I.(1997).The temporal variant of frontotemporal dementia.
Brain,120,1027-40.
Goldman-Rakic,P.S.(1996)Regional and cellular fractionation of working memory.
Proceedings of the National Academy of Science,93,13473-13480 .
Jamison,K.R.(1989) Mood disorders and patterns of creativity in British writers and artists.
Psychiatry,52,125-34 .
Kennes,M.(1995) Creativity and Psychopathology.
Lancet,345,138-9.
Miller,B.L.,Cummings,J.L.,Mishkin,F.,Boone,K.,Prince,F.,Ponton,M.,&Cotman,C.(1998). Emergence of artistic talent in frontotemporal dementia.
Neurology,51,978-82.
Miller,B.L.,Ponton M.,Benson D.F.,Cummings J.L.,&Mena I.(1996).Enhanced artistic creativity with temporal lobe degeneration.
Lancet,348,1744-5.
Post,F.(1994).Creativity and psychopathology: A study of 291 world-famous men.
British Journal of Psychiatry,165,22-4.
Stokes,P.(1994). Creativity and psychopathology.
British Journal of psychiatry,165,555-6.