بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : محمد عدناني | المصدر : belahaudood.org

بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد

تمهيـــد
معلوم، أن العرب اعتنوا باللغة إلى أقصى الحدود الممكنة لما لها من دور خطير وحاسم. ولا يحتاج الباحث إلى كثير من الحَصافة لإدراك هذا الاحتفاء إذا ما عَلم أنها إحدى الأسس المتينة للهوية، ويزداد الأمر رسوخا حين ينظر في تاريخ النقد العربي، فيجد أن أهم القضايا النقدية التي تطارحها العرب كانت تتصل، من قريب أو بعيد، باللغة. ويكفيه دليلا أن قضية اللفظ والمعنى جزء من الظاهرة اللغوية بشكل عام، والأكثر من كل هذا وذاك أنْ وَصَلَ اهتمام العرب باللغة أنْ اعتمدوها أحد المقاييس المؤثرة لتمييز جيد الكلام من رَديئه.
وليس عبثا أن تحظى اللغة بهذه العناية من قبل هؤلاء، فقد أحسوا الدور الخطير الذي تلعبه في حسم الكثير من المواقف لصالح أو ضِدَّ مستعمليها. فكم من نِزاعات حُسِمَتْ بمنزلة اللغة المستعملة، وليس ببراعة الخُطباء والشعراء. وقد عقد النقاد العرب القدامى فصولا في كتبهم تبرز هذا الدور الخطير، سواء تعلق الأمر بالآفات التي يُوقِعُها سوء توظيف اللغة من قِبَل المتكلمين بها، أو المكاسب التي ينالونها من حُسن استثمارها.
فالشعر كان في صميم الحياة العربية، يلعب الأدوار كلها، ولذلك كان لِزاما أن يتكئ على لغة راقية ومؤثرة سواء للإقناع أو الإمتاع، فلا المستوى الجمالي الإبداعي كافٍ لِيُسْتَحْسَن الشعر، ولا المستوى الحِجاجي. وحده تكامل هذين المستويين يحقق القدر المطلوب لاستحسان الناس وتجويدهم له، ولذلك اتجهت جهود النقاد إلى مراقبة اشتغال اللغة في جنس مخصوص هو الشعر الذي لم يَتَوَرَّعوا في اعتباره أرقى منزلة من النثر1.
وعلاقة اللغة بالشعر علاقة طبيعية تقوم على الإفادة والاستفادة، وليست علاقة جَبْرِية تنهض على الإكراه والفَرض، ويمكن تبين ذلك من مستويين:
أ‌. يتصل الأول بطبيعة اللغة الموظَّفة في القصائد، فهي محكومة بشرط الجزالة والعذوبة، حيث أذواق الناس تطلبُ تناغم هذين الوصفين2.
ب‌. ويتصل الثاني بالمَزية التي يعطيها هذا التوظيف للغة نفسها، بحيث تأخذ اعتبارها وتميُّزها بتوظيفها في الشعر أكثر مما توظف في النثر، وفي هذا يقول ابن رشيق: "ألا ترى أن الدُّرّ، وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يُشَبَّهُ، إذا كان منثورا لم يُؤْمَن عليه، ولم يُنْتَفَع به في الباب الذي له كُسِب، ومن أجله انتُخِبَ، وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا، فإذا نُظِمَ كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله"3.
ولم يكن اعتناء العرب بلغتهم من قبيل المسلمات التي توارثوها، أو المسكوكات الجامدة التي لا يجوز تحريكها، وإنما صادر عن علم ومعرفة بأساليب توظيفها.
ويكفي أن نورد بعضا مما رواه ابن خلدون في الفصل الثامن والأربعين من "المقدمة" لنتبين درجة الوعي بطيبعة اللغة الواجب توظيفها في أجناس الكلام. قال: "أخبرني يوما، صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال: ذكرت، يوما، صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المُقَدَّمَ في البصرة باللسان بعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أَنْسِبْها له، وهو هذا:
لَمْ أَدْرِ حِين وَقَفْتُ بِالأَطْلالِ ما الفَرْقُ بَيْنَ جَديدِها والْبَالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ فقال: من قوله: ما الفرق. إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من كلام العرب"4.
لقد جاء هذا النص في سياق تمييز ابن خلدون بين لغة أهل العلم والفقهاء من جهة، ولغة الكتاب والشعراء من جهة أخرى. قال مؤكدا فِطنة أبي العباس لِبُعْدِ أسلوب الفقهاء عن الشعراء: "وأما الكتاب والشعراء، فليسوا كذلك، لِتَخَيُّرِهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في التَّرَسُّل وانتقائهم لهم الجيد من الكلام"5.
نضع أمام القارئ هذه التوطئة التي قد تبدو نشازا في محور موضوعه الأساس لغة المشهد الشعري الجديد بالمغرب، ولكنها توطئة مفيدة لنا، على الأقل لرسم الحدود التي نتحرك فيها، وتقديم تصور واضح لطبيعة الموقف الذي نتبناه في قراءتنا لطبيعة لغة هذا المشهد.
نتوجه بها، إذن، إيمانا منا أنه بقدر ما يكون التمسك بلغة تَقادَمَتْ أمر مستحيل أمام الحاجة الماسة للغة تناسب ذائقة العصر، بقدر ما لا يمكن التسليم بِطُغيان الإسفاف والابتذال أو تَقَبُّلُهُما في لغة الشعر مهما كانت دَعاوَى ذلك. كما أن تعويض اللغة بعناصر أخرى في القصائد مما لا يصح في الأذهان.
ومن نافلة القول، إن اللغة لا زالت حتى يومنا هذا تثير الكثير من النقاش، حتى أنَّ نظر الناس إليها لا يستوي على حال ولا يجتمع على رأي. ومهم جدا أن نَسْتَرِدَّ بعض أجزاء الصراع الذي دار بين قُطْبَيْن كبيرين لهما اعتبارهما في الأدب العربي الحديث باعتبار ذلك مقدمة لهذه النتائج التي نسعى إلى تحصيلها في لغة الشعر. وهما: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين. فكل النقاش الذي دار بعدهما بقليل أو ما يدور الآن، هو ضِفاف لذلك السِّجال الحاد آنذاك.
فقد ناضل الأول كثيرا ضد أي تجديد يسعى إلى اختراق جسم اللغة، بينما حمل الثاني على عاتقه وِزْرَ الدفاع عن المنحى الذي يُسَلِّم بضرورة التجديد. يقول طه حسين: "نحن نعترف بأننا نخالف الأستاذ، يعني الرافعي، كل المخالفة في هذا الرأي. ونسمح لأنفسنا بأن نراه عقيما، ونسمح لأنفسنا بأن نزعم أن لنا هذه التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظا يجعلها مِلْكا لنا. ويجعل من الحق علينا أن نضيف إليها ونزيد فيها كلما دعت إلى ذلك الحاجة أو اقتضت ضرورة الفهم والإفهام، أو كلما دعا إليه الظرف الفني، لا يُقَيِّدُنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تفسد اللغة إذا جاوزناها، فليس لأحد أن يمنعك أو يمنعني أن نضيف إلى اللغة لفظا جديدا، أو نُدْخِل فيها أسلوبا جديدا ما دام هذا اللفظ أو هذا الأسلوب ليس من شأنه أن يُفْسِدَ أصلا من أصول اللغة أو يخرج بها عن طريقها المألوف ولولا هذا (...) لما نمت اللغة ولما عاشت ولما استطاعت أن تَفِي بحاجات أهلها التي تتجدد وتتنوع بتجدد الأزمنة وتَبَدُّلِ الظرف"6.
يبدو أن هذا الموقف الواضح نابع من إحساس مسؤول بوظيفة اللغة، وتصور يرى الأشياء بمنطق سليم، ولذلك فهو خليق بالاعتبار وحقيق بالتبني، لأن تحنيط اللغة يعني موتها، وفتحها يعني حياتها، فتطور المجالات يعني، حتما، ضرورة تطور وسائل التعبير، ومنها اللغة بطبيعة الحال. لا سيما وأن دعوة طه حسين تلتزم التزاما صُراحا بعدم إفساد اللغة والانضباط إلى قوانينها. غير أن الذي وقع هو أن الرأي لم يكن مُلْزِما إلا لطه حسين وحده في الوقت الذي أخذه عنه الكثيرون وَأَوَّلُوه في كل اتجاه، بل تَذَرَّعوا بالدعوى نفسها (التجديد والحاجة إلى ذلك) لترويج تصورات أخرى تضرب اللغة في الصميم، ومن أخطرها، تلك التي تبنت فكرة الاعتماد على لغة الحديث اليومي في الشعر بحجة إشراك القارئ وتوسيع دائرة حرية الشاعر التي بدأت تضيق لِهُزَالِ مرجعه اللغوي والثقافي. ولما ظهر أنها عملية غير مُجْدِيَة تم اللجوء إلى العَجائبي والخارق الذي يخرق شكل القصيدة ولغتها. وهو الأمر الذي لا زال مستمرا على مستوى اللغة إلى حد الآن. غير أن الخِيارين معا سينتهيان إلى الأزمة وسيتضح أنهما فاسدان.
وقد وقف المجاطي عند هذا الإشكال وقفات طويلة ومتأنية مُقَلِّبًا إياه على جميع الوجوه الممكنة، سواء في كتابه: "ظاهرة الشعر الحديث"، أو" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث". وسنقف عند أهم خلاصات بحثيه قبل الدخول في قراءة تطبيقية لنماذج شعرية من المشهد الجديد.
فقد سجل المجاطي أن محمد النّويهي في كتابه: "قصيدة الشعر الجديد" تناول مسألتين "يعتبرهما أهم مسائل الشعر الجديد، أولهما: مسألة اقترابه من لغة الكلام الحية، وثانيهما: خروج شكله الجديد عن عدد القواعد العروضية القديمة"7.
غير أنه أقام الدليل على أن الدعوى التي رفعها النويهي لم تَلْقَ الانتشار الواسع بالحجم نفسه الذي كانت تُبَشِّرُ به لنفسها. وأن هذه اللغة الحية لا تمثل في أقصى مظاهر حضورها إلا ملمحا يسيرا جدا من ملامح الشعر الحديث. يقول: "وهكذا يمكن القول بأن استعمال لغة الكلام الحية في الشعر الحديث ليس إلا ملمحا واحدا من ملامح لغة هذا الشعر، يقف إلى جانبه ملمح آخر يستمد مقوماته من روح اللغة التقليدية"8.
وبعد مرور أكثر من عشرين سنة عن موقفه هذا، عاد في أطروحته ليجسد وضع اللغة في الشعر الحديث بقوله: "ما يهمنا قبل أن نختم هذا الفصل المخصص لأزمة اللغة في الشعر الحديث، هو تأكيد النتيجة التالية: إنه باستثناء محاولة السياب في النَّفَِس التقليدي، ومحاولة أمَل دُْنْقُل وسَعْدي يوسف مع لغة الحديث اليومي، وهي محاولات قد توقفت كلها من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي لا تساوي شيئا من حيث الكم، إذا ما قيست بما كُتِبَ خارجها، فإننا لا نجد إلا النزعة التبسيطية التي أفرزتها الواقعية الاشتراكية، وهي محاولة تجاوزت البساطة إلى الإسفاف بسبب سُوقِيَتِها وفقرها إلى الكثافة المجازية"9.
لا يبتعد توظيف الشعراء الآن للغة عما ذهب إليه المجاطي، فهم يحومون حوله بدرجات مختلفة، حتى إذا ما قرر بعضهم تجاوزه، تَلَقَّفَهُ العَجائبي والخارق حيث تُستَباح القواعد وتُنْتَهَك العلاقات الطبيعية للغة والمفردات، فيكون الإبهام حبلَ نجاةِ الشاعر من فقر لغته، وعدم صفاء ذهنه.
بكل تأكيد، ليس حكم المجاطي مجانيا، وليس نتيجة صادرة عن جاهل يَرْجُم بالغَيب، فهو خبير بالشعر وأحوال الشعراء، ومن فُرسانه القلائل الذين يُعْتَرَفُ لهم بالشاعرية في ظل أزمة مُمِيتة طالت الكتابة والذائقة. وديوانه "الفروسية" حجة ضد المُنْكِرِ. فمن يطلع عليه يدرك حجم الانسجام بين تصورات المجاطي وشعره، إذ يقوم في جانب كبير منه على المُراهنة على لغة راقية لا تصل إلى حد الإِلْغَازِ والتَّعْمِيَّة، ولا تهوي إلى مستوى الإسفاف والتَّرَهُّلِ. فهو محسوب على الذين راهنوا على اللغة وكثافتها المجازية، لا على شعرية البياض وبلاغة الحرف.
وبالعودة إلى تحليلاته لنماذج شعرية في الفصل الأخير من كتابه "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" يلاحَظ هجومه العنيف على الأشعار التي أخَلَّتْ بالأنساق اللغوية الشعرية التي تَخْدِشُ الحياء نتيجةً لاعتمادها على لغة مُبْتَذَلَةٍ سوقية. فمهما كان الظرف الذي يكتب فيه الشاعر، ومهما كانت المناسبة، فإنهما لا يشفعان له أن يكتب بطريقة يشترك فيها "الزَّنادِقَُة والمُتَسَكِّعون والجَهَلَة والمُفْلِسون وعامة الناس...". فللشعر والشاعر مقام وجب حفظه وتحصينه، واللغة أحد أسباب هذا التحصين.
بل إن في ديوانه هجوما قاتلا ضد الذين يستسهلون قول الشعر، إلى درجة أنه صمت عن القول منذ سنة 1977، ولم يكتب إلا قصيدة واحدة سنة 1985، صَوَّرَ فيها حال الشعر والشاعر المعاصر.
خرج المجاطي، إذن، بنتيجة واضحة حول اللغة الموظَّفة في الشعر الحديث، وهي ذات وجهين: يظهر الأول في لغة الحديث اليومي، ويبرز الثاني في لغة الشعر القديم. وإذا كان الأول قد آلَ إلى الإسفاف، فإن الثاني آل، أيضا، إلى الأُفول بعد السياب، ليصبح للشعر الآن استراتيجية أخرى تمزج بين هذين الملمحين وتُعْلِي من شأن الخرق، بل قد تُوثِر البياض والصمت وتعمل على تعطيل اللغة، وشَلِّ طاقتها الإبلاغية.
1-تهشم الشعراء فوق فقر اللغة
لا نعني ما تحمله هذه الجملة من دلالة، ولا يحق لنا ذلك بعد إذ أعلينا من شأن اللغة، وإنما لنحترم في الشعراء "عَنْجَهِيّتَهُم" التي ذهبت بهم إلى حد تحميل اللغة جَريرة الهُزال اللغوي، فبدؤوا يَتَهَشَّمون اتِّباعا على جدران هذا الفقر. إنه اتهامُ الظالمِ والعاجز، فلا ضَيْرَ أن نُثْبِتَه ريثما يتسنى لنا نقضه.
حين يتأمل القارئ لغة القصائد في السنوات الأخيرة يخرج بنتيجة لا مِراء فيها، وهي أن هذه اللغة مخالفة تمامَ المُخالَفَة لِما تَرَسَّخَ في ذهنه عن طبيعة اللغة الشعرية التي شُحِنَ بها فهمه ووجدانه طوال سنوات الدراسة، حيث قيل له إنها نقيَةْ َشِرََّيُفة، تسمو عن الابتذال، عَذْبَةٌ رائعة ترتفع عن التَّلَكُّئِ، جَزْلَة رصينة لا تصل إلى حد الاستغلاق. وبالموازاة مع ذلك وُضِعَتْ أمامه قصائد تستجيب لطبيعة هذه اللغة التي شدد عليها الدرس العربي. وفجأة وجد نفسه أمام أشكال أخرى تحطم كل ما صار شامخا في ذهنه ووجدانه، وجيء بأشكال مغايرة تحطم حدود الجنس الأدبي وتدفع في اتجاه فكرة الكتابة حيث لا معنى للجنس الأدبي ولا اعتبار للخصوصية الأدبية. هكذا حَلَّ بَدَلَ الوضوح واقعٌ "تغيم فيه العلاقة بين الشعر وغيره من الأنواع الأدبية حتى ليُظَنَّ أنه هي وأنها هو، وأن القوانين الحاكمة هنا يمكن أن تكون نفس القوانين الحاكمة هناك، ويختلط الشعر بالنثر، إلا من بعض هوامش من الإيقاع الرَّتيب يمكن أن نفصل بها بين شعرية الشعر ونثرية النثر"10.
ومع كل هذا التماهي يُطْلَبُ من القارئ الإذْعانُ لإصرار الكثيرين على أن ما يُكْتَبِ الآن هو شعر لا يقل جودة عما كُتِب قديما، بل إنه الأنسب للمرحلة التاريخية بعدما تقادم الأول ولم يعد يَفِي بحاجات الإنسان المعاصر. وحين يظهر كُفْرُ هذا القارئ بهذا الإصرار، ينتقل النظر من النصوص إلى التنظير لماهية الشعر وطبيعته وتَغَيُّرِ الرؤى والحساسيات، وما إلى ذلك من المفاهيم الأثيرة التي رافقت هذا الواقع الإبداعي الغائم.
ولأن الشعراء لم يعد بإمكانهم امتلاك لغة تكون لهم عونا على مواجهة متطلبات القصيدة الجيدة، ضاقت بهم الأرض وكُلِّفوا بما لا يُطيقون، وأخذوا يشكون عجزهم بنقله إلى اللغة. يقول عبد العزيز أَزْغاي في قصيدة "أخطاء قديمة وطازجة"11 :
حَتَّى الآنَ
لا أَعْرِفُ مَعْنى ذلِكَ
حتَّى وأنا أنامُ فِيك كامِلاً
مِثْلَ أخْطاءٍ قَديمَةٍ وطازَجَة
لا أعرِف مَثَلا
أَنَّ ما يليق بِتُفاحَةٍ
هُو كُلُّ الحِدَّة التي قد تَسْقُطُ عَلى البَال
لا أعْرِف معْنى ذَلك
أعرف أننا سَنُغادر أفكارَنا بِحُبٍّ
لِنَتَهَشَّمَ فوق فَقْرِ اللغة
بعدَ قَليل
لا يملك الشاعر، والحالة هاته، إلا أن ينتحر أمام عجزه، حيث المحنة كاملة وهو يواجه تَمَنُّعَ اللغة واستعصائها. غير أنه، وكعادة كُلِّ مُنْهَزِمٍ، يفتعل الصراع مع اللغة، فتراه يكابد قصوره ويأسه، ليحسم الصراع في الأخير لصالحه بتحميل اللغة المسؤولية التي يتوهمها. مسؤولية فقرها وضيق مجالها حيث لا سبيل أمام الشاعر إلا التهشم فوق هذا الفقر الذي لا يحتوي غِنَى مشاعره ولا يستوعب آماله ومآسيه المتعددة.! لكن الحقيقة التي لا تُحْوِجُ إلى برهنة، هي أن الشاعر وَرَّطَ نفسه حين أصر على أن يكون شاعرا وهو أَعْزَلُ لا يملك من أدوات الكتابة القدر الكافي ليبدع، خِلْوٌ من الرصيد اللغوي الذي هو عَصَبُ كل إبداع.
وغير بعيد عن هذه الشكوى، نقرأ عند محمد غَرَّافي في قصيدة "تعب" قوله12:
يا عبدَ الكريم
ما زلتُ أصُدُّ هَجيرَ الحُزْنِ
عن امْرََأٍة
تصعد ماثِلَةً في الروح
وتَشْتَعِلُ
ما زلتُ أَمُدُّ لِقُبَّرَة
في أقصَى الرِّيف يَدا
وأُزيحُ يَدًا
وأُفَتِّشُ عن لُغَتِي
في الكَأْسِ
فلا يَجْلُو الصُّبْح
ولا يصْحو الولد الثَّمِلُ
صحيح أن مسألة تَمَنُّعِ اللغة وشكوى الشعراء من ذلك ليست من صنيع جيل من الأجيال، بل هي قديمة قِدَمَ الشعر. فهذا المُتَنَبِّي يصور حال الشعراء وهم يكابدون جُحود اللغة. يقول13 :
أَنامُ مْلْـءَ جُفوني عَنْ شَوارِدِها ويَسْهَرُ الخَلْقُ جرَّاها وَيَخْتَصِمُ
وكلنا يعرف أن الفَرَزْدَقَ شكا ذلك قبل المتنبي حين أكد أنه تمر عليه ساعات وقَلْعُ ضِرْسٍ أهون عليه من قول بيت من الشعر. والساعة هنا ليست محددة بالمعنى الزمني الذي نعرف، فقد تطول أياما، وربما شهورا.
لكن الفرق واضح بين القدماء وجل المعاصرين، فأولئك أنتجوا من معاناتهم شعرا وهؤلاء شكوا ولم يبدعوا. يقول محمد عزيز الحصيني في قصيدة "لسان القوافي" 14

ليْس كل ما يَعْنِيه اللّسانُ
تُمْليهِ العِبارَةُ
وليس كُلُّ شَمْعَدان
مَعْصِيّة
ولا كل الضَّروراتِ على وَشْكِ
اخْتِصار الطَّبِيعة
إلى خِنْشارٍ...
يا رَمادا مِنْ طِين القَوافي !
والعلاقة بين الإحساس واستجابة العبارة علاقة أقدم من قول الحصيني، إذ سبق للمجاطي أن أثار القضية نفسها في قصيدته "السقوط" يقول15 :
تُسْعِفُني الكَأْسُ ولا
تُسعِفني العِبَارة
وخلاصة هذه المأساة أجملها صلاح بوسْريف في قوله من قصيدة "طاسين الفراغ"16:
لَيْسَ لي ما يَكْفِيني من شَبيه الكلام
لأَرْسو عند مَسَارب الحُروف
عَصِيَّةٌ رُؤَايَا
عَصِيٌّ
ما
تَوارى مِنْها
وَما
لا
يَتَبَدَّى
إن هذه الفَجْوة السَّحيقة بين الرغبة في الكلام والعجز عنه، لا يملؤها إلا البياض الذي تَلْتَحِفُ به القصائد، فتصير حروفا أو كلمات متناثرة هنا وهناك بشكل عَبَثِيٍّ تعويضا عن تَعَطُّل اللغة، وربما احتجاجا على ذلك. فالضحية الأولى هي اللغة التي تَهَشَّمَتْ فوق فقر الشعراء، لا ادِّعاءاتهم المغلوطة.
2-إعلاء الصمت وتمجيد البياض
خرج الشعراء مُهَشَّمين من صراعهم مع اللغة، ودُفِعوا إلى الهامش لما لم يقتدروا على امتلاك ناصِيَتها، ولم يكن الابتلاء بِبَلِيَّة النَّظْمِ كافيا، ولا الإصرار على الكتابة شفيعا أمام ضَحالة ثقافته وهزال مرجعهم اللغوي. ومع كل هذا الإنكار والإصرار على المُكابرة بدأ التوجه قويا نحو تمجيد الصمت والاحتفاء بالبياض بَديلَيْن عن العجز، ظَنًّا من الشعراء أنه خيط نجاة يجذبهم من المأزق الذي أوقعهم فيه نُضوبُهم المعرفي. ولم يُدْركوا أن هذا التوجه يقود، حتما، إلى الفراغ أو الخَواء الدلالي، سواء في شكل التعقيد أو التغامض أو التشتت، ولا اختلاف بين هذه المصطلحات، فالبَلِيّة واحدة.
ومن المثير حقا أن ترتفع أصوات لِتَمْتَدِحَ جِهارا، اللَّوْذَ بالصمت والبياض معتبرة الاكتفاء بالحرف بَدَلَ الجملة، بلاغةً. وهيمنة البياض وامتداد الفراغات بدل الامتلاء، شعريةً. ناسية أو متناسية أن في "كل قصيدة عظيمة قصيدة ثانية هي اللغة"17 . مُضَيِّقَةً من مجال تحرك الشاعر على مناطق إبداعه، فيكفي، في نظر هذه الأصوات، أن يحس الشاعر ويُفَكِّر حتى وإن لم يقل شيئا. فالمهمة موكولة للقارئ !.
والحقيقة أن الشاعر "بقوله لا بتفكيره وإحساسه، إنه خالقُ كلماتٍ وليس خالق أفكار، وترجع عبقريته كلها إلى الإبداع اللغوي"18.
وبهذا التناغم بين توجه الشعراء وموقف بعض النقاد غامَتِ العلاقة بين الجمهور والشعر إلا من بعض الاستثناءات، ومن بعض الهوامش الضيقة جدا، والتي لا ترقى إلى مستوى الحُجّة على متانة العلاقة بين هذين الطرفين كما يبشر بذلك البعض.
2-1 بلاغة الصمت
لا يحتاج المُطَّلِع على العديد من الدواوين الشعرية الحديثة، كثيرا من الجهد لإدراك خاصية تبدو عامة بين الشعراء، أو في تجربة شاعر ما، بمستويات طبعا، وهي الاحتفاء بالصمت بشكل مباشر، بحيث يصبح ثِيمة أساسية في بعض الدواوين، ما إن يخرج منها حتى يعود إليها. ويعد ديوان "هِبة الفراغ" لمحمد بنيس نموذجا واضحا لهيمنة هذه الثيمة، فقد تكرر لفظ "الصمت" 29 مرة، وليس هذا التكرار سلبيا، بل إنه يوجه الدلالة ويحدد معالمها، بل إن بعض القصائد عُنْوِنَت بذلك، والبعض الآخر تكررت فيه هذه اللفظة أكثر من مرة. وطبعا اتخذ الكثير من الشعراء هذا التوجه سُنَّةً مؤكَّدة ظنا منهم أنهم سَيُثابون عنها جزاءً لهم بما أخلصوا. وسنقف عند مظاهر ذلك من خلال إثبات بعض النماذج. يقول بنيس في قصيدة "دَنَس"19:
حين أُلاقي جَسَدي الطافِحِ مِنْ بَلَلِ الشيْء الخالِصِ
وتَجاويفِ الكَلِمات
يَتَهَيَّأُ لي أَنِّي أَتَوَضَّأُ بالصَّمْتِ
غزارة إنتاج محمد بنيس وشاعريته التي شهد بها بعض المشارقة والمغاربِيِّّين، تجعلنا نَكُفّ عن الغَوْصِ بعيدا فيما ليس من شَواغل النقد عموما (الحكم بالشاعرية أو بعكسها)، علما أن شعر محمد بنيس ليس موضوعا خاصا لهذا البحث. ولكن يجعلنا هذا المقطع نتساءل: لماذا آثر بنيس الصمت في ديوانه بعد هذا المطر الشعري الغزير الذي سَحَّتْ به أرض الشعر المغربي منذ زمن طويل؟ لماذا اختار بعد كل ذلك أن يتوضأ بالصمت؟ والأكيد أن من كان وضُوؤُه صمتا، لا بد أن تكون صلاته هَسيسًا لا يكاد يسمعه أحد حتى وإن تسلل إلى أعماقه.
عبثا، يحاول الشاعر التحلل من هذه الصلاة ونَقْضِ وضوئه الصامت. وأمام عجزه يوهم القارئ بأنه اتخذ هذا الصمت دينا حليفا، يأتمر بأمره وينتهي بِنَهْيِهِ. يقول في قصيدته "معاينة" 20:
لِي هَذا الصّمْت
إِذنْ
(...)
هذا الصمتُ
حَليفي
يحل الصمت إذن بذات الشاعر، حتى تصير مسكونة به، وتفتح له كل الممرات ليتسرب إلى إبداعها. يقول في قصيدة "مستحيل" 21:
لا شيءَ غَيْرَ الصمت
في وَلَعٍ
لِيُثْبِتَ مُستحيل
مِن
شُُقُو
قِ المَوْت
واستكمالا لهذا التداخل القوي، وهذا الاستسلام الكامل لِغَزْوِ الصمت، يقول في قصيدة "قطوف"22:
وتَكونُ منْ صَمْتٍ
قُطوفُ سُلالَة
الأَصْداء
(...)
كان الصّمتُ مُكْتَمِلاً
وكانَتْ نارِي
الأُولى
مَراقِي وَشْوَشَاتٍ فارِغاتٍ
صمتٌ يكادُ يَشِعُّ
لقد تعدى الصمت مستوى الإشعاع وملأ كل الأَفْضِيَة، حتى أن الشاعر لم يعد بإمكانه إخراج قصيدته صاخبة تَنْقُرُ أُذْنَ القارئ وتبقى عالقة بوجدانه، فالضجيج أكثر جَذْبا للأسماع لا الصمت، و "الأُذْنُ تعشق قبل العَيْن أحيانا".
لم يعد بمقدور الشاعر إخراج قصائد تدفع بقارئها إلى تكسير عزوفه وصمته هو الآخر، لم يستطع تحويل الجَفاء الذي بينه وبين اللغة إلى وصال تنتعش به الروح وتَطْرَبُ له آذان عشاق الشعر. يقول بنيس في قصيدته "كلمات"23 :
كَلِماتٌ يَنْحَتُها
نَفَسٌ
من
غيرِ شُحوبٍ
كلماتٌ
تُوقِظُ
في سُلالَةٍ شَهْوَتَها
بهُجومِ مَجازاتٍ تَتَهَدَّدُني
وحْدَتُها
ونَتُوه
كلماتٌ تُشْرِقُ خلْفَ سَتائِر مِن كَلِمات
(...)
والصّمتُ هنالِكَ مُشِعٌّ
تبدو القطيعة، إذن، كاملة بين الشاعر وكلماته، وتبدو استكانته إلى هذه السلطة محسومة حيث لا سبيل إلى قهرها. بل إنه يبحث عن الانسجام في الدعوة إلى استيطان قُبَّة الصمت لتفادي المواجهة، لأنه يُدْرِك أن المراهنة عليها خاسرة. يقول في قصيدته "دعوة"24:
وَحَلُ الطاعَةِ
هَدِّّدْهُ
بِعاصِفَةٍ واسْكُنْ
قُبَّةَ صَمْتِكَ
يحفل الديوان بمثل هذه الصور، ويحتفي بالصمت بشكل غريب حتى يكاد يكون معقودا لذلك، وطبعا لهذا الاحتفاء من قِبَل محمد بنيس ضفاف أخرى تتسع أو تضيق بحسب رغبة الشعراء. فصلاح بوسريف يفتتح ديوانه "شجر النوم" بقصيدة "بين هواءين" التي يقول في مستهلها25 :
صَمْتٌ
يَسْكُنُ شُقوق المَكان
(...)
وَحْدِي هُنا. أو
هُناك
أنْفاسي تُراوِد سَهْوَها
ويَخْطَفُني هَسِيسُ يَدٍ شَرَدَتْ في
صَمْتِ المَكانِ.
واستكمالا لهذا المشهد الرهيب الذي يُؤَثِّثُه الصمت ويستحكم فيه، يتابع في القصيدة نفسها بقوله:
أَصابِعي التي جَرحَتْ صَمْت المَكان
لا أحَدَ كان يَسْكُنُ هَذِي الشُّقوق غيْرَ أنْفاسي
يَدي
طَوَّحَتْ بي بَعيدا، فيما وَراءَ الكَلام
في سَدِيمِ الصَّمْتِ.
ولم تخرج عائشة البصري عن إنشاد هذه النغمة التي تَجَذَّرَتْ في نفوس الشعراء والشَّواعِر جيلا بعد جيل. تقول في قصيدة "فضاءات"26 :
سَقَطَ مِنّي
الصمْتُ
تَلَقَّفَتْهُ أَكُفٌّ
رحِمَتْهُ
وأَعادَتْهُ كَلاما
مُوجِعا لِشِفاهي
شِفاهٌ يَـبَّسَتْها
مَسافات الصمْت
عجيب هذا التدرج عند عاشئة البصري بين الكلام والصمت، فكلاهما مُحْرِق، لكن النهاية آلت إلى الصمت لَمَّا رأت الكلام موجعا أكثر.
ونختم الحديث عن الصمت عند هذا الجيل الذي كتب طويلا ولا زال يكتب، أي عند الذين راكموا دواوين وقصائد عديدة، بما جاء في قصيدة "نَداوَةُ الصمت" لمصطفى الشليح التي ختم بها ديوانه: "عابر المرايا". يقول27:
للِصمتِ أُبَّهَةُ السِّفار إلى الحَقيقة
حارِسٌ منْ سُنْدُسٍ
يَهَبُ النَّداوَة للكلام
يتَدارَك المَعْنى
يُبارِك نَبْضَهُ
أو غَمْضَهُ
بالنَّاطِقات سِجامُها
الرَّاشِقاتِ سِهامُها
أبَدا عَميقَة
يَحْفِرُ المَجْرى
ومَجْرى الصمْتِ أُبَّهَةٌ
وَمُتَّسَعُ العِبارة لَنْ يُفِيقَهُ.
هكذا يكتمل المشهد بِضِيقِ العبارة واتساع الصمت حتى يصير له سُلطان وجَلال لا حول ولا قوة للشعراء بهما. فماذا عن جيل آخر بدأ يَخُطُّ كلماته الأولى في ديوان الشعر المغربي؟ ماذا عنهم وقد فتحوا عيونهم على هذا التمجيد والتبجيل للصمت؟ ماذا لو أنكروا على أسلافهم هذه السُّنَّة المَيْؤُوسِ منها؟
تبدو بعض المقاومة ظاهرة في أشعار هؤلاء، غير أنها لا تعدو أن تكون حماسا ما يلبث أن يفتُر عند أول مواجهة مع الصمت، فالرغبة في مراودة الكلمة لا تتعدى مستوى السؤال لا غير. يقول محمد غرافي في قصيدته "أرصفة شاردة"28:
أَرى سَيِّدةً
تُشْعِلُ في صُلْبِ الثلجِ
مَفاتِنَها
تَكْشِفُ عنْ ساقيها بِتَأَنٍّ
وتُغادِر شارع "سانْ جِيرْمان"
مُلَوِّحَةً
فَأُصابُ بِصَمْتٍ أَبْيَض
هَلْ يُكَسِّرُ هذا الصمتُ
مُصاب؟
سيظل الشعراء صامتين مهما تعاظمت مصائبهم، رغم هذا اللَّجَبِ الصاخب الذي يشبه العَجْعَجَة التي لا تُنْتِجُ طحينا. ويبدو أن ذلك لا يَضِيرُهم حتى وإن أدركوا أنهم عاجزين عن الكلام. كل ما يقدرون عليه هو تصوير حجم حسرتهم لما التبس عليهم الأمر وطُمِسَتْ أمامهم السُّبُلُ المؤدية إلى إبداع مقبول على الأقل. يقول غرافي في قصيدة "شاعر" مصورا حاله29:
يَحْتارُ كَثيرا
بَيْنَ غُموضِ الكَلِمَةِ
ونَشيدٍ مِنْ نار
بكل تأكيد، فجوانح الشعراء ممتلئة بالمشاعر وتحت ضلوعهم نار يسعون إلى إطفائها بقصائد تُشفي ما بهم من عِلَّةٍ. غير أنهم لا يملكون لذلك حيلة فيتكلمون في الصمت. يقول غرافي في قصيدة "رباعيات ابن حليمة"30:
ها أنتَ تَشُقُّ جِدارا
بِمَساميرَ
وتَبْعَثُ نُورا
في غُرْفةٍ شاحِبة
وَتَلوذُ على صَمْتِكَ
كُلَّ مَساء...
ومع تأكده من استحالة التخلص من الصمت، مع طول المقاومة، يتساءل هل من سبيل إلى الكلام، ولو من شُرْفَة. يقول في قصيدته "وجهة واحدة"31 :
صاحِبي! اللَّْيُل الماجِنُ الحُرُّ المُسْتَنِير
لكَ كُلُّ المَدينةِ
كلُّ البِحار
وَلِي وِجْهَةٌ واحِدَةٌ
أنْ تُوقِدَ لي شَمْعَةً
في المَساء
أو تَفْتَحَ لِي شُرْفَةً لِلْكلامِ
إذا ما اسْتَبَدَّتْ بِنا
جُعَّةٌ بارِدة
واعْتَلَتْ صَمْتَنَا
ضِحْكَةٌ كالبُكاءِ
وفي ديوانه "قصائد للمعشوقة والوطن"، يحسم حسن مُورْصو الموقف نهائيا في قصيدته "قصائد إلى كنـزة ع" 32:
آمَنَ البدْرُ بالحُبِّ، والحب آمنَ بالليْلُ، والليل آمَن بِالصُّبْح
والصبحُ آمن بالشمسِ، فاحْتَرَقَتْ كَلِماتي
وأَصْبَحَ هذا النَّشيدُ مُملاًّ
وهَذا القَصيدُ نَدىً في بَياضٍ
أمام هذه الوضعية يصبح الشعر محل تساؤل. يقول في القصيدة نفسها:
أَجِبْ أَيُّها الشِّعْر هَلْ أنتَ في زمَنِ الحَرْبِ أُغْنِيَّة
أَيُّها الشِّعر أَم أَنْتَ في زَمَن الحُبِّ رُعْبٌ
وَرُعْبٌ
ورُعبٌ يُؤَكِّدُني لِلسُّؤال
ومع ذلك يُصِرُّ الشعراء على الكلام، وإن بالتمني مرورا بلحظة الصمت هذه، يقول مصطفى الشليح في قصيدة "حَلَبُ حُزْنُهُ والمدامعُ بغدادُ والمِحَنُ"33 :
لَعَلَّ قَليلا مِنَ الصَّمْت
مَعْبَرُنا
للكَلام... !!
2-2- البياض: شعرية جديدة
لقد فرضت القصيدة الجديدة على النقاد اعتماد مفاهيم جديدة، وإعطائها نعوتا تُعادل نعوت مفاهيم أخرى رافقت القصيدة القديمة. فقد غاب الامتلاء وحل الفراغ وَنُظِّفَتْ صفحات الدواوين من سواد الكلمات ليحل البياض بديلا عن "الاتِّساخ". نظافة استحقت عند الكثيرين أن تُسَمَّى: شعرية.
إنه جانب آخر من الصمت الذي تَلْهَجُ به القصيدة، صمتٌ يُكَمِّلُ ما عَبَّرَ عنه الشعراء صراحة. يقول مصطفى الشليح في قصيدة "حُروف" 34 :
يا أَيُّها الواهِمُ السَّاري إليَّ
عَلى سُراةِ الْغَيْمِ من حَدْسِ المُغامَراتِ التِي
تَنْسابُ مِنْ لُغَتِي إِلى لُغَتِي
وَقَدْ عَبِثَ الْبَياضُ بِما تَثَاءَبَ
مِنْ بَلاغَتِهَا وَأَقْفَرَ دُون سَطْوَتِها الْبَيانُ.
وللبياض أشكال عديدة، منها تكثيف القصيدة لتصير سطرا أو سطرين في صفحة واحدة، فيصبح السواد هامشا والبياض هو النص. وتعد تجربة إيمان خَطّابي وسعيد وجيه نموذجا صارخا لذلك. ففي ديوانها "البحر في بداية الجزر"، (33 )قصيدة لا تتجاوز خمسة أسطر من أصل (53) قصيدة التي يضمها الديوان، وحدهما قصيدتا "الصبي والبحر" و "أسْميني هاجر"، هما اللتان تتجاوزان هذا السقف. أي أن نسبة 94.28% من القصائد قصيرة جدا، بعضها يكتفي بسطرين، كل سطر يتكون من كلمة أو كلمتين. تقول في قصيدة "نقيصة" 35 :
النَّميمَةُ
عَيْبُهُ الوحيدُ
هذا القَمَرُ
وأوضح من ذلك قصيدتها "الرابية" 36:
احْدَوْدَبَتْ
مِنْ وَجَعِ النَّاي
ومثلها قصيدة "أعمى"37 :
الجَسَد مِجَسَّات
والرُّوح تُبْصِر
هذه ثلاثة نماذج تبرز إلى أي حد أُغْرِمَت الشاعرة بالتكثيف، بل الأصح، إلى أي حد اضطرت إلى ذلك لتعويض ما ينقصها لقول الشعر وتوسيخ الصفحات. وهذه الظاهرة ليست وقْفًا على تجربة الخطابي، بل تمتد إلى تجربة سعيد وجيه في ديوانه: "دموع قلب" إذ 70.90 % من القصائد ذات نَفَسٍ قصير جدا. يقول في قصيدة "الهوية"38 :
خَيْرُ ما أُهْدِيكَ
يومَ اللِّقاءِ
كَلِمَةَ "أَهْواك"
وفي قصيدة: "دموع قلب" التي تحمل عنوان الديوان نفسه, يقول39 :
دموعَ قَلْبِي
سَكَبْتُها على أَوْراقِي
قَلْبِي أوْراقي
دِماءُ دُموعي
تُذَكِّرُنا هذه الظاهرة بما اصْطُلِحَ عليه ب: قصيدة البيت الواحد في الشعر القديم 40 ، فهي ليست جديدة في الشعر العربي، وإنما قديمة تعيد إلى الأذهان الأبيات المنفردة، سواء تلك التي رحلت عن قصائد طويلة وهاجرت على أَلْسِنَةِ الناس في الوقت الذي ماتت فيه القصائد التي ضَمَّتْها، أو تلك التي أُنْشِدَتْ في مناسبات عابرة أو في مُناظَرات بشروط خاصة. ومن يطلع على ديوان النابغة أو امرئ القيس يقف على هذه الحقيقة. فقد أثبت محققا الديوانين الكثير من الأبيات المنفردة فيهما41.
ومن المميزات التي تجمع بين هذه الظاهرة في التجربة الشعرية العربية القديمة أو الجديدة، اكتمال المعنى في العدد القليل من الكلمات التي تشكل أسطر القصيدة، أو في البيت كما هو معروف قديما. ومع ذلك يصر النقاد على تَعْمِية هذه الميزة ويُلِحُّون على ربط النص بالصمت وربط الكل بالقارئ وتهميش الشاعر. يقول صلاح الدين بُوجاه: "النص مجرد ادِّعاء من قِبَل الكاتب، لذلك يَجْدُرُ بنا أن نعمل على إنطاق الصمت كي لا ننساق خلف هيمنة الظاهر على الباطن"42 .
لقد أصبح النقاد مسكونين بالتعقيد مثلما سُكِن به الشاعر من قبل، حتى إذا ما حاول شاعرٌ مَا الخروج عن هذه القاعدة جَرَّهُ الناقد إلى دائرة التعقيد، وأعاده إلى حضرة الغموض المُنَفِّر. تقول رجاء عيد: "عندما يصمت النص، وتَلْتَفُّ خيوطه على نسيجها، هنا يشرع القارئ في تأويل ما سكت عنه "النص"43 .
لا تُقَدِّمُ هذه التحليلات أي خدمة للنص الشعري ولا تعين على تبين فكرة واضحة، إذ تظل فضفاضة واسعة يصعب ضبط مقاصدها أو تَمَثُّلِهَا في النصوص الشعرية. فهي لا تختلف، من حيث الطبيعة، عن تلك النصوص النقدية التي تُلْقِي على القصائد جملة من القيود في شكل إحصاءات وجداول لا تسمو إلى المناقشة والاستنتاج، بل إنها أشدُّ ضررا وأخطرُ وقعا، تضيف غموضا على غموض وتعادي الوضوح حتى تُحَبِّبَ التعقيد للشاعر فتجد لها موطنا لتحيى فيه وتنمو.
ومن أشكال البياض أيضا، تلك المساحات الفارغة التي يملؤها التنقيط، وكذا توزيع الكلمة على مساحة بارزة من الصفحة، ومن أمثلة ذلك قول مصطفى الشليح في قصيدة "وأصعد فاتحة لطفل الورد...."44 :
شَجَرٌ جامعُ الظِّلِّ يَنْهارُ
يَ
نْ
هـَ
ا
رُ
أو قول أحمد العمراوي في قصيدة "مجمع الأهواء" التي عنون بها الديوان45:
قَرار
قَ
رَ
ا
ر
أو قوله في قصيدة "حوارية الجدار الرمادي" 46 :
إنِّي لا أَمْلِكُ الزَّيْفَ
إني
أَ
نَ
ا
يْ
وقد اختفت هذه الظاهرة من ديوانه الأخير "ينابيع مائية" بشكل نهائي.
إن هذا التوزيع العمودي للكلمة يوازيه توزيع آخر أُفُقي، ومثال ذلك قول حسن مورصو في قصيدة "بيانات زئبقية"47 :
والشَّواطِئُ ... كُلُّ الشَّواطِئِ تَلْعَنُ سُكَّانَها
(وسُكّانُها ا-ل-شُّ-عَ-رَ-ا-ءُ...)
وفي إطار هذا التنويع في التشتيت، يَتَّبِعُ حسن مورصو استراتيجية أخرى تعتمد على كتابة حروف الكلمة بشكل مستقل، لا بحسب رسمها ولكن بحسب نُطْقِها، يقول في قصيدة "هذا البحر" 48 :
سأُعَلِّمُ كُلَّ خَلايايَ الأَلِفَ
اللاَّمَ
الْحَاءَ
الكَافَ
الميمَ
التاءَ المَرْبوطَةَ
فلكتابة كلمة "الحِكْمَةِ" احتاج الشاعر إلى مساحة شاسعة في الوقت الذي كان بإمكانه إعفاء نفسه والقارئ من هذا الهُراء والاستخفاف بالكتابة الشعرية.
إن التحول الشكلي للقصيدة هيأ الأرضية الملائمة لتنامي هذه الظاهرة بشكل مُلْفِتٍ. فالقصيدة سابقة على بنائها، وبناؤها لاحق عنها، أي أن لكل قصيدة بناء خاص قابل للتغير في كل لحظة فلا مكان للنموذج أو العُرْفِ مع هذه التجربة، وحده الشاعر، القانون الذي من حقه سَنُّ ما يريد من التشريعات، منه الانطلاق وإليه العودة، هو لا غيره يُقَدِّرُ ويقضي بما أملته عليه أهواؤه.
وقد وجد هذا التوجه قبولا واستحسانا عند البعض، حتى أننا نقرأ في كتاب: "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" لمحمد بنيس هذه القولة: "لتنظيم الكلمات في الصفحة مفعول بَهِيٌّ. إن اللفظة الواحدة تحتاج إلى صفحة كاملة بيضاء، وهكذا تغدو الألفاظ مجموعة أَنْجُمٍ مُشْرِقَةٍ...
إن تصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة، فالفراغ الأبيض متمم"49.
ماذا يُتَمِّمُ الفراغ الأبيض إذن؟ وكيف؟ لا أدري فقط تستقيم الأجوبة في أذهان أصحاب هذه الآراء.
ومن تشتيت حروف الكلمة إلى تشتيت كلمات الجملة. وهي ظاهرة أكثر بروزا وأشدُّ ظهورا، وإن كانت لا تثير في النفس ما يثيره توزيع الكلمة إلى حروف من تقزز. ومن أمثلة ذلك قول حسن مورصو في قصيدة عَنْوَنها هكذا: "؟؟؟؟"50 :
إنِّي أبْحَثُ في وجْهِكَ كَيْ أُبْصِرَ وَجْهِي
أُعْطيكَ دُموعَ الفَرْحةِ كَيْ أبْكِي نَفْسي
أَتَقَمَّصُ شَكْلَكَ كَيْ أَخْرُجَ عنْ ذاتي
فَاسْحَبْ
ذاتَكَ
مِنْ
أَحْشائي
يا
زمَنا
مُمْتَلِئًا
بالأَحْزانِ
ويمثل ديوان "هبة الفراغ" لمحمد بنيس نموذحا واضحا لملاحظة هذه الظاهرة، بحيث تُخْلِصُ قصائده لهذا التوزيع بشكل غريب. نقرأ في قصيدة "طيش" 51:
لا تَسْألوه
عَنِ
المَسالِكِ
رُبَّما
ثَقُلَتْ عَلَيْهِ
لُيُونَةُ الأَغْصانِ
في أُفُقٍ يُهَدِّدُهُ صَمْتُهُ
لا تَسْألُوه
عَن
الْمَهالِكِ
رُبَّما
عَبَرَتْ إِلَيْهِ نِهايَةٌ
مِنْ شَوْقِهِ
لا تَسْأَلوه
عن المَسالك
إِنَّهُ
طيْشٌ رَمى
بِدِمائِهِ
وانْقادَ لِلنِّسْيان
وعلى النهج نفسه يسير صلاح بوسريف في ديوانه "شجر النوم" يقول في قصيدة "طاسين الفراغ" 52:
سَأَصْبُو لِحِجابِ العِزَّةِ
لِلسَّديمِ
سَأَرْنُو
لِما
كانَ
وَلِما
لاَ
يَكونُ
البياض إذن صِنْوُ الصمت ونَسيبُه، كلاهما نابع من الفراغ ومُنْتِجٌ له، كلاهما يُؤَزِّمُ العلاقة بين القصيدة والقارئ.
ويبدو أن الذين يوثرون الصمت والبياض في أشعارهم، أو الذين يمتدحونه في دراساتهم وأبحاثهم النقدية، من أولئك الذين يؤمنون بأن اللغة ليس بإمكانها نقل حقيقة العالم، فهي بالنسبة لهم "لا تقدر أن تتجاوز سطح التجربة، أما الباقي فيظل خارج اللغة غائما يَلُفُّهُ الصمت" 53
2-3 - انفلات المعنى
يُعْقَدُ الكلام لأجل المعنى، بل إن انعقاده مأمور بالمعاني التي تجول في الخاطر، وقد يوفيها حقها أو يقصر. هنا بالضبط يشتغل القارئ فهما وتأويلا وما يرافقهما من تصرف. ولذلك لا يصح في الأذهان أن تُرْصَفَ الكلمات مهما تجانست، حتى إذا استوت جُمَلا وفقراتٍ لم يستقم لها معنى. فالفعل "اللغوي ليس فعلا مجانيا، وإنما هو فعل تتعلق به غايات ويرمي صاحبه به إلى تحقيق مقاصد وقضاء حاجات"54 .
إننا لا نريد بهذه الكلمة أن نسترد صراعا محموما كانت العلاقة المزمنة بين اللفظ والمعنى وَقُودُه، ولا أن نفتح الكلام، ولو من شرفة، على هذه القضية رغم أن النقاش فيها لم يستنفد طاقته، ولا يمكنه ذلك لأنه مرتبط ارتباطَ وُجوبٍ بالفعل اللغوي الذي يستحيل أن ينتهي إلا بانتهاء الإنسان. فالمقام هنا لا يستوعب الخوض في هذه الأمور ولا يتحملها. كل ما نرمي إليه هو التأكيد على أن للمعنى قيمة جليلة لا يمكن التفريط فيها تحت أية ظروف ومهما كانت المبررات.
ومن صور الاستمرارية لهذا الصراع القديم، ما أفرزته تجربة الشعر المعاصر، فقد شاع بين الباحثين والمهتمين بهذه التجربة فكرة فراغ القصائد من المعنى، والشيوع هنا، في فهمنا على الأقل، يعادل الحقيقة التي تَتَبَرَّجُ للقارئ في كل قراءة دون استحياء والتي لا يُنْكِرها إلا من لا يفهم لحياته معنى، الذي يُعلي من شأن العَبَثِ ويوثر الإبهام على الصفاء.
ويبدو أن كل الدراسات، في حدود المقروء، التي أُنْجِزَتْ حول هذا الإشكال تتفق بشكل من الأشكال حول هذه الظاهرة مع اختلاف الدرجات، فالبعض حاول تبريرها بالرفع بها إلى مستوى الإبداع، مستغلا الإمكانات التي توفرها مصطلحات "الغموض، التعقيد، التغامض، الخواء، الفراغ..." وما إلى ذلك من المفاهيم التي تسعف، بمناقشتها، في النظر إلى أُفُول المعنى من زاوية إيجابية تحفظ للقصائد مشروعيتها وتدفع باللائمة نحو القارئ.
وفي مقابل هذا التوجه كانت طائفة أخرى تعقد الدراسات والبحوث المتتالية لِذَمِّ هذا التَّلَكُّئِ والإعلاء من شأن الصفاء الذهني والمعنوي، بل ذهب بهم الأمر إلى البحث في أسباب هذا الفراغ فجرهم ذلك إلى جملة من القضايا التي تَمَسُّ الشعر والشاعر بشكل مباشر.
ويمكن اختزال كل ما أثير ويثار حول المعنى في القصائد الشعرية المعاصرة في شعور القارئ بالغموض المستغلق الذي يُطْبِقُ على القصائد ويعيق التواصل معها، والذي كان، بدون شك، هو الباعث الأساس على الكثير من الأسئلة التي تتناسل غزيرة بعد كل قراءة لنص من النصوص، والتي تتجه في مجملها نحو البحث في أسباب ذلك.
أ‌- تذويت الخطاب وغياب الموضوع:
للحداثة الشعرية أناها التي تلغي ما يحيط بها. وهي في ذلك منسجمة مع ذاتها ومع ما جاءت لأجله، أي هدم كل ما قبلها وبناء نفسها من جديد عبر نسق مغاير ولو من "لا شيء". وبهذا الوَهْمِ لا تُنْتِجُ شيئا، بل تعزل نفسها وتحرمها من التواصل، كل ما تعول عليه، خطاب نقدي مُوازٍ للخطاب الشعري ينتجه الشعراء أنفسهم ليشدَّ هذا أَزْرَ ذاك، ويعينهما على تجاوز المُساءلة الصارمة التي يوجهها إليهما خصومهما. يقول جَبْرا إبراهيم جبرا: "أما الحداثة في الشعر، فقد جاءت منذ بدايتها رافضةً الْمِنْبَرِيَّةَ والصوت العالي والمباشر والتنغيم اللفظي والقرائن التقليدية، وبذلك جازفت بقدرتها على التواصل، إذ وضعت مقابل جماعية الغرض الشعري فَرْدانيةً زَعْزَعَتْ هذا الغرض"55 . ولذلك آمن الشعراء بأن الشعر مع هذه الحركة لم يعد يتجاوز صوت هذه الحركة56.
وما كان بالإمكان أن يُبتلى الشعر العربي بهذه المصيبة، ولا للشاعر أن يجري وراء هذا الوهم، لو لم يتواطأ النقاد ويتخلى النقد عن مسؤوليته حين سمح للشاعر بأن يتجاوز معرفته بالشعر إلى مستوى التنظير له بما يخدم فهمه ويتناسب ومستوى قريحته بحيث استحل الشاعر، في هذه الوضعية، لنفسه أن يُنتج خطابا تنظيريا للشعر موازيا للخطاب الشعري الذي ينتجه. ومع تراكم هذه الخطابات أصبحت لها قوتها الخاصة التي استطاع بها الشعراء خلق منطقة مؤثرة يتسربون منها للتشويش على مفهوم الشعر كما هو في الواقع والتاريخ، أي تجاوز النظرية الشعرية كما وُضِعَتْ سلفا57 . يقول بُّول شاؤُول: "القصيدة التي لا تذهب إلى أحد، ولا تأتي إلى أحد، ولا تَنْـَزُع إلى "معنىً" مَأْهولٍ، يَشُدُّها هؤلاء النقاد والباحثون (عن ماذا يـبحثون؟). والمُحَلِّلون (ماذا يُحللون؟)، إلى معلوماتهم، ثقافتهم (الميتة أصلا في أجوافهم)، الجاهزة، طليعة كانت أو موروثة أم تقليدية، يحاصرونها بأنفاسهم الثقيلة، بأدواتهم المحددة ليتواصلوا معها، في مختبراتهم، وفي تجاربهم. إن التواصل الداهم، القمعي، الذي يضطهد القصيدة ويُشَوِّهُها ويوقفها في نقطة زمنية أو لغوية أو اجتماعية لا علاقة لها بها. فالقصيدة هي المجهول. فكيف يمكن أن نقاربها بالمحدد والمعلوم، والقصيدة هي المُغادَرَة المستمرة، فكيف يمكن أن نُجَمِّدَها على مَشْرَحَةٍ، أو في مكان؟ والقصيدة هي العَدَُم. مسافة العدَمِ على العَدم، فكيف أن نَحْقِنَها بموت "المعاني" ؟ وهي التي لا تريد أن تقول شيئا فكيف نُقَوِّلُها؟ وهي التي لا تحمل لها وظائف ولا وسائل ولا مَهَامَّ. فكيف أن نُسْنِد إليها هذه الأحمال الباطلة "58.
إن أول سؤال، بعد هذه الأسئلة التي حشرها شاؤول في نصه، هو: هل الشاعر يدخل إلى الكتابة خِلْوًا من المعرفة ومن القضية ومن المشاعر. فلماذا تجيء القصائد إذن؟ !
الأكرم لها أن تموت في صدر قائلها، وأن يموت قائلها في عتمة الصمت، لا أن تخلق أزمة بين الشعر وقرائه وتُشَوِّهَ سُمْعَة القصيدة. والأكرم للنقاد الذين يباركون مثل هذه القصائد أن يتركوا الشعر وينظروا في جنس آخر يحتمل مثل هذه المُجازفات.
فبمثل هذه الآراء والمواقف استعان الشعراء على استهاماتهم، وبمثل هذا التشجيع المجاني احتموا. فتركوا النقاش حادا بين النقاد، وانصرفوا إلى إغراق الساحة بنصوص تعمل على إشعال الفتنة وتقويض كل نقاش جاد، أكثر مما تقدم معرفة وأدبا مفيدين.
إن السطوة على القصيدة وخنقها من قبل الشاعر يسلبها حق المغادرة إلى القارئ، ويُفْقِدُها إمكانية امتلاك هُوِيَتِها والدفاع عن نفسها بما تملك، أو بما يجب أن تملك، من مقومات دون حاجة إلى قائلها. وهل تستطيع ذلك قبل أن يُثْقِلَ حواشيها بِنَثْرٍ هو أشبه بالتفسير، وهوامش غالبا ما تزيد من استغلاقها؟
إن اتكاء القصيدة على الشاعر واتكاء الشاعر على الوهم لن ينتج إلا الأزمة. كما أن إصرار الشعراء على امتلاك قصائدهم وتنويه النقاد بذلك، يناقض فكرة أساسية نادت بها البنوية وآمن بها فريق كبير من هؤلاء، تتمثل في موت المؤلف. أي أن النص يقطع شجرة النَّسَبِ مع قائله بمجرد الانتهاء منه حتى إنه، في فهم هؤلاء، يصبح مُجَرَّدَ ادِّعاء من قبل الكاتب لا يعبر عما يَوَدُّه أو يقصده.
لا يستقيم في فهمنا هذا التناقض بين إصرار الشاعر على امتلاك نصه، والتمسك بضرورة إشراك القارئ والفصل بين النص وصاحبه. كما أن الإغراق في الاعتداد بالذات ونفي الآخر يقودان، حتما، إلى الفراغ الذي ينجم بدوره عن غياب الموضوع المحدد. والنتيجة، أجساد بلا أرواح لا معنى ولا فائدة. وهو ما تنبه له ياكبسون حين قال: "إن مسألة الغرض الشعري، هي اليوم، إذن، بدون موضوع"59.
وهي الملاحظة نفسها التي وقف عندها الكثير من النقاد العرب، فسجلوا أن في كثير من شعر الحداثة العربية المعاصرة" تغيب الدلالة غيابا كاملا سواء كان ذلك بسبب غياب الموضوع أو بسبب أشياء أخرى"60.
ب‌- المقصدية وإبهام العلاقات اللغوية:
لكل كتابة قصد ترمي إليه، ولكل قصد وسائل وأساليب تُوَظَّف لإظهاره. وإذا كان القصد غير مُعْطَى، وإنما يحتاج إلى بناءٍ وتأويل وإعادة تَوْضِيبٍ من قبل القارئ، فإنه يحتاج دائما إلى معنى أَوَّلِيٍّ على قدر من الوضوح لتكون عمليات القارئ (البناء والتأويل...) مُنْتِجَةً وفعَّالة. وإلا فإن الكتابة حين تُجافي الوضوح تقترب من العَدَم، بل تصير مُرادِفة له.
وتشكل العلاقة بين اللغة والقصد ركنا أساسيا في كل كتابة، ولا يُسْتَثْنَى الشعر من هذه القاعدة مهما حاول البعض التقليل من هذه العلاقة أو نفيها نهائيا. فاللغة خارج المعنى لا مبرر لوجودها، إذ اقتران الطرفين اقتران وجوب وفَرْضٍ.
صحيح أن للشعر طرائق مغايرة لباقي الأجناس في بناء لغته وإنتاج معناه، غير أن هذه المخالفة لا تعني هدم العلائق اللغوية واختراق القواعد، وبالتالي تغييب المعنى وإعدام القَصْدِ. فالكتابة محكومة دائما بدرجة الأدائية، ولذلك ترى الكثير من الدارسين مهما وصل بهم حماسهم ومناصرتهم لهذا التوجه، لا ينساقون انسياقا كليا وراء تشديدهم على أن اللغة الشعرية مُفارِقَةٌ، من حيث توظيفها، للغة باقي الأجناس الأخرى. تقول رجاء عيد: "الشعر اختراقٌ لِنَمَطِيَّة اللغة، فهو انزياح وتفارق عن المعيار في حدود الأدائية، وهذا الانزياح لا يعني انْبِثاتًا أو خَرْقًا غير محكوم للقواعد، فإنه إن جاوز احتمالات التأويل وقَبول الممكن، فذلك يعني فقدان ذلك الخيط الخَبِيءَ والذي يلعب الشعر على طرفيه الخفِيَّيْن: تواصل وانزياح وإبهام وتفسير"61.
لقد كانت القصيدة تعول كثيرا على طبيعة اللغة، بل إن درجة استحسانها وتجويدها تُقاس بطبيعة هذه اللغة. وكان الشاعر يحرص، إلى أبعد الحدود، على تماسك لغة قصائده وترابط المفردات بما يخدم المعنى، غير أن التجربة الشعرية الجديدة أرادت للغة أن تصبح "رَحِم مُخْتَبَرِ الشعر المعاصر، هكذا تَتَمَرْأَى لنا وضعية الخطاب الشعري فيها، وبها توزعت شُعَبُ البحث عن حداثة شعرية مغايرة وتقاسمت الممارسات النصية هذه الخِصِّيَصة كل واحدة منها تهتدي بنظرية تستحوذ على النص وتشغله ولو في غفلة عن كاتبه"62 .
لم يَعُد للشاعر سلطة على اللغة، بحيث أصبح انفلاتها ممكنا، بل حقيقة يكابدها الشعراء الذين لم يَبْقَ من حقهم إلا التساؤل حول هذه اللغة. يقول بنيس: "اللغة الشعرية العربية سؤالٌ لا جواب له، سؤال يرى إلى تعدد الممارسات النصية اللانهائية عبر الزمان والمكان"63.
بهذا الفهم الجديد تتحول اللغة من أداة لتوفير الأجوبة المُقْنِعَة والممتعة، إلى أسئلة غير مُنْتِجَة أو غير قابلة للأجوبة. وفي هذه الوضعية تيَسَّر للشاعر أن يعبث بالعلاقات اللغوية سواء بالجمع بين أعناق المتنافرات التي فَرَّقَتْ بينها الطبيعة اللغوية نفسها، أو اعتماد لغة تقوم على العَجائِبي والخارق. والأمثلة أكبر وأغنى من إعطاء النماذج. يقول أَزْغاي في قصيدة "مواعيد مرتبة مع الأسف"64 :
لَيْسَ هُناكَ مِنْ أَحَدٍ في النَّافِذَة
الهَواءُ الضَّريرُ في السريرِ
يَتَنَفَّسُ بِرِئَاتِ الجُدْرانِ...
هُناكَ مَنْ يَتَهَجَّى أَلْواحَ نَفْسِهِ
لِيَكونَ واضِحًا في الْبُكاءِ
وَمَنْ يَقُصُّ الطريقَ بِأصابِعَ مَخْذُولَةٍ
إِلى تَفاصِيلَ مُقْنِعَةٍ
عَنِ الأعْذارِ
وَهُناك في أَقْصى العِفَّةِ
مَنْ يَسْتَدْرِجُ بَداهَتَهُ
إَلى مَحْرَقَةِ الثَّوانِي
ومثل ذلك، قول سعيد أنوس في قصيدة "في الكآبة" 65 :
في الدَّوْرة العَميقَةِ لِهَذا المُعْتَقَلِ
يَسْقُطُ أَريجُ الكَلامِ هَكَذا...
كَما الرِّيحُ لا تُسْعِفُ عاشِقَ
اللَّحَظاتِ التِي تُدْمِي
فَضَلاتِ الحُمْقِ اللاَّمُنْتَظَرِ
أَنْتَصِرُ لِي وَلَك
وَلِوُجودٍ صَعْبٍ
قُرْبَ حائِطِ الْمَعْرفةِ الجَسُورِ.
وأشد منهما إيغالا في هتك العلاقات اللغوية قول محمود عبد الغني في قصيدة "نومة دادائية" 66:
نَمْ
لِتَتْرُكَ مكانًا لِلبَياضِ
ويَعْبُرِ النَّباتِيُّون الذينَ سَيَنْبُتُ لَهُمْ ريشٌ
بَعْد اجتِيازِهِم ُالأَبْوابَ والثُّقوبَ
نَمْ
وَلا تُؤاخِذِ الأَسْماكَ
إِذا خَرَجَتْ مِنْ نَوْمِكَ
وبَدَأتْ تَلْكِمُ النّاس
وتَلْمَعُ
تحتفي قصائد المشهد الشعري المغربي الجديد بمثل هذه الصور التي تقوم على العَبَثِيّة إلى درجة يصعب معها الاسترسال في إعطاء الأمثلة. فقد أصبحت هذه الطريقة في الكتابة هي القاعدة التي لا استثناء لها إلا من بعض المنفلتات لشعراء أغلبهم ينتمي إلى جيل السبعينات والثمانينات67، والذين لا زالوا يكتبون إلى الآن.
لقد انشرح الشعراء لِتَسَتُّرِ النقاد على هذه الفضيحة، إذ شَهِدوا لهم بالشاعرية والخلق على غير منوال حتى وهم يُدْرِكون أن هؤلاء لا يقولون شيئا، وإذا قالوا، جاء كلامهم فَجًّا لا حياة فيه، ربما كان النقاد يبحثون عن شهادة ميلاد جديدة ليحيوا حياة أخرى خارج الشعر الذي لم يستطيعوا قراءته وتحليله.
وهكذا وجد الشعراء في تواطُئِ النقاد الملاذ الذي يختبئون فيه ويتوارون خلفه للإجهاز على الشعر. لقد أعفى النقاد الشعراء من إنتاج نص يصير حُجَّةً وشاهدا للِدَّحْضِ أو التزكية. وأعفى الشعراء النقاد من مكابدة النص واختبار ذائقتهم الشعرية وكفاءتهم النقدية، فسار الطرفان جنبا إلى جنب في تناغم يُحْزِن عشاق الشعر الخُلَّص.
وفي جملة، يلخص محمد القعود إشكالية العلاقات اللغوية في الشعر الحديث بقوله: "ومما يُبْهِمُ العلاقات اللغوية في النص الشعري الحديث، عَقْدُ صِلَةٍ بين غريبين أو متنافرين لا تَجانُسَ مألوفا واضحا بينهما"68.
إن المعنى إنتاج لصياغة لغوية راقية واعية بدورها، ولذلك يرى ذ. محمد العمري أن "المعنى الشعري ليس هو الإحساس أو التجربة أو الانفعال، بل هو الصياغة اللغوية النهائية التي تروض الانفعال للمعنى والمعنى للإيقاع فينتج عن هذه العملية معنى هو المعنى الشعري"69.
ج- القصيدة بين الغموض والتَّغامض
يعد مبحث الغموض من المباحث الثابتة في كل دراسة تتناول الحداثة الشعرية، ومهما كان الاختلاف حول تفسير هذه الظاهرة، فإن الاتفاق على قوة اختراقها لجسم القصيدة كامل لا يَعْتَريه النقص70.
ومع تعدد هذه الدراسات وتوسعها فإن الباحث لن يجد صعوبة في العودة بها إلى اتجاهين مختلفين في تفسيرهما لهذه الظاهرة وتقديرهما لها في الكتابة الشعرية، وهما:
1 - ينطلق الاتجاه الأول من فَرْضِيةٍ تعتبر أن "الغموض" صفة مُحايتة للنص الشعري فهو يقترن بالشعر اقترانَ وجوب، فمن صميم الشعر ومن طبيعة جوهره وتَشَكُّلِه، النـزوعُ إلى الغموض بوصفه طاقة إبداعية ومُوَلِّدًا من أهم مولدات الكثافة الشعرية"71.
بل إن هذه الفرضية ستصبح من قبيل المُسَلَّمات التي لا تثير الكثير من النقاش عند هذا الفريق. فبالإضافة إلى أن الغموض خِصِّيصة شعرية صِرْف، فإنه في "النصوص الإبداعية الأصيلة ليس مجانيا وليس عبثيا، أو استجابة لذات مريضة، بل هو غَوْصٌ في أعماق الذات والعالم من أجل تفجير الوضوح"72.
إن الغموض، في فهم هؤلاء، يتجاوز مجرد عنصر حكمت الطبيعة الشعرية بدخوله إلى عنصر فعال يضفي لمسة جمالية تُفْتَقَدُ بافتقاد النصوص له. يقول مُشتاق عباس مُعِنّْ: "أمسى التعقيد والغموض سِمَةً جَمالية في الشعر الحداثي"73.
وتتخذ هذه التصورات من نص الجُرْجاني الذي يمتدح فيه مُكابدة القارئ للنص قصد الوصول إلى المعنى، منطلقا لها. إذ المَرْكوزُ، كما يقول الجرجاني: "في الطَّبْعِ أن الشيء إذا نِيلَ بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيْلُهُ أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أَجَلَّ وألْطَفَ وكانت به أضَنَّ وأَشْغَفَ"74.
لكن ماذا لو أُنْهِكَتِ النفس وَأُجْهِدَ الفكر في قراءة نص ما بُغْيَة الخروج بفائدة، فلم ينل شيئا؟ ماذا لو غاص الناقد في أعماق النصوص مُتَوَسِّما إخراج الصَّدَفَةِ، فلما اقتدر عليها وجدها خَواءً كما يقول الجرجاني؟ ماذا لو تَبَرَّجَتْ لك القصيدة عارِيَّةً من أي معنى أو استغلقت إلى أبعد الحدود؟
هنا انزلق الحديث في الغموض وعلاقته بالنص إلى الحديث في الغموض نفسه والتمييز فيه بين أنواع ومستويات، منها الإيجابي ومنها السلبي. فالأول مرغوب فيه والثاني مرغوب عنه. يقول محمد عزام: "إذا كان الإبهام ألغازا وتعقيدا في التراكيب اللغوية والنحوية، فإنه لا يمثل ضرورة شعرية، وإنما هو صنعة سلبية في الشعر والفن"75.
2 - نأتي بهذا النص لنجعله عَتَبَةً للدخول إلى رأي الفريق الثاني الذي نظر إلى ظاهرة الغموض من منظور مخالف تماما للاتجاه الأول. وخلاصة موقفه، رفْضُهُ القاطع لهذه الظاهرة. فالغموض عند هذا الفريق مذموم وسلبي يجر القصيدة إلى ما لا تطيق، ويؤدي إلى انحلال عُرَى العلاقة بين النص وقارئه.
ويبدو أن هذه العلاقة سائرة إلى الأفول من جميع النواحي، ويكفي أن نورد نصا لنجيب العوفي لنتبين طبيعة موقف هؤلاء. يقول: "ثمة ظاهرة أخرى في مسألة اللغة الشعرية، وهي التي اصْطُلِحَ عليها بظاهرة الغموض، وهي زَيَغان القصيدة عن حدٍّ آخر من حدود الشعر، وهو المعنى أو الدلالة (...). ومهما تكن التعليلات والتبريرات النظرية التي تعطى عادة للغموض، فهو نوع من التعقيد ناجم في أكثر الحالات، عن زيغان الدلالة الناجم بدوره عن زيغان الدال، ناجم عن افتقاد لحظة التَّجَلِّي الشعرية، يصير فيها الغموض وضوحا والوضوح غموضا (...) فهو غموض يَمَسُّ، عودا على بدء، اللغة الشعرية، كما يَمَسُّ في الصميم الرؤية الشعرية"76.
وعلى عكس ما يؤمن به العوفي وأنصار الوضوح، يُمَجِّدُ أدونيس الغموض إلى أقصى الحدود. يقول77 :
أَتَغَيَّرُ
أُغَيِّرُ ما يُغَيِّرُني غُموضا، حيْثُ الغُموضُ أنْ تَحْيَى
وُضوحًا، حيْثُ الوضُوحُ أنْ تَمُوت.
إن الغموض الذي وصل إلى درجة التغامض مصيبة أخرى تنضاف إلى المصائب التي حلت بالشعر العربي حتى أصبح لا يطاق، فمن منا يحفظ قصيدة كاملة لشاعر حداثي؟ إنه الطريق المفتوح من جميع الجهات للإجهاز على الشعر مهما كان تصور الشعراء والنقاد المناصرين لهم. ننقل عن محمود درويش حواره مع أحد النقاد قال: "قلت لناقد كبير: لماذا لا تتدخل، لماذا لا تُكَرِّسُ طاقتك النقدية الكبيرة لدراسة الشعر الحديث في محاولة لاستنباط بعض القواعد والضوابط فتساهم في وضع حدٍّ لهذه الفوضى؟ قال: لا أفهم، ولا أستطيع القول: إن معظم هذا الشعر، منذ الرواد إلى النُّقَباء إلى الأنْفار، ليس شعرا، وأخشى التَّعَرُّضَ لتهمة المُحافظة من النقاد الجدد الذين يدرسون القصيدة الغامضة بمقال أشدَّ غموضا، لأني لا أومن بالبنيوية بخاصة، ولا أُتْقِنُ تخطيط أسهمها وأقواسها وخرائطها"78.
إن هؤلاء النقاد، هم الذين يهابهم الشعراء الجُدُدَ، هم الذين تتكالب عليهم ألسنةٌ حِدادٌ من بعض الشعراء "النقاد"، فتراهم يرددون مع اختلاف في الأسلوب، مثل قول شاؤول: "الناقد أخطر على القصيدة من الجمهور ومن الشاعر إذا عاود قراءتها وتنقيحها، وَحْشِيَّتُهُ لا تضاهيها وحْشِيةً، لأنها وحشيةٌ موجِّهَة وصارمة وقاسية وأحيانا قاتلة. الناقد يقتل القصيدة"79.
إن شاؤول، وهو شاعر، يدرك أن الشاعر إذا عاد إلى قصيدته لينقحها تَبَرَّأَ منها لِوَهَنِها، وأن الناقد إذا أمعن فيها النظر مَقَتَها. وهو يدرك، أيضا، أن هذه الخصومة ضد الناقد غير مجدية لأنه يمتلك صَكَّ الغفران لمرور قصيدة ما إلى الفردوس الذي يحلم به كل شاعر. فلو كان الشعراء يعقلون لأنصتوا للنقاد الأكثر موضوعية الذين لا تهمهم المُداهنة والمجاملة، وإنما يهمهم الشعر كما يريده الناس.
3- تركيب
3-1 الإجهاز على المعنى
لا يعد فراغ القصائد من المعنى نشازا في وضع يتحكم فيه البياض والصمت وإبهام العلاقات اللغوية، ويهيمن عليه الغموض والتغامض والتعقيد. إنه نتيجة طبيعية لمقدمات واضحة. فحين لا يصدر الشاعر عن قضية محددة، وحين لا يعالج موضوعا دقيقا، وحين لا ينطلق من صفاءٍ ذهني يسعفه في إدراك القضايا، تتلقفه الأوهام، فينتج الفراغ المميت.
إن العلاقة بين الموضوع والمعنى من العلاقات الأكثر تلازما، فلا معنى خارج الموضوع. ولعل قوة هذه العلاقة هي التي جعلت بعض النقاد يُرْجِعون أفول المعنى إلى غياب الموضوع بشكل نهائي، وجعل البعض الآخر يقف عند وصف المعنى بالتعقيد، فجره هذا الوصف إلى مناقشة قضايا على هامش هذه الظاهرة.
لقد تخلى الشاعر عن دوره وانزلق من مناقشة قضايا هامة إلى أخرى تكاد تكون هامشية، وهي ظاهرة عامة أصابت التجربة الشعرية في الصميم، حتى أن نجيب العوفي لاحظ أن "أهم ملمح ومؤشر باسم التجربة الشعرية الجديدة هو التحول والانتقال على مستوى الرؤيا الشعرية والموضوع الشعري من الأسئلة الكبرى إلى الأسئلة الصغرى، من أسئلة الواقع والسياسة والإيديولوجية والتاريخ، إلى أسئلة الذات والأنا... من الأحلام الكبيرة إلى الأحلام الصغيرة...إلى أضغاث أحلام"80.
والإحساس بالأفول ليس وليد المشهد الشعري المغربي، بل هو إحساس شامل يشترك فيه الشرق العربي وغربه، رواد التجربة ووارثوها. فقد تنبه السَّيَّاب في زمن مبكر إلى هذا الخَراب الذي يتهدد المعنى في عدد من رسائله التي عالج فيها قضايا تتصل بالشاعر وبالكتابة والعلاقة بينهما. ويكفي أن نورد هذا النص الذي بعث به إلى أدونيس مُنَبِّها إياه من تسرب هذه الظاهرة إلى الشعر قال: "كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور لا أكثر، ولكن هل غاية الشاعر أن يُورِيَ قراءه أنه قادر على الإتيان بمئات الصور، لو لم تُبْقِ منها سوى مقطع واحد لما أحسست بنقص فيها. ليس هناك من نُمُوٍّ للمعنى وتطور له".81
إن هذه الصرخة لا تكشف عن تخوف السياب من انصرام المعنى فقط، وإنما تكشف أيضا عن مسببات ذلك، فَشَحْذُ القصيدة بمئات الصور دون القدرة على تطويعها لخدمة المعنى أحد الأسباب المباشرة لهذه الأزمة، فبذل أن تكون مفتاحا للوصول إلى المعنى، تصبح عائقا أمام تشكله ونموه. كما أن هذا النص يلقي باللائمة على الشاعر أولا وأخيرا.
فمنذ ذلك الحين وهذا الأفول يتطور حتى أطبق على القصائد فغامت العلاقة بين الشاعر والقصيدة، وبين القصيدة وقرائها، فكان الطلاق. يقول محمد لطفي اليوسفي في هذا الاتجاه: "ثمة، في الراهن الشعر العربي، ظاهرة في منتهى الخطورة أدت في بعض الأحيان إلى تعطيل عملية الإبلاغ الشعري، وقادت الشعر إلى عُزْلَةٍ مُهْلِكة مُبِيدة، بل إنها كثيرا ما جعلت المتلقين يقابلوا الشعر بالعُزوف وجُحود الفضل. إنها ظاهرة تهاوي المعنى وتلاشيه. وهي مسألة معممة مشرقا ومغربا، بموجبها صار مُنتِج النص يُعْفِي المتلقي من مشقة البحث عن معنىً ممكنٍ أو محتمَل في ما ينتجه من نصوص، لأن نصوصه خِلْوٌ من أي معنى أصلا"82.
وفي تحليله لأسباب هذه الظاهرة يقول: "يرجع تهاوي المعنى في الراهن الشعري العربي، في نظري، إلى التصور التبسيطي الذي يعتقد أصحابه أن المعنى مجرد نتاج لكلمات أو صور تحيل إلى دلالة أو دلالات مجازية متعددة"83.
عشرات الأسباب لهذه المصيبة التي ابتُلِي بها النص الشعري وكابدها المتلقي، وعشرات الاقتراحات التي لهج بها النقاد والمهتمون، لكن يبقى المسكوت عنه في كثير من الأحيان، هو مناقشة دور الشاعر نفسه في هذه الأزمة، وتواطئ الناقد معه.
وقد سبق أن أثبتنا بعض الأسباب في ما تقدم من الكلام، فلم يعد الشاعر يملك من الحجة ما يعنيه على رد السؤال المُحْرِجِ: لماذا تقول ما لا يُفْهَمُ؟ بل استسلم لقدره ورَضِيَ أن يُصفع مرات بسؤال أكثر حدة وحرجا: لماذا لا تقول شيئا؟ فليس بإمكانه الإجابة لا على هذا ولا على ذاك، لأنه، هو نفسه، مقتنع أنه لا يقول شيئا. وإذا قال فإنه لا يفهم ما يقول. فقط يبرع في رصف كلمات برَّاقة سرعان ما يدرك القارئ الخلل الذي يُخَلْخِلُ تناسقها، فيتلاشى البريق ويُوَلِّي القارئ القصيدة دُبُرَهُ.
إن الشاعر، في هذه الوضعية، يجد نفسه ملزما على إرغام كلمات متنافرة على التعايش في سياق واحد. هذه هي محنة الشعر الحديث مع تفاوت في الدرجات بين الرواد والمعاصرين. والجريرة للشاعر ولتواطئ الناقد معه. والقارئ والشعر هما الضحية الكبرى.
عبثا يحاول الناقد التستر على هذه الفضيحة التي تقود الشعر إلى إبادته، وعبثا سيحاول الشاعر الاحتماء بهذا الوهم ليتمادى في استهاماته، فالشعر أعلى من ضحالة الشاعر وتخاذل الناقد، والشاعر لم يعد يملك من المقومات ما يتنازل عليه في سبيل نظم قصائد جيدة، لأنه مُتَنَكِّرٌ للأصول، ولذلك لا ينبغي أن نُفْرِطَ في التفاؤل، أو ننتظر عملا إبداعيا جيدا. يقول ياكبسون: "لا تثقوا في الشاعر الذي يَتَنَكَّرُ باسم الحقيقة والواقع إلخ، لماضيه الشعري أو للفن بشكل عام"84.
3-2- من بيانات الكتابة إلى بيانات النكير
كثيرون هم الشعراء الذين أنتجوا خطابات نقدية موازية للنصوص الشعرية، ويهمنا هنا النظر إلى بيانات الكتابة التي أنجزها شعراء معروفون، وأخص بالذكر أدونيس في الشرق العربي وبنيس في غربه. ويمكن تلخيص أهم الأفكار الواردة في هذه البيانات كالتالي: 85
- تخريب الذاكرة كآلة متسلطة.
- تدمير القوانين العامة.
- تدمير سلطة اللغة.
- تدمير التراتب المَنَوِيِّ.
- تدمير النحوية داخل النص.
- تدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص.
- تدمير استبداد الحاضر.
مع تعدد هذه الإجراءات، يبقى التدمير والتخريب هو البُنْذُ الأساس. فلا حياة للحداثة إلا بموت الماضي، وربما تغييب وتجاوز الحاضر، إنه التَّوْقُ إلى الغيب بحماس فَيَّاضٍ جعل هؤلاء يُوَقِّعون على بيانات هي بمثابة قوانين للشعراء وأعمدة الشعر سابقة عليها وليست مستخلَصة كما هو معروف. وبالموازاة مع هذه البيانات التي تضع قواعد جديدة للكتابة وتبينها بجلاء، كانت الدعوة إلى التعاطف مع الشعر والشاعر وخلق جسور عاطفية معه، إحدى الرهانات التي يُعَلِّقُ عليها الشاعر آمالا كبيرة لذُيُوع شعره. يقول أدونيس: "كيف نفهم، والحالة هذه، حركة الشعر الجديد؟ نفهمها أولا، بالتعاطف معها. فالشعر الجديد تجربة شاملة معقدة جديدة. وهو، ككل تجربة، يحتاج إلى الإيجابية وإلى التعاطف"86.
إن التعاطف هنا ليس عنصرا إضافيا لعناصر الجودة في النص، ولا منتوجا طبيعيا لسلامة العلاقة بين الشاعر والمتلقي. إنه دعوة للمتلقي الذي يوجد، في جميع الأحوال، خارج هذا النص، لأن يكون إيجابيا. وإيجابيته تقتضي تقديم تنازلات جوهرية تمَس الذوق والذاكرة والهُوِية، وقد ركز كثير من النقاد على هذا العنصر لتعويض المقومات الشعرية التي تجعل المتلقي يقبل على المنتوج الشعري الحديث دون استعطاف. يقول عَلِي جعْفر العَلاَّق: "والشاعر يستهدف بَشَرا يتعاطفون معه ويستجيبون له"87.
يبدو أن هذا الاستعطاف المُهين نابع من تَقَزُّمِ حجم الشاعر وقِلَّة شأنه في المجتمع الذي لم يعد يحتفي بظهوره، ولم يعد يُقيم الولائم بنبوغه، ولم يعد يخشى لسانه الذي سعت أقوام، قبل ذلك، إلى عَصْبِهِ ليسلموا هَجْوَهُ. الكلُّ منهزم، الكل سلبي، الشاعر والقارئ والشعر محتاجون إلى مزيد من التعاطف والحنان حتى يُحَسَّ بوجودهم. إنه الإفلاس الذي أتى على الرأسمال وعلى الأرباح.
أمام هذه الوضعية، سيـبدأ الحماس في التلاشي والاندثار شيئا فشيئا، وسيبدأ التراجع عنه من قبل هؤلاء. بل إن شعراء معاصرين لهم أو لاحقين عنهم حملوا على هذه البيانات جريرة ما وقع للشعر، وأنتجوا بيانات أخرى تَذُمُّ ما دعت إليه الأولى من خلال هجومهم على النصوص التي ركنت إلى تحقيق هذه الدعوى.
لقد سَكَتَ الكثير من الشعراء عن قول الشعر احتجاجا على المآل الذي آل إليه، وتَبَرَّمَ آخرون في وقت لاحق 88 . ولا زالت أصوات النكير ترتفع بين الحين والحين، فمن الشعراء المشهود لهم في تاريخ الشعر العربي المعاصر والذين يعتبرون حجة في الإبداع، محمود درويش، الذي نُثْبِتُ له قولة تختزل تَبَرُّمَهُ الشديد من الحال الذي آل إليه الشعر. يقول: "إن ما نقرأه منذ سنين بتدفقه الكمي المتهور ليس شعرا، ليس شعرا، إلى حد يجعل واحد مثلي متورطا في الشعر منذ ربع قرن، مضطرا لإعلان ضيقه بالشعر، وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه، ولا يفهمه. إن العقاب الذي نتعرض له يوميا من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر، يدفعنا أحيانا، إلى قبول التهمة الموجهة إلى الشعر العربي الحديث"89.
الشاهد، إذن، من أهلها، وازِنٌ في المشهد الشعري العربي. وكل تحليل، بعد هذا النص لا يمكنه أن يضيف إلى القارئ أكثر مما يفهمه مباشرة من هذا الضَّجَرِ المَكين. بل إننا مضطرون إلى إضافة نص آخر لشاعر فَحْلٍ في المشهد الشعري العربي الحديث، هو نِزار قباني الذي يقول: "الشعر العربي واقع في أزمة ثقة مع الناس، فقد رمى نفسه من الطابق التاسع والتسعين للقصيدة القديمة ولا زال عالقا بين السماء السابعة والأرض. إننا نطلب من الشاعر الحديث أن يكون طبيعيا لأن النتاج الذي نقرأه اليوم هو ضد الطبيعة وضد نفسه وضد النظام الشعري"90.
وفي المغرب ترتفع بعض الأصوات بين الحين والحين مُنْتِجَةً بياناتٍ لا تقل نكيرا وهجوما على الشعر والشعراء، وآخرها ما وَقَّع عليه الشاعران: أحمد العمراوي ونور الدين الزاهي بعنوان: الخواء والفراغ في الشعر المغربي الآن91. يقولان: "سيدي البياض، أيها الوَقِحُ كم من الإغلاق مارسْتَ، أنت مُسَوَّسٌ ولا تملك فُرْشاةَ أسنانٍ، لا تحب الاتساخ إلا في الانهيار الكبير... لا علاقة لك بالوقت وتحب التاريخ وتلك مأساة وَقاحَتِكَ، تحب الأضداد المتساوية والمتفاوتة والمُتَمَوِّجَة، وتستسلم أحيانا. لِمَ لا تستسلم الآن بأضدادك، أنت تحب الأضداد لعبة البياض والسواد ناعورة بطيئة تجري بالماء تارة وبالدم أخرى، وتارة تتوقف نهائيا"92.
يناقش هذا البيان إشكالية الفراغ والخواء، ومحاولة التدقيق في الفروق بينهما، فبينما يُسْنِدُ الشاعران للفراغ صفة إيجابية، يَذُمّان الخواء ويدفعانه إلى قفص الاتهام؛ يقولان: "الخواء هو غير الفراغ. الخواء خواء، والفراغ هِبَةٌ نَنْدَمِلُ بمراثيها حين يرسو طين التراكم على جَنَباتها. بالفراغ يزدهر الامتلاء ليولد فراغا آخر يمتلئ، وهكذا... الخواء عدَمٌ له معنى، والفراغ معنى لا عدمية له"93.
يبدو أن هذه التدقيقات غير مجدية في واقع شعري يكاد يكون منهارا، واقع تلاشت فيه الحدود بين المفاهيم، وتدنت فيه ثقافة الشاعر والقارئ إلى أبعد الحدود. وهو ما جعلهما يستدركان في آخر هذا البيان بقولهما: "أين نضع المشهد الشعري الآني (الراهن) داخل كل هذا؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الفراغ والخواء فيه؟ هل يتفرغ شعراؤنا للحسم بين الفراغ والخواء في قصائدهم بما فيه الكفاية؟ كيف يحضر الوعي في تهدئة لا وعي الشاعر؟ هل استطاعت القصيدة المغربية الحالية بكثافتها وقَصْدِيَتِها واقتصادها المُشَوِّشِ والمُدْهِش أحيانا أن تَطَأَ الأرض بالارتفاع عنها قليلا"94.
لا تستطيع القصيدة الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا يستطيع الشاعر الإنصات لها لأنه لا يملك رد هذه الأسئلة بأجوبة صادرة عن معرفة ودراية.
إن الإصرار على التمييز في الخواء والفراغ شبيه بالتمييز بين الشعر والنـثر حاليا، إذ صار الشعر نثرا، والنثر شعرا، والكل كتابة. إنه الهروب بالأزمة إلى الأمام، غير أن المِحْنَة قائمة وقادمة بمظاهر أشد خطورة وأقسى ضررا لا محالة.

هوامش

1- أنظر العمدة لابن رشيق، باب "فضل الشعر" على سبيل المثال لا الحصر ج 1 ص 19 وما بعدها.
2- ولذلك ترى العرب يشددون على وصف الألفاظ بالعذوبة وسهولة المخارج والطلاوة وكثرة الماء ورونق الفصاحة والخلو من البشاعة مع ضرورة سمو الكلمة عن الابتذال.
3- العمدة. ج 1/91.
4 مقدمة ابن خلدون. دار الجيل بيروت، ص: 641.
5- المقدمة. 641.
6- حديث الأربعاء لطه حسين ج 3/29.
7- الشعر العربي الحديث لأحمد المجاطي ص: 157.
8- نفسه ص 164.
9- أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث . ص 139.
10- طبيعة الشعر وتخطيط لنظرية في الشعر العربي لمحمد أحمد العزب. ص: 5.

11- ديوان: "لا أحد في النافذة" لعبد العزيز أزغاي. ص: 69-70.
12- ديوان: "حرائق العشق" لمحمد غرافي. ص: 5/6.
13- ديوان المتنبي – شرح الربقوقي-ج2-ص 345
14 ديوان: "الكلب الأندلسي" لعزيز الحصيني ص: 75.
15- ديوان: "الفروسية" لأحمد المجاطي. ص: 54.
16- ديوان: "شجر النوم" . ص: 5.
17- نقلا عن ظواهر نصية لنجيب العوفي. ص: 23.
18- بنية اللغة الشعرية لجان كوهن. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. ص: 40.
19- ديوان: "هبة الفراغ" لمحمد بنيس. ص: 18.
20- ديوان: "هبة الفراغ" لمحمد بنيس. ص:.
21- نفسه: 29-30.
22- هبة الفراغ ص 60-61.
23-نفسه: 68-69.
24-هبة الفراغ 85-86.
25- شجر النوم ص 9-10.
26- العلم الثقافي. ع 22/ 6-2002.
27- ديوان: "عابر المرايا" لمصطفى الشليح. ص: 165.

28- ديوان: "حرائق العشق" 17.
29- نفسه.ص 81.
30- حدائق العشق.ص 65-66.
31- نفسه: 92-93.
32- ديوان: "قصائد للمعشوقة والوطن" لحسن مورصو. ص . 17
33- ديوان: "وماء العراق...يشربه القصف" لمصطفى الشليح. ص: 52.

34- جريدة العلم (العلم الثقافي) ع: 23/3/2002.
35- ديوان: "البحر في بداية الجزر" لإيمان الخطابي. ص: 27.
36- نفسه: 31.
37- نفسه: 50.
38- ديوان: "دموع قلب" لسعيد وجيه. ص: 22.
39- نفسه: 38.
40- قدم الباحث خليفة محمد التليسي بحثا في هذا العنوان اهتم فيه بالأبيات المفردة. وهو صادر عن دار الشروق. 1991
41- حقق ديوان النابغة: عباس عبد الساتر، وحقق ديوان امرئ القيس: حنا الفاخوري.
42- نقلا عن رجاء عيد. ما وراء النص. علامات في النقد. مج 8. ج 30 ص: 180.
43- رجاء عيد. ما وراء النص. علامات في النقد. ص: 180.
44- ديوان: "عابر المرايا" لمصطفى الشليح، ص: 95.
45- ديوان: "مجمع الأهواء" لأحمد العمراوي ص: 58.
46- نفسه.ص 106.
47- قصائد للمعشوقة والوطن: 33.
48- نفسه: ص 47.
49- ظاهرة الشعر المعاصر لمحمد بنيس. ص: 100.
50- قصائد للمعشوقة والوطن . 36

51- هبة الفراغ، لمحمد بنيس. 11-12
52- شجر النوم: 48.
53- زمن الشعر لأدونيس. ص: 137.
54- مسألة الإبلاغية في الشعر الحديث، لحمادي صمود. علامات في النقد، مج 12. ج 45 ص: 9.
55- مجلة فصول، مج 15 ع: 2/1996، ص: 12.
56- الإبهام في شعر الحداثة لعبد الرحمان القعود. ضمن سلسلة عالم المعرفة. ع 279 مارس 2002 ص: 180.
57- أحيل هنا على مداخلة للأستاذ محمد العمري بعنوان: "مداخل النص الشعري" التي ساهم بها في الأيام الدراسية التي نظمتها وحدة البلاغة الجديدة والنقد الأدبي أيام: 23-24-25 أبريل 2003. والتي ميز فيها بين مفهوم الشعر كما هو في الواقع والتاريخ وكما هو في فهم الشعراء.
58- في لا جدوى الشعر: لبول شاؤول. فصول. مج 15. ص: 151.
59- قضايا الشعرية لرومان ياكبسون. ص: 10.
60- الإبهام في شعر الحداثة. 177
61- ما وراء النص. علامات 181.
62- الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاته (الشعر المعاصر). ص: 76.
63- نفسه: 76.
64- ديوان لا أحد في النافذة ص 57.
65- ديوان: "عزلة الزمن" لسعيد أنوس. ص: 59.
66- حجرة وراء الأرض.46-47.
67- نذكر منهم محمد بنيس، ادريس الملياني، مصطفى الشليح...
68- الإبهام في شعر الحداثة. 270
69- مجلة فكر ونقد ع 18 ص: 74.
70- يجد هذا الإجماع مبرره في العدد العديد من الدراسات القديمة والحديثة التي تناولت هذا المبحث إن بشكل مستقل أو ضمن كتب كان موضوعها القصيدة الحداثة. ومن ذلك: الشعر العربي المعاصر لعز الدين اسماعيل (173-194). وبنية الشعر الجديد لمحمد عزام (129-136) وحركة الحداثة في الشعر العربي لكمال خير بك (171-202). والحداثة في الشعر العربي المعاصر لمحمد حمود (157-198). ولا يكاد يخلو مقال أو كتاب حديث من التلكم في هذه الظاهرة، فالمقام يقصر على احتواء المزيد من الأمثلة.
71- شعرية الغموض لعبد الكريم المجاهد. منشورات الموجة. ط1/1998 ص: 11.
72- شعرية الغموض لعبد الكريم المجاهد. ص: 11-12.
73- علامات في النقد. مج 11. ج41 ص: 462.
74-"أسرار البلاغة وعبد القاهرالجرجاني" . ص: 105.
75- بنية الشعر ص 149.
76- ظواهر نصية 26-27.
77- نقلا عن الإبهام في شعر الحداثة.126
78- أنقذونا من هذا الشعر. مج الكرمل. ع 6/1982. ص: 7.
79- في لا جدوى الشعر. فصول: 151.
80- مجلة الثقافة المغربية ع 18يوليوز 2001. ص: 67.
81- رسائل السياب لماجد السامرائي. ص: 135.
82- نص من مداخلة بعنوان: تمجيد الكتابة وإعلاء المعنى، ساهم بها في مهرجان الشعر العربي المنظم بالمغرب بتاريخ: 23-24-25 ماي 2003.
83- نفسه .

84- قضايا الشعرية: 11.
85- نقلا عن مساءلة الحداثة لنجيب العوفي. ص: 18-19.
86- زمن الشعر: 21.
87- الشعر وضغوط التلقي. فصول. مج 15. ع 2/1996 ص: 168.
88- نمثل هنا بشاعر بارز في المشهد الشعري المغربي الحديث من الذين هجروا أرض الشعر وقفوا هجرهم ببيانات ضخمة ونارية يحاكمون فيها هذه التجربة. إنه المجاطي.
89- أنقذونا من هذا الشعر. الكرمل ص: 6.
90- نقلا عن أزمة الحداثة للمجاطي 17.
91- نشر بنصه في جريدة الأحداث المغربية. ع 90. 04/02/1999. وجريدة الاتحاد الاشتراكي ع 5662. 10/02/1999.
92- الأحداث المغربية ع 90.
93- الأحداث المغربية ع 90.
94- نفسه