غنائية حزينة للوطن قراءة فى ديوانى " المنفى ، و ولاتموتى " العربى عبدالوهاب بمحض المصادفة توفر لهذه الورقة البحثية أن تجمع بين شاعرين كبيرين تمكنا عبر أكثر من ربع قرن من الابداع الشعرى أن يطرحا تجربتين خاصتين ومتميزيتن على مستوى الطرح الجمالى ، وعلى مستوى رؤية العالم الذى يتجسد فى الوطن ، بوصفه البعد السياسى الذى يتيح للذات ، المساحة المأمولة فى التحقق حين نستشعر تماهى تلك الذات فى الموضوع / الوطن من خلال التجربة فى الديوانين ؛ [المنفى لأحمد النحال (1) ، وولا تموتى لمأمون كامل (2) واذا كان من الضرورى أن يتوفر المناخ الصحى كى تحلق فى فضائه الذات ، والانسان بشكل عام ، و بدونه يستحيل السعى الى أسطورة لن تتحقق ، والى درب من المحال ؛ فانه أيضا من الأهمية بمكان أن يتوفر للقارئ النماذج المتنوعة من صنوف الابداع التى بدورها تذيب الفواصل بين الانسان وواقعه ، بين وعيه بموروثاته وثقافة المجتمع الذى يعيش فيه ، وبين ادرك ما هو كائن وحادث له ؛ بين ذاته المتعبة وملابسات الواقع الموضوعى ؛ يقوم المبدع بمزج ما سبق فى تجربة ـ بقدر تميزها ، بقدر تأثيرها وفاعليتها ـ وتتم هذه العملية على أرض النص الشعرى و عبر عملية انصهارخلاقة ، يمكن تسميتها بـ ( عملية التواصل / والتفاعل بين المبدع والقارئ ، تتولد فاعلية النص الابداعى ) وجوه أحمد النحال/وجوه رمزية ربما كان ضروريا أن نشير الى أن علاقة القارئ بالنص الشعرى ، تبتدأ عبر خلق مساحة من كبيرة الايهام الشعورى بأن التجربة المقروءة هى ـ بشكل أو بآخر شعرية تخص ذات الشاعر ، بالضبط كما يحدث فى مجال السرديات ، ويقع القارئ فى بناء تصور وهمى بأن ما يقرأه هو ذاته ما حدث بالفعل ـ أو تقريبا ـ للمؤلف ، وهذا التصور يظل متربصا بالنص ، وقابع فى ركن قصى من وعى القارئ قبل أن يدلف الى عتبة النص ؛ لأنه سرعان ما يستحيل هذا التصور بعد عدة صفحات ، الى تصور آخر مفاده أن يتمثل القارئ التجربة ، وتتزاوج معاناة بطل الرواية مع القارئ ـ على سبيل المثال وتتماهى الحدود ، ومن ثم يتولد الأثر الفنى أويبدأ تأثيره فى نفس المتلقى / القارئ / المشاهد للدراما التليفزيونية والسينمائية . فماذا قدمت لنا الشخوص التى توجهت اليها اهداءات أحمد النحال أو بالأحرى ، ما هو الأثر الفنى الذى خرجنا به عبر عملية القراءة لديوان ( المنفى ) . على المستوى الاحصائى ، عدد قصائد الديوان تسعة عشر قصيدة ، منهم 12 قصيدة موجهة الى هؤلاء الشخوص ( الولد الطيب ، ألفت ، المواوى ،هدى غالية ، أحمد عرابى ، بوش ، أمى ، صدام ، العرب ، عم سراج ،عصفورة ، محمد الدرة ) ـ وخمس قصائد الى الوطن [ مركبنا ، مرثية وطنى ، نوبة رجوع ،صباح الخير ، صوت العدل ] ـ وقصيدتين خارج السياقين السابقين موضوعيا ، بالرغم من مساهمتهما دلاليا فى تشكيل رؤية الديوان ، بخاصة "زيرو تسعة" التى تفتضح تأثير الاعلانات فى انتاج شخوص كسالى ، غير منتجين ، يعكسون ردة الفعل لمجتمع يتردى بقيمه ، وسعيه للربح عبر الحظ ، وعبر استنزاف القوى الكبرى له ( عشرين سنة ، زيرو تسعة ) ثمة انهيارات متوالية تستشعرها الذات فى معظم قصائد أحمد النحال ، مبعثها تهاوى المبادئ ، والمفاهيم والقيم والرموز . يقول أحمد النحال فى أول قصائد الديوان الولد الطيب جوايه الساكن جوه حنايا القلب كان فاكر لو يفرد ايده ع الآخر ح يطول الشمس كان فاتح حضنه للدنيا وكاتب على شنطة أحلامه ممنوع اللمس كان فاكر خطوة أيامه بتشده لبكره أتاريها بترميه للأمس بهذه الأسطر يرسم الشاعر ملامح طفولته ، صورة لطفل الأحلام العظيمة ، وهو يطول بيده الشمس ، وقابض بكل قوة على ما يخصه من حلم ، متوجها بكل شجاعة للمستقبل ؛ لكنه وبحركة دائرية سريعة يعصف بنا الشاعر مع نهاية المقطع حين نرى أن حركة الطفل لم تكن أبدا للأمام / للغد ، بل كانت للوراء / للماضى . واذا تأمنا العوامل التى ساعدت على احداث الأثر الفنى نجدها متوهجة بداخل المفردات ؛ فهو فى حالة الاقدام نحو الغد نراه ( كان فاكر ، كان فاتح حضنه ، وكاتب ، خطوة أيامه ) بينما تقف جملة واحدة ، قادرة على بعثرة مفردات الصورة تماما حين يقول ( أتاريها بترميه للأمس ) ثمة علاقات تنتجها القصيدة عبر تضفير الثنائيات المتضادة ، نلحظها فى الحركة العكسية للماضى ، ويتمخض التحول الذى آل اليه الولد الطيب ، عبر رحلة من الزمان ، ليس الزمن فقط هو انتقال الطفل من طفولته الى الشباب أو طور الرجولة ، لكنه الزمن النفسى ؛ الزمن كبعد اجتماعى ، وتاريخى ، تمكن أن ينفث سمومه فى العود الأخضر للولد فاستحال ـ عبر تطور الزمان ـ من الطيبة الى كائن آخر غريب عن ذاته ، ثمة اندهاشة تفجرها القصيدة بفنية عالية فى النهاية ، إزاء هذا التحول ، يقول : وأنا بانده وبعلو الصوت ع الولد الطيب يرجع لى فيلاقى صوتى يرجع حشرجة أو همس ويضيع جوايا وجواكم الولد الطيب إن السطر الأخير فى المقطع السابق ، يهشم التصور الساذج للقارئ ، الذى يقصر التجربة الشعرية على أنها تجربة تخص الشاعر فقط ، الصوت العائد على شكل حشرجة هو صوت الضمير الذى يؤكد أحمد النحال أنه مات ؛ ومن ثم فهو الصوت الذى لا يملك سوى الاعتذار للطفلة الفلسطينية الشهيدة " هدى غالية " طالما ( صوتك يا بنتى ف أمتك مالوش صدى ) أشاوس هذه الأمة صاروا أسودا على شعبوهم ، لا على العدو الأكبر الذى يتربص بهم فى قصيدة "فيتو" ؛ وقصيدة صدام ، يقول ( والحكم صادر قبل عقد المحكمه مختوم بختم العم سام ) ان المباشرة التى تعامل بها الشاعر فى صياغة قصيدة صدام ، تنم عن حجم الكارثة التى ألمت بالأمة العربية ، وفجاجة الحكم وتنفيذه فى بطل شهيد كصدام حسين ، يعكس مدى الضعف الذى آلت اليه الأمة العربية ، واذا كان أحمد النحال دخل الى حيز قصيدته مدفوعا بانتكاسة عظيمة ، كان من تباعاتها التدشين للوضع المزرى ورفضه فى نفس الآن ، الا أنه ينتصر لصدام فى نهاية القصيدة ليجعل من اعدامه رمزا للشهامة والتضحية التى افتقدناها ؛ أما فى قصيدة مشاعر المهداة الى الطفل " محمد الدرة يعطينا تنوعية جديدة على الدم العربى المسفوح بالمجان فى فلسطين ، يقول بالدم والدم على اسفلت القدس فقد معناه وياكل الأمم الناطقة بلغة الضاد انتم أوغاد ) ملامح الوطن اذا كان الوطن عند أحمد النحال يعنى الوطن الأكبر وهو الأمة العربية الا أنه يحدد ملامحه فى صورة المركب الذى شارف على الهلاك فى قصيدة مركبنا ، وفى أوجاع الغربة والتحول التى عصفت بالوطن فى قصائد ( المنفى ، والمواوى ، وزيرو تسعة ، وفيتو ) ملامح الوطن استحالت ازاء سقوط الأفراد فرداى فى محيط الغربة والوجع ، صاروا مطاردين يتبعهم العسس بالتقارير ، مما ساعد على على أن يكون صوت الذات أقرب الى الحشرجة ، أو الهمس غير المسموع ؛ هل هذا هو صوت الضمير الذى يؤكد أحمد النحال أنه مات فى قصيدة ( فيتو ) سيدنا بوش . لأن موت الضمائر وتحول الفطرة الخضراء للولد الطيب الى ملامح شائهة فى القصيدة ، هو ذاته الذى ستتولد عنه شخوص وذوات هشة يقدمها النحال بسخرية لاذعة، ( حبة همج ) . هذا التصور الغربى للانسان العربى على قدر تعسفه الا أنه يمثل بعدا دالا فى الديوان ، فالغربة التى يعيشها العربى داخل وطنه ، محاطا بالتقارير فى قصيدة مركبنا ، هى التى ساعدت على خلق هذه الهشاشة ، يقول : ومركبنا على جبل الجليد رايحة وشد الموج كان أقوى من المركب وربانها وهز الموج زلزلها وصدع كل أركانها تلك الصورة العبقرية للمركب / الوطن ، تتمكن من خلق تأثير قوى لمدى الضياع المقبل عليه المركب ، نحو الهلاك القادم ، وهذا ما دفع الجميع ـ حسب رؤية الشاعر ـ للسعى نحو بيع هذا المركب المقبل على الدمار ؛ واذا كان أحمد النحال يبدأ معظم قصائده بصورة ، كأنها اللوحة المنحوتة من أعماق الذاكرة ، ربما لطول فترة تخمرها ، وربما لثقلها الضاغط على روحه ، صورة قادرة على خلق تأثير بعيد المدى على المتلقى ، ثم تأخذ القصيدة فى فك مغاليق هذه الصورة / الرمز ، والتعريج على تفاصيلها ، بقدر ما تحمله من مباشرة الا أنها معنية بالحفر فى أعماق المتلقى نفسيا ونقديا ، بغية امتلاك وعيه ، ومن ثم اعادة تشكيله يقول : ( ميزان العدل فى المركب صبح مكسور وتاجروا حتى فى قانونا وفى الدستور ) ثمة أعداء بداخل الوطن ، ساعدوا على انحراف ميزان العدل ، وتجاوز القانون ، وتوظيف الدين والأخلاق لمصالحهم الخاصة ( يراقبونى وأنا ف دارى وأنا لامؤاخذه فى الحمام ويدوله فى تقاريرهم دا كله تمام وكل الشعب أهو اتعشى وع الكورنيش أهو اتمشى وشاف الدش والوصلة ) تلك الصورة الزائفة للشعب ، هى ما جعلت منه " حبة همج " فى المنظور الغربى الذى نراه فى قصيدة فيتو ، وتساعد السخرية اللاذعة التى يحفل بها المقطع السابق ، و تنشع بالمرارة ؛ فى توكيد حالة التراخى المتعمدة من قبل كتبة التقارير لسادتهم الأشاوس ، الذى يؤدى بالضرورة الى تفريخ شعوب متراخية ، مقموعة ، متعبة ، وضائعة فى وطن مالت فيه كفة القوانين وتهتكت الذم ؛ الصورة المتفشية فى هذا الديوان هو التنقيب فى مواطن الضعف و بعثرة دواليب الألم العربى وفضحة ، بعد أن صارت الصورة لا يناسبها سوى الأسلوب الساخر ، والنقد اللاذع ، يصير بديلا عن الانفجار ، ومن ثم التلاشى ، بداخل مركب شارفت بقوة على الغرق والضياع . " ويشكل الحس السياسي عند أحمد النحال لحمة ديوانه الأول [ ترنيمة للمرسى ] بكل سخونة التجربة الأولى وإنشاديتها وخطابيتها العالية ، حيث يحاول أن يتوحد بجسد الوطن المتسربل بالغيوم والواقع في براثن الفساد والعفن ، فيسقط بين الرجاء والمرارة ، بين التماس مع أحزان الجماعة وبين هجاء وجوه قاهرة تدوس بأنانيتها أحلام وطموحات أجيال قادمة . يا مصر قومي وانفضي حزن السنين لون السنابل في الغيطان صوت البلابل والأدان ح يداوي جرح المجروحين هنا يتم توظيف الموتيفة الفلكلورية وتدشينها داخل بنية نص شعري يشارك في استلهام وإحياء الموروث الشعبي داخل مخيلة الجماعة الشعبية ليزحزحه إلى حيز الشعر السياسي المناهض لكل فساد ، استشرى فى جسد الوطن (3 ). * رحلة مأمون كامل فى ديوان .. ولا تموتى لعل أول الأسئلة التى تجرنا إلى حيز الاندهاش والتساؤل فى ديوان " ولا تموتى هو : كيف انفجر بركان الغضب الشعرى بكل هذه القصائد ، وعلى ذلك النمط من الحدة وهذه الكيفية من طريقة الأداء التشكيل والجمالى الذى يربط بين الذاتى والموضوعى ، وبين الخاص والعام فى وحدة فنية خاصة ؟؟!!!. هل مرجعية ذلك فوات العمر على الشاعر بلا طائل ؟؟ أم لأنه ظل يتغنى بالحب والانتماء للأرض طيلة عمره ، وعبر مشواره الشعرى فى ظل قصيدة " شندويل " : شندويل الأصل هو .......... وسبب إدراجنا لحياة الشاعر ومشواره فى عملية استقراء ديوانه الثانى " ولا تموتى " هو محاولة للوصول إلى حل شفرة الغضب الذى تجلى فى معظم قصائد الديوان ، والكشف عن أنماط تشكيلاته الشعرية وتحولاته على المستوى النفسى من عوز خاص بالذات يتمثل فى ثوب من الشجن المستقر فى أعماق الروح بلا مجيب ؛ إلى ألم عام يناقش بطريقة موضوعية ، وتعتمد قصائد الديوان على منطق القروى فى حدته أحيانا كاشفة عن مواطن وبؤر المعاناة التى لحقت بتجليات الحياة ، ومن ثم نأت بالذات إلى ركن قصى من العالم ؛ ترصد وتحلل المواضعات والآليات التى ساهمت فى ضياع الحلم ، وتعدد صور العوز المادى والنفسى والانسانى بشاعرية مميزة . وأحبك ليه ؟!! حبيبتى .. يعنى ساندانى ولو ف الشدة سترانى وأنا دمى اللى رخصته كتير علشان م يحميكى رخص بيكى صبح يتباع هنا وهناك كده ف النور وف الضلمه عشان لقمه وعيزانى أقول يامه ؟؟!! كثيرة هى الأسئلة التى تنبثق من بين ثنايا الديوان ، أسئلة استنكارية تدعو إلى تدشين الدهشة الممتزجة بالغضب ، بحيث تهز الصورة الراكدة للواقع وتربطها بمدارج إعادة الاستقراء ، فالصورة السابقة تدعو إلى المفارقة المؤلمة . بين دم منذور للوطن ، ودم مستباح . وبين ملامح حبيبة تم تفريغها من محتواها الايجابى حتى ضاعت فى سراديب الظلمة حاملة ـ على الرغم منها ـ إرث الدم المستباح للذات ، هنا يتجلى السؤال فى نهاية المقطع " وعيزانى أقول يامه ؟؟؟!!! " كاشفا عن سخرية تشى بالخواء الذى ينشع فى مسميات الحب الزائقة وحتى فى يوم ما كنتى زمان ما بين الأمهات الأم الأم وكل الناس تقول عنك دا انتى اللى ومالك زى وكان نفسى أصدقهم وتحمينى ألاقينى فى ليلة ويوم لا أنا اللى مات ولا اللى حـى لم تكن الحبيبة كياناً مصمتاً أو مثالياً يضرب في المطلق ، إنما هي كيان حي نراه في "شندويل" ( ديوانه الأول ) ، كيان يتنامى ويتساند على الذات لينهضا معاً / الشاعر والوطن . لكن ثمة تحولات أخرى خلفت خطاباً شعرياً حاداً ينتقد ويعكس حالة من الحسرة الممتزجة الشجن الجميل الذي نراه في قصائد (شجرتين ، غريب السويس ، شنطة سفر) حيث يزاوج الشاعر بين القصائد الدافئة الهامسة وبين القصائد الساخرة ليجمع بين خطابين بينهما تقف هوة الزمن الذي استدار عليه: (يا شوكة في سكة الظالم .. وضحكة في سكة المظاليم .. بوصيك ياد يا إبراهيم .. لبعد ما اموت .. لا تنساني .. ولا تكتبش غير نفسك .. ) ق إليه مشروعية هذه الذات مبنية على الاتساق (ولا تكتبش غير نفسك) وهي طوال الديوان تتمسك بتاريخها المضيء وتتمرد على واقع مستفز بلغة خاصة . *صورة الوطن بين الحضور والغياب للوطن فى قصائد مأمون كامل حضوره الخاص فهو الأنثى والأم والحبيبة فى قصيدة ( وعيزانى اقول يامه ) وهو المكان بعبقه واندثاره فى ( شجرتين ) وهو كل ملامح التشظى والهوان فى ( دستور ) ومين يقدر ينسينى هوان هجرك ونكرانك وكنّة ايدى بالحسرة وأنا اللى اديتك امبارح وعايش يومى على شانك وشايل لك أمل بكرة وتدينى ما تدينى ما بهتمش وأنا اللى صبرت على جرحك ولميته وجرحى لسه ما اتلمش [ وعيزانى أقول يامه ] إن الأفعال الصادرة عن الذات فى ذلك المقطع تشى بحضورها ، على الرغم من المحاولات الدؤبة لتهميشها وتغييبها فنقرأ [ اديتك ، عايش ، شايل ،ما تدينى ، صبرت ] فالحياة مرهونة ، لمعايشة الهموم اليومية فى تواترها . مما يجعل من قدرته على نسيان هجرها ونكرانها ـ له ـ أمر عسير عليه وبالتالى يتبدى تسلحه بالأمل مبرر تماما وعدم اهتمامه بحالة التهميش المتعمدة له لا يقابلها سوى الصبر والفعل الوحيد موكل الصادر عنها ( ما تدينى ) ومن ثم يختتم المقطع بمفارقة لاذعة ودالة ـ بعد كل ماسبق ـ من تهميش وهجران وانكار لحضوره بتساؤل دال ( وعيزانى أقول يامه ؟؟؟؟؟؟؟؟) وتأتى جملة ( وكنة ايدى بالحسرة ) فى صدر المقطع مؤثرة للغاية ، حيث تجسدت الحسرة بشكل مادى جعل من اليد ترتد مهزومة بحسرتها ، ومفردة ( كنّة ) عميقة الى درجة أنها أباحت بأحوال وأجواء النفس ومهدت لحالة الفروسية التى تلبست الذات والتى تقف فى مقابل كل أفعال التغييب الذى يمارس ضدها ، كما سنلاحظ فى المقاطع التالية عن المرتزقة والآفاقين الذين سيطروا على الأم وفرضوا حضورهم السلبى ، ونهبوا كل ما هو جميل ، خيرها ، ورحيق محبتها ، واجتهدوا فى تغييب الذات الشاعرة . إن الصوت الزاعق فى مواطن عديدة فى قصائد الديوان مبعثه ممارسة التغييب للذات الدالة على جموع المغيبين رغما عنهم . إن الشاعر يمارس فرض حضوره بنبرة عالية لتناسب طيور الظلام ، وليقف الصوت الشعرى فارسا وحيدا فى المعركة ، قادرا على فضح ذلك الحضور الفج لهم وألاقيكى فتحتى ودانك الطاهرة لمين قالوا ومين زادوا ومين صنف ف أولادك ما بين آمنوا وبين حادوا نستى طيب العشرة وتاهت ريحة امبارح وضاع من سكتى بكرة وتاه الحلم ف الزحمة وعيزانى أقول يا ثمة تبعثر لمفردات المشهد الشعرى فى ذلك المقطع ، ضياع الغد / الأمل / المستقبل / الحلم / الحضور المأمول للذات ، لأنه ثمة كائنات تلقى جزافا بالتهم الجاهزة ، وتتذرع بالدين ، وإسقاط هوية الإنسان بين الإيمان والإلحاد ، وبين حب الوطن وخيانته ؛ لذلك تتوه رائحة الآمان ممثلة فى الأمس كما يتوه الحلم وسط لغط الزحام زالبعثر . نلاحظ بأن الشاعر يبنى مشهدا شعريا لا نراه بصريا ، وان كنا نشتم رائحته فى مفردات لك المشهد . والشاعر يتميز بقدراته على تصوير أحوال ضياع الذات وعدم تحققها عبر مجموعة تنوعيات وترية تعزف نفس النغم ، وتُسقط الأقنعة قناعا قناعا عن ، كاشفا مقدار العرى الذى أصاب الوطن ومبررات الذات وكونها تشعر بالانتماء ؛ أم توخزها مرارة السؤال الاستنكارى ( وعيزانى أقول يامـه ) وجعله مفتاحا للقصيدة ، ومدخلا للبوح ، وروحا جديدة تساهم فى خلق هوية الوطن ، وانتمائنا لهذا المفهوم فى ظل عوامل القهر التى تُمارس ضد الذات الشاعرة . وكل اللى أنا عايزه أعيش وياكى يوم فى أمان لغاية ما حين موتى ولاتموتى أحلام بسيطة ومشروعة ، ولكن امكانية أن يتنفس الحلم فى حاضر القصيدة تراجع تماما . وتعددت من هنا الأسئلة وتواترت فى معظم قصائد الديوان . أسئلة تنكئ بقومة مواطن الجراح فى جسد الوطن . ثمة اعتماد مباشر على تشكيل الأبعاد السياسية ، فى اطار ساخر وفنتازى ، ينضح بشاعرية متفجرة بالغضب كما ذكرنا فى بدأ الدراسة ، وناه متجليا فى قصيدة دستور ، وادى وحايد ، احسبيها .وللشعر السياسى قدرة على الغوص فى تجاويف الذات الجمعية ومداعبة جراحها العامة ، وتصنيع مادة شعرية تنقل تصورا خاصا ـ غاضبا وساخرا هنا ـ لعوامل القهر والتهميش ، وملامح الوطن التى شوهتها خفافيش الظلام . الأوله عمرنا تايهين ورا الحكام والتانيه كل الملل كانت لنا حكام والتالته يا ربنا يا رب كل الكون ترزقنا من نفسنا حاكم يكون مأمون يقضيله مدة ويقرف مننا ويمشى ويجينا بعده اللى يحفظ عهدنا ويصون يعتمد الشاعر على تقنية الموال ، ويستغله فى خلق حالة من استقرار الأوضاع أم حالة الاستنامة الطويلة عبر التاريخ ؛ وعلى توظيف التراث العامى فى الشعر ، فى فى اعتماده على الأوله ... والتانية ... والتالتة . ولا تخلو قصيدة [ دستور ] من روح المداعبة فى توظيف الشاعر لاسمه ، بينما البعد الدلالى يتكئ على صفة الأمانة [ ترزقنا من نفسنا حاكم يكون مأمون / يقضيه مدة ويقرف مننا ويمشى ] إوعى تفتكرى انى ح أفضل راضى بالحرمان رغيف او عى تفتكرى انى ح أفضل راضى بالصبر الغموس صدقينى مش راح أفضل سايب اللى يدوس يدوس يحفل الديوان بعدة نغمات تعيد تشكيل ملامح الوطن ، كما تناقش وتسخر وتتفجر بكم كبير بالغضب . كل ذلك يأتى فى ثوب قشيب لا يحفل بانشاء صورة شعرية كلاسيكية ، بقدر ما يعتمد على طرائق الشاعر القوال فى السير الشعبية والذى يرتبط ميزان القول لديه فى الخط الساخن والواصل بينه وبين مستمعيه ، ولا يمكن أن ننكر أنه ثمة قارئ / مستمع لمعزوفات الشاعر مأمون كامل ، فاض به الكيل بعد تغنيه فى كل محفل بقصيدة الأرض والانتماء الشهيرة شندويل وهى درة أعمال الشاعر مع قصيدة ولا تموتى التى تكمل تشكيل اللوحة الخالدة عن وطنه وأرضه وروحه وانتمائها وضياعها وتبعثر أحلامها وسط زحام المطامع وأهواء السلطة ، والقهر والشاعر تمكن من توليد حالة من الانتماء الجديد قائمة على كشف المستور ومواجهة الليل والسعى وراء الحلم والامساك بتلابيبه ، وصيغة الغضب هى الخط الساخن بينه وبين قارئه . والشاعر تمكن من خلق منطق للصورة الشعرية التى أفادت من الشاعر القوال ومن منطق القروى العارف بخفايا وتجاويف الأشياء ، الذى يسبر أغوار الأمور ويقوم بافتضاحها واختراق التابو المتمثل فى البعد السياسى المسكوت عنه ، أو الذى عاش زمنا طويلا متسربلا بالرمز ومتخفيا وراء أقنعة الأسطورة وغموض الصورة . إن الشاعر فى هذا الديوان تمكن من اختراق الغامض الرمزى وجعله اطارا سلفيا واستحضار التراثى فى صيغطة حداثية ومتميزة وتحمل بصمة الشاعر وتميزه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش 1 ـ أحمد النحال ـ ديوان المنفى ـ مطبوعات اقليم شرق الدلتا الثقافى 2007 2 ـ مأمون كامل ـ ديوان ولا تموتى ـ الناشر مطبوعات كتاب الأجيال 20073 ـ العربى عبدالوهاب ـ دراسة عامية مفردات الحياة ـ كتاب الأبحاث الثانى ـ مؤتمر الشرقية الأدبى 2002