جماليات البوح عند الشاعرة رهف المبارك/بقلم عبد الرزاق الدرباس

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : عبد الرزاق الدرباس | المصدر : belahaudood.org

جماليات البوح عند الشاعرة رهف المبارك/بقلم عبد الرزاق الدرباس

دراسة نقدية لديوان ( عندما يشف اللازورد) للشاعرة الإماراتية رهف المبارك
إعداد الشاعر عبد الرزاق الدرباس

توطئـة : حين يتصدى شخص لتحليل و دراسة مجموعة شعرية فإن ذلك _ في تقديري_ من عزم الأمور وذلك لأسباب كثيرة منها أن الشعر في المحصلة هو خلجات قلب و فلذات كبد و نبضات أحاسيس يمكن أن تدخل في الدائرة الخاصة للشاعر لولا أنه أخرجه منها للناس بطريقة النشر ، و لأني _الناقد_ شاعر في الأصل لي في كفة الشعر أكثر مما لي في كفة النقد ، و لأن النقد يبقى انطباعا غير ملزم
و ليس له سلطة الإجبار فهو كالمجالس التشريعية في عالمنا العربي ، و أخيرا لأن الديوان المدروس لصوت أنثوي يجب التعامل معه و فق مبدأ ( رفقا بالقوارير ) فأنا أضعف من أن أتسلل إلى عالم الشاعرة و مكنونات نفسها التي حرضتها على البوح بهذا الديوان ، و حسبي في دراستي أنني أتعامل مع نتائج الحالة النفسية التي كانت وراء النصوص الشعرية ، فقط دون الخوض في البواعث و التفاصيل .
لقد سيق هذا الديوان في طريقي بأسلوب فيه من الاستفزاز الشعري الجميل ما جعلني راغبا فيه راهبا منه و لكني تمثلت قول الفتى البكري طرفة بن العبد حين قال :
إذا القومُ قالوا : من فتىً ؟ خلت أنني عنيتُ ، فلم أكسلْ و لم أتبلد ِ
و الشاعرة رهف المبارك لها في الكتابة عالم خاص فهي تأخذ من اللغة ما تريد دونما ترف ، وتستخدم من الألفاظ ما يعبر عما في نفسها دون تكلف فتنساب عبارتها كالينبوع الدافق طوعا دون عنف أو آلات قسرية ، و يتميز نتاجها الشعري بالغزارة والشفافية الصادقة و قد صدر لها في الشعر:
- إطلالة 2001 ، شواطئ الفجر 2004 ، لن أنطفئ 2005 ، أين قلبي 2009. و ديوانها الحالي
( عندما يشف اللازورد ) الصادر عن دائرة الثقافة و الإعلام في الشارقة 2009م .
كما لها في مجال شعر الطفل العربي :
حديقة الألحان 2003 ، أوتار الشمس 2004 ، زايد حبيب الأطفال 2009 .
و شهادة على جودة إبداعها فقد نالت عدة جوائز أدبية مرموقة منها جائزة أنجال هزاع بن زايد في
أبو ظبي عن شعر الطفل ، وجائزة إبداع المرأة العربية في الشارقة ، و جائزة أفضل ديوان مطبوع للأطفال في معرض الشارقة الدولي للكتاب .
و قد اطلعت على تجربتها في الكتابة للطفل و استضفتها ذات لقاء في اتحاد كتاب و أدباء الإمارات في الشارقة حينما كنت مشرفا على نادي الشعر فيه ، و ها أنا اليوم أقلب مساحات لازوردها الشفاف بزورق الناقد الذي لا يملك إذن دخول إلا لمسافة آمنة لا تبتعد عن الشاطئ ، و سأمرعلى بعض المكونات الفنية للقصيدة مؤثرا عدم الانقياد لمذهب نقدي دون آخر بل جاعلا من التكامل النقدي بين الشكل و المضمون غاية دراستي لهذا الديوان.
1 _ العنـوان : اللون اللازوردي محبب للنفس ،هادئ فيه الحكمة و الجاذبية الناعمة يريك مكنونات داخله بشفافية صريحة ، فالعنوان شاعري أنثوي موفق ، لكن حالته راهنة ، فكلمة ( عندما ) توحي بزمن راهن و حالة غير ثابتة ، و يمكننا البناء على أساس حالة كتابة الديوان أنها كانت مودة و شفافية و صدق مع النفس مع طغيان المشاعر الدافئة الحالمة .
2 _ الإهـداء : ( إلى سموه ، وشوشة أساوري و بوح اللازورد ) إهداء مكثف و واسع الأفق حيث هاء الغائب تفتح مجالا لعدة تأويلات ذكورية ( أخ ، أب ، زوج ، ابن ... ) إلا أن همس الأساور
و بوح اللازورد ينم عن شخص آخر قد يكون حبيبا موجودا أو منتظرا لما يأتِ بعد .
3 _ الصـورة الفنيـة : تنحو الشاعرة منحى الصورة الكلية ( اللوحة ) حيث لا يشبع نهمها الوجداني صورة جزئية أو تشبيه مدرسي ، فنراها تستطرد في و مضات عناصر اللوحة و مكوناتها المادية و المعنوية في تشخيص و تجسيم جميلين كقولها :
من ليلتين أدبتني قلقا / و نثرت سهدا بن أجفاني
و جعلت قلبي طائرا وجلا / علقت جوانحه بأغصاني
و الشوك قد أدماه فاحترقت / من نزعة الآلام عينان ِ ص 21
فالسهد المعنوي صار ماديا منثورا كبذور خريفية والقلب تحول طائرا حزينا عالقا في شرك طبيعي هو الأغصان ، و هذه اللوحة بما تمثله من عناصر لونية ( الدم ، الليل ) و حركية ( نثرت ، طائر )
و صوتية مؤلمة ( احتراق ، آلام ، نزع ) هي انعكاس حالة وجد شعوري يعرفه المحبون لكن بصمت
واحتساب ، أما الشعراء فيختلفون عن غيرهم بالقدرة على التعبير والمجاهرة بما يعتمل في النفس.
و من الصور الكلية الموفقة قولها في موضع آخر :
كلما ابتلت شفاهي / بعد صومي / بحروفك / أو مضى القلب و ضمتني / بتحنان طيوفك / ثرثر الشوق بعيني / و غنتني / أهازيج سيوفك . ص 29
فالحروف ماء قراح بلل الشفاه الظامئة لتفطر بعد الصوم ، و الخيالات تضم الغائب كأم رؤوم تفتح ذراعيها بعد شوق ، و القلب يومض كالمصباح ، و الشوق رجل ثرثارأما أهازيج السيوف فهي جارية حسناء تغني قبل النوم لمليكها السعيد على أمل إكمال شهرزاد للحكاية في ليلة قادمة ، و قد استطاعت الشاعرة تشكيل هذه اللوحة و نسج خيوطها المتداخلة في إيقاع موسيقي راق ٍ على تكرار ( فاعلاتن ) كرقص حوافر حصان على أرض صلبة تتكرر مع مفردة ( كلما ) .
و من ومضات الصورة الشعرية السريعة نجد قولها:
و الحنايا خاويات ذابلات كزهور في جليد . ص28
عطر صيفي أربكني و تغلغل دون استئذان / يغزو الأعماق / كخريف فرنسا لا ينفضني / تساقط آلافا أحزاني / مثل الأوراق . ص34
ذكريات واجفات / سابحات في سكون / كل ليل أرتديها عقد أحلام ثمين . ص11
و هكذا تتنوع الصورة تشكيلا و إيحاءً و محسوسا ماديا في مدرك معنويّ ينقلنا إلى عالم الصورة الناضجة في معيار البلاغة قديمها و جد يدها .
4 _ عبـق التراث : للتراث في الشعر إشراقات متجددة ، حيث أن المبدع يمثل جيلا واصلا بين الماضي و المستقبل لذا نراه يمد يدا ليستقي بها تراث السلف ثم يتمثله و يسلمه باليد الأخرى إلى الخلف ، فتستمر دورة الحياة مع الحفظ على الماضي و تجديده عبر الأيام ، و الشاعرة رهف المبارك كانت خير من يجسد هذه الفكرة ، فهي ابنة الإمارات البلد العربي المسلم ، و بنت الرمال و البحر و النخيل ، و بنت رأس الخيمة بما تختص به من عراقة الجذور و عروبة الأرومة و استمرار ذلك في مجرى الزمن ، و لا غرو من أن نجد كنوزا من المفردات التراثية مبثوثة في حنايا الديوان مثل :
الكنز ص9، زمزم و آدم ص32 ، ذكريات جدتي تسامر الحناء في العريش ص51، الكحل ص55، فلك الحكايا كالبخور ص59 ، و غيرها ......
حيث نجد هذه المفردات من الماضي السحيق أو القريب إضافة إلى التصاق مفردات الشاعرة بالبيئة الجغرافية و مكونات المشهد الطبيعي للإمارات و خير ما يمثل ذلك هذا المقطع من نص يا سيدي:
انظر إلى نخيلنا الحسان / و اسمع حديث الشاطئ الولهان / و لوّح الشراع من جديد / فقاربت سفينة الحبيب أن تعود / يقودها الحنين / لأعين الظباء . ص50
فالنخل و الشاطئ و الشراع و السفن و الظباء، مفردات خليجية بامتياز يكثر تداولها ، و الجديد في ذلك أن الشاعرة استطاعت توظيف هذه المفردات التراثية و المحلية لخدمة أنفاسها الشعرية و بوح شجوها فجاءت من ضمن النسيج اللغوي دون نفور أو تكلف مقصود .
5 _ القالب الشـعري و الفـني : بعد المرور على الديوان من عتبته الأولى إلى الأخيرة بإمكاننا وضع الشاعرة في مجموعة شعراء القصيدة البيتية، بما تمثله من نهج الخليل بن أحمد في أوزان الشعر ، و هي إن بدت كلاسيكية الشكل الفني إلا أنها تمور بالانسيابية و الوضوح و الشفافية المعاصرة ، دون نفور أو صعوبة ، و في الإمارات تجارب لشعراء الجيل الجديد تنحو هذا النحو بنجاح و منهم إضافة إلى رهف المبارك : طلال سالم الصابري ، سعيد المنصوري ، زينب عامر ، عائشة الشامسي ( أصايل)
و غيرهم ، و الشعر بهذه القوالب الأصيلة دليل مقدرة الشاعرية و رسوخ الذائقة الموسيقية الإيقاعية التي لولاها ما عرفنا الشعر من النثر و لا الهجين من الأصيل ، في زمن انفلات القيود و استسهال بعضهم لحائط الشعر بغية القفز عليه للتجريب و النثرية المفرطة . وإذا كان المبدع حرا في اختيار الشكل الذي يريحه في التعبير فهو ليس حرا بالتسمية فليس من حقة أن يقول للبحر رملا و لا للنخلة شجرة جوز رغم أن كلتيهما شجرة مثمرة.
و من براعة الاستهلال في نصوصها العمودية نجد :
ذكراك لن تمحى و لن تخبـو / و وصالكم يا سيدي صعبُ
إن جدت ِ الأقــدارُ في تلفي / فحنيـن روحي مالـه ذنبُ ص17
فالأذن جد مرتاحة للموسيقى و الكلمات ، و من السهل الممتنع في ذلك نجد :
لا تسـتفـزّ مشاعري أرجوكَ اتركهـا هناكْ
عقدٌ من السنوات يسـلمها الرجاءُ إلى الهلاكْ
أنا من سحيق الكون جئتكَ و ارتميتُ على ثراكْ . ص 37
ففي البيت الأول فقط جمعت الشاعرة النهي ( لا تستفز ) و المضارع ( أرجوك ) و الأمر ( اتركها ) في توليفة ناجحة عن قصد أو بعفوية ، و هذا التمكن من ناصية العروض هو في رأيي أول صفات التألق الشعري ، و هنا إيجابية واضحة تحسب للشاعرة .
لكننا نجد في الديوان بعض الانزياح إلى قصيدة التفعيلة ،و وذلك ليس بشجاعة القصيدة العمودية ، فهي تبقى في تجربتها التفعيلية متكئة على القافية في كل سطر ، كطفلة تخاف التيار الجارف ، فتلعب في ماء النهر بقدميها ممسكة بثياب أمها كملجأ أمان و شجرة ثبات ، و من ذلك قولها :
من حسنها تخالها أميرة / في قصرها الوضاء / و لم تكن لجدتي مفارش وثيرة / و لم يكن مثل اسمها الشريف / بمجلس السمار / يزين النساء . ص52
فبرغم التفعيلة الشكلية ما استطاعت الشاعرة التخلي عن الروي ( أميرة ، وثيرة ) ( الوضاء ، النساء ) و كلنا يعرف الفضاء الذي توفره قصيدة التفعيلة من الحرية و ابتعاد القوافي المتماثلة ، و بموازنة القالبين الفنيين نجد القصيدة الخليلية أكثر في الكمية ، و أنضج في الكيفية ، أقول هذا مع الإشارة إلى أن الشاعرة لم تنزلق قدمها إلى متاهات النثرية و الخطابية المجلجلة و العقد النفسية التي يحاول معاقرو ما يدعى بقصيدة النثر أن يلقوها علينا دون ذنب اقترفناه ، و لم تصفع القارئ بهلوسات رصف الكلمات دون طائل و تحميل النص أكثر ما يحتمل .
6 _ قيـود وفضـاءات : من الظواهر اللافتة في الديوان و جود الرويّ الساكن المقيد ، و ولع الشاعرة بهدوء القافية و تسكينها ، ما يجعلنا نتساءل هل الشاعرة في نفسيتها تحب السكون و الهدوء و لا تنساق وراء الضجة و الصخب و الحركة ؟؟؟ أم أن هناك خفايا نفسية و اجتماعية مؤثرة يضيق المجال عن الخوض فيها ؟؟؟أم أن ذلك التسكين جاء عفوا ؟؟ فالمجموعة تضم في طياتها خمسة عشر نصا ، نجد منها قرابة العشر قصائد مقيدة الرويّ ، و ثلاثا مطلقة بالضم و الكسر ، و اثنتان مختلطتان بين المطلق و المقيد ، حيث زاوجت الشاعرة الحالتين في طيات النص و من ذلك المقيد قولها :
يا من رأيتك في مرايا الشعر تبدو كالملاكْ
متوضئا بالنور منطلـقا على ظهر السماك . ص7
و رغم القيود الساكنة فالأذن ترتاح لذلك في نهاية جملة شعرية موسيقة مطمئنة النهاية و كأن السامع يقول قفي هنا ، و من الأمثلة على الرويّ المطلق قولها :
روحي التي ارتحلت لكوكبه / عادت و ما في ثغرها خبرُ
ستقول لي : لا تقلقي فغـدا / يأتيكِ بالأشــعار يعتـذرُ
و يصوغ في عينيكِ أغنية ً / ما صاغهـا من قبلـه بشرُ . ص23
فالقافية هنا تبدو متمكنة خاتمة لنسيج البيت نابتة من صلبه و بينها و بين العروض و الضرب و الحشو علاقة وثيقة كمجنون بني عامر حين أثبت محبته لليلى فقال :
لقد ثبتت في القلب منك ِ مودة ٌ كما ثبتت في الراحتين الأصابع ُ .
7 _ ظواهر لا يمكن تجاهلها : من خلال قراءة متأنية للديوان تستوقفنا ظواهر صارخة لا يمكن أن نفوتها دون إشارة لها و من ذلك :
* كثرة النداء : إذ ما تنفك الشاعرة تنادي بعفوية في القصائد و أحيانا في كل بيت ، حتى العناوين فيها ثلاثة بأسلوب النداء ( يا أميري ، أواه يا قمر ، يا سيدي ) و لعل ذلك بسبب إحساس الشاعرة بالغربة
والتغرب النفسي معا ، فتحاول النداء للفت النظر إليها من المحيطين فيها و هم يغلقون آذانهم ...
* القمر : ذلك الكوكب المحبب للندامى و العشاق و التائيهن و المرتحلين في فلوات الليل ، نجده عند الشاعرة هلالا و بدرا ، ضاحكا و عابسا، سائلا و مجيبا ، مناد يا و منادى عليه .
* الرقة و الرقي : في البوح و العواطف ، حيث يتعلم قاسي القلب كيف يكون مطواعا لقلبه لين الجانب ، فالديوان وجداني بامتياز حتى عندما خرجت من شرنقة ذاتها إلى الحب الإلهي في قصيدة
( مطاف ) ساقتنا بسهولة إلى شعاب مكة و نسائم الحجاز المضمخة بذكر سيد الخلق محمد صلى الله عليه و سلم ، و كل القصائد تدور حول ذات الشاعرة كأجرام تدور في فضاء محدد ، إذ نلاحظ الذاتية طاغية إلا في نص واحد هو ( صنعاء و الهوى ) حيث جعلت الشاعرة من سلمى رمزا للفتاة العربية المرحة البريئة التي ترسل ترانيم مزمارها للكون علانية ، فعاقبها المجتمع بسفح نجيعها الطاهر على رمال الظلام و الانغلاق النسائي المكبوت فكريا و عاطفيا و كأن المرأة مخلوق مجرد من إنسانيته خلق ليؤمر و يطيع فقط ، وهنا عالجت الشاعرة مشكلة موضوعية خارج إطار الذات ، علما أن الشاعرة ليست بعيدة عن سلمى ، إذ جعلت منها ستارا لصاحبات النشيد الحر من المحيط إلى الخليج .
* الجرأة في البوح : حيث تنبع جرأتها من ثقتها بنفسها و صدق مشاعرها ، فتقف أمام ستائر المحبة لا خلفها، فالصراحة راحة ، و قد نقل تاريخنا الأدبي صورة المرأة التي تحِب و تصرّح بذلك مغايرة لما عرف عن المرأة أنها تحَب و تصمت ، و بدل أن تكون نون النسوة و تاء التأنيث معشوقة تلهم الرجال كلماتهم كانت في الديوان عاشقة تشكو لواعج روحها على الورق عله يصل ، و الشاعرة رهف المبارك وقفت في الزمرة الثانية ، حيث ضاق الصدر بما يكنه من وجد فباح كلاما مباحا عذبا رقيقا حشيما فيه خفر الكبرياء ، و حرارة المشاعر ، كشعر ولادة بنت المستكفي و رغدها الأندلسي ، و سكينة بنت الحسين و نعيمها الحجازي .
* تشـابه المدخـل و المخـرج : ففي عتبة الولوج الأولى كان العنوان (دام السرور) و النص متوسط الطول عمودي القالب من مجزوء بحر الكامل ، و رويّه الدال المقيدة إذ تقول :
قسمات وجهكَ يا أمير تنمّ عن عشـق ٍ فريدْ . 7ص
و في العتبة الأخيرة كان الخروج بعنوان ( غوايات ) على ذات القالب و الوزن و الروي ، فتقول :
ما عـاد في شفتيّ لحنٌ أيها الملك السـعيدْ . ص57
و أغلب الظن أن القصيدتين كانتا نصا واحدا فقسمته الشاعرة نصفين كجناحين لجسم بلبلها، أو جفنين لعين بصيرتها ، أو رئتين لاحتواء خلجات قلبها ، أو شيئين لا نعرفها لشيء لا ندركه .
7 _ ليتهـا لم تفعـل: يبقى الشاعر إنسانا ، و يبقى الشعر قابلا للأخذ و الرد ، أما اللغة فكانت
و مازالت بحرا يمكننا السباحة فيه بمكان دون آخر ، و قد يخذلنا عمق المياه أو اضطراب الموج ،
ومن الوفاء لرسالتنا الموضوعية و مسؤوليتنا النقدية التي تحتم علينا عدم التصفيق دائما ، فإننا نسلط حزمة ضوء على التألق الناصع و بنفس المسؤولية والروح نفتح العين على بعض الهفوات وهي قليلة ،
لا تشكل ظاهرة لافتة ، و سأبين بعضها لعموم النفع لا لمهارة التصيد ، فإشراقات الديوان تغطي بعض الهنات القليلة و من ذلك :
* في التراكيب الشعرية : ما كنت عن أفياء قصرك ، عن حدائقه أحيد . ص8
فعبارة ( عن حدائقه ) لم تضف جديدا بعد ( عن أفياء ) و قد جاءت حشوا لإتمام الوزن العروضي فقط.
و مثل ذلك قولها : فيا مزمار أخبرني / أيا مزمار / بتلك الخيمة السوداء في الصحراء ..... . ص46
حيث جاءت ( أيا مزمار ) الثانية تكرارا غير مضيف لجديد.
* في اللغة و النحو : مخالفة قواعد جملة جواب الشرط في قولها :
لولا محيط حفّ بالأوجال والخطب الوبيل ......... إلخ . ص15
فقد جاءت جملة الشرط غير الجازم مفككة و خالية من اقتران الجواب باللام ، بل و من دون جواب واضح أبدا و من ذلك :
متكاتفين على صبابته / نمضي كما يحلو لنا الدربُ . ص18
فالدرب مؤنثة ، و كان الأصح أن تقول : تحلو لنا الدربُ . و من الوهن الشعري قولها :
أما النوى ما خلت ألمحه / بل ما وعى معناه ذا القلبُ . ص19
فإدراك المعنى أصعب من الرؤية و اللمح ، و ما بعد بل يجب أن يكون أصعب وأقوى مما قبلها ، ثم إن اسم الإشارة هنا لم يكن ضروريا إلا لترميم موسيقى البيت ، و كان بإمكانها مثلا أن تقول :
أما النوى ما خلت ألمحهُ أعيا تعرّفَ سرّهُ القلب ُ . و من ذلك أيضا قولها :

انظر إلى نخيلنا الحسان . ص50
فالصحيح أن تقول : نخيلنا الحسن ، لأن اسم الجنس المجموع( النخيل ) يأتي مذكرا ، و كان يمكنها أن تقول مثلا : انظر إلى نخلاتنا الحسان ، دون أن تخل بالمعنى و لا بالإيقاع الموسيقى .
تلك كانت هنات بسيطة ، لكن النقد الحقيقي هو الذي ينشد الأجمل و يأخذ بيد المبدع من جميل إلى أجمل و من أجمل إلى الأجمل ، مع اعترافنا بأن بلوغ الكمال الجمالي صعب و نسبي وانطباعي .
و أخيـرا : هو ذا اللازورد الشفاف الذي حركت موجه الشاعرة المرهفة المباركة و قلبنا أصدافه
و لآليه في غربالنا النقدي المتواضع ، ليكون سطرا من وجد، و بوحا من شفافية المودة الدافئة ، و تمثالا من الأناقة في زمن القبح الذي تفشى في وسطنا الأدبي و النقدي كالوباء .
هو ذا الأزرق الأرضي الممتد حتى ينتهي الأفق ، فيلتقي بالأزرق العلوي ويتكامل الأزرقان في نبضة قلب و همس شفاه و صدق مشاعر و رقي ذوق وأحاسيس ، حتي يصل إلى زوايا مظلمة فيتغشاها لترتد مبصرة منيرة كعيني يعقوب عليه السلام حين لامسهما قميص يوسف الحقيقي الأصيل لا القميص المزور الذي جيء به و عليه كاذب الدم .
ديوان يستحق القراءة على أمل أن يأتي إخوته خلفه ليشكلوا قافلة شعرية إماراتية عربية ترقى بالشكل
و المضمون والأحاسيس ، علها تجد جوابا لسؤال الشاعرة حين تناجيه قائلة:
سؤال لديّ بعمق الأنين / و طول الحنين و عرض الضنى
أتحسب في الأرض لي منزلا / وعشا وصدرا وبدرا سوى ( ... ) ؟؟؟؟
و أنت صباح الهنـاء الذي / تقـود إليه جسـور العنا
لذيذٌ و مرٌّ ، عذابٌ و عذبٌ / سموم المنايا و شهد المنى . ص42
و نحن في الختام نتمنى لو أتاها جوابه كبيت الشريف الرضي الذي ردّ على من سألته نفس السؤال
تقريبا :
يا ظبيـة البان ترعى في خمائلـهِ / ليهنك ِ اليومَ أن القلبَ مرعاكِ
أنت ِ العذابُ لقـلبي و الهناءُ لـهُ / فما أمرّك ِ في قلبي و أحلاك ِ !! .

*** تمـت بعون الله ***
الشارقة 5/3/2010 م .

مصادر البحث :

1 – دواوين الشعراء طرفة بن العبد البكري، قيس بن الملوح ، الشريف الرضي ،
دار كرم دمشق 1985.
2 - تطور الشعر الحديث بمنطقة الخليج ، ماهر حسن فهمي ، منشورات دار تهامة 2006
3 - عندما يشف اللازورد ، رهف المبارك ، منشورات دائرة الثقافة و الإعلام في الشارقة 2009
4 - المدخل إلى الفضاء الشعري في الإمارات ، عبد الرزاق الدرباس ، منشورات دائرة الثقافة
و الإعلام في الشارقة ، 2009م
5 - المدخل إلى النقد الحديث ، د. محمد غنيمي هلال ، دار العودة ، بيروت 2004