ح 255 قال المصنف : بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ . وَقَالَ الْمِسْوَرُ : لا يَغْسِلُ رَأْسَهُ . قَالَ : فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه . فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ , وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ . فَسَلَّمْت عَلَيْهِ . فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ , أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ , يَسْأَلُكَ : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ , فَطَأْطَأَهُ , حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ . ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ : اُصْبُبْ , فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ . ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ , فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ . ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ. وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ الْمِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ : لا أُمَارِيكَ أَبَداً . فيه مسائل : 1= قول المصنف : " بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ " أي : بيان حُكم الغُسل للمحرم – رجلا كان أو امرأة - ، والمراد به : الاغتسال من أجل التبرّد أو النظافة ، أما الغُسل الواجب فغير مُراد هنا ؛ لأنه ليس مَحلّ خِلاف . قال ابن قدامة : وأجمع أهل العلم على أن الْمُحْرِم يغتسل من الجنابة . وقال النووي : اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز غَسْل الْمُحْرِم رَأْسه وَجَسَده مِنْ الْجَنَابَة ، بَلْ هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ . اهـ. والمصنف رحمه الله قال : " بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ " وأوْرَد حديثا في غَسْل الرأس ، وهذا من باب الاستدلال بالأوْلَى ، فإذا جاز للمحرِم غَسْل رأسه فبقية جسده من باب أوْلَى ؛ لأن الرأس مَحَلّ التلبيد ، والْمُحْرِم ممنوع من أخذ شيء مِن شَعْرِه . 2= هذا الحديث مِن حديث أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيّ رضي الله عنه . 3= المسور وابن عباس من صغار الصحابة . وعبد الله بن حُنين تابعي . 4= الأبواء : موضع بين مكة والمدينة . قال القاضي عياض : قرية من عمل الفرع ، مِن عَمل المدينة ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا . وقال ابن الأثير : جبل بين مكة والمدينة ، وعنده بلد يُنْسَبُ إليه . 5= اخْتُلِف في غسل الرأس بالنسبة للمحرِم إذا كان من أجل التبرّد أو النظافة ، وذلك لأن الغسل من الترفّـه . فكرهه بعض أهل العلم ، وأجازه آخرون بلا كراهة . قال ابن عبد البر : واخْتَلف أهل العلم في غَسل المحرم رأسه بالماء ؛ فكان مالك لا يُجيز ذلك للمحرِم ويكرهه له ، ومِن حُجته أن عبد الله بن عمر كان لا يَغسل رأسه وهو محرم إلاَّ مِن احتلام . ولعل هذا محمول على الغَسْل الزائد عن مُجرّد صبّ الماء ، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يغتسل لِدُخول مكة . وَحَكَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُحْرِمَ لا يَتَدَلَّكُ فِي غُسْلِ دُخُولِ مَكَّةَ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَلا يَغْسِلُ رَأْسَهُ إِلاَّ بِالْمَاءِ وَحْدَهُ يَصُبُّ صَبًّا ، وَلا يُغَيِّبُ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ . نقله الباجي . وقال النووي : وَأَمَّا غَسْله تَبَرُّدًا فمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور : جَوَازه بِلا كَرَاهَة . اهـ . ومن العلماء من فرّق بين مُجرّد غسل الرأس ، وبين غسله بمادة أخرى . قال ابن عبد البر : وأما غسل المحرم رأسه بالخطمي أو السِّدْر فالفقهاء على كراهية ذلك . وقال أيضا : واحتج بعض المتأخرين على جواز غسل المحرم رأسه بالخطمي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمحرِم الميت أن يغسلوه بماء وسدر ، وأمرهم أن يُجنبوه ما يجتنب المحرم ؛ فَدَلّ ذلك على إباحة غسل ر أس المحرم بالسدر ، قال : والخطمي في معناه . اهـ . وقال ابن قدامة : ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما ، لِمَا فيه من إزالة الشعث والتعرّض لقلع الشعر . اهـ . وقال النووي : وَيَجُوز عِنْدنَا غَسْل رَأْسه بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمِيّ ، بِحَيْثُ لا يَنْتِف شَعْرًا ، فَلا فِدْيَة عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْتِف شَعْرًا . اهـ . وقال أيضا : دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه جائز أيضا عندنا ، وبه قال الجمهور . اهـ . وفي حُكم ذلك استعمال المنظِّفات الحديثة ، مثل الصابون ، ما لم يكن مُعطَّرًا ، ولا يُقصد بالمعطّر هنا مُجرّد وُجود رائحة طيبة ، بل يكون العِطر مقصودا فيه ، وهذا يُعرف من معرفة ثمن الصابون ، فالذي جُعِل العطر فيه مقصدا يكون سعره مرتفعا ، بِخلاف ما وُجِدت به رائحة طيبة ؛ لأن هذا الأخير لا يُقصد به التعطّر بِقَدْر ما يُقصد به النظافة . 6= الاحتكام إلى الأعلم ، والرجوع إلى النصّ عند الاختلاف . قال النووي في فوائد هذا الحديث : الرُّجُوع إِلَى النَّصّ عِنْد الاخْتِلاف وَتَرْك الاجْتِهَاد وَالْقِيَاس عِنْد وُجُود النَّصّ . 7= قَبول خبر الواحد في العقائد والأحكام ، وهذا مما لا خِلاف فيه بين الصحابة رضي الله عنهم . قال النووي في فوائد هذا الحديث : قَبُول خَبَر الْوَاحِد ، وَأَنَّ قَبُوله كَانَ مَشْهُورًا عِنْد الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . اهـ . فأبو أيوب يُحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعبد الله بن حُنين أتَى بِقول أبي أيوب وروايته . فهذه كلها روايات آحاد . 8= " بين القرنين " : قال النووي : هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف تَثْنِيَة " قَرْن " ، وَهُمَا الْخَشَبَتَانِ الْقَائِمَتَانِ عَلَى رَأْس الْبِئْر وَشِبْهَهمَا مِنْ الْبِنَاء ، وَتُمَدّ بَيْنهمَا خَشَبَة يُجَرّ عَلَيْهَا الْحَبْل الْمُسْتَقَى بِهِ ، وَتُعَلَّق عَلَيْهَا الْبَكَرَة . اهـ . وفي رواية لأحمد والنسائي : بَين قَرني البئر . 9= جواز " السَّلام عَلَى الْمُتَطَهِّر فِي وُضُوء وَغُسْل ، بِخِلافِ الْجَالِس عَلَى الْحَدَث " . قاله النووي . 10= الجواب العملي ، وحكاية الأفعال في الاستدلال . فقد جاء رجل فسأل رسولَ الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يُجامع أهله ثم يَكسل ، هل عليهما الغسل ؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل . رواه مسلم . 11= " فطأطأه " أي : أنْزَله قليلا . وفي رواية لأحمد : فلما استبنت له ضمّ الثوب إلى صدره حتى بَدَا لي وجهه . قال الإمام أحمد : قال الحجاج ورَوْح : فلما انتسبت له وسألته ضمّ الثوب إلى صدره . وهذا موافق لرواية الصحيحين : فَسَلَّمْت عَلَيْهِ . فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْن . فإن أبا أيوب سأله : مَن هذا ؟ فانتَسَب ، وذَكَر له من هو ، وهذا كان قبل أن يَستبين له ، إلاّ أن يُقال : استبَان له مِن صوته ، وهذا مُحتمل . 12= قوله : " أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ , يَسْأَلُكَ " قال ابن عبد البر : وفي هذا الحديث دليل - والله أعلم - على أن ابن عباس قد كان عنده في غَسل المحرم رأسه ، عِلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأه ذلك أبو أيوب أو غيره ؛ لأنه كان يأخذ علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها عن جميعهم ، ويختلف إليهم ، ألا ترى إلى قول عبد الله بن حنين لأبي أيوب رحمه الله : أرسلني إليك ابن عباس أسالك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم ؟ ولم يقل : "هل" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو مُحْرِم ؟ على حسبما اختلفا فيه ، فالظاهر - والله أعلم - أنه قد كان عنده من ذلك علم . اهـ . 13= معرفة الفضل لأهله ، وسؤال من هو أعلم عما يُشكل ، وحَسْم مادة الخلاف ، وقطع المراء . قال ابن دقيق العيد : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ ، وَالاخْتِلافِ فِيهَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا حُكْم . اهـ . 14= وفيه أيضا أن الْجِدَال في مسائل العِلْم لا يدخل في النهي عن الجدال في الحج على القول الثاني في تفسير قوله تعالى : (وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ؛ لأن المعنى الأول : لا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح . قاله ابن كثير ، وهو قول الأكثر . والمعنى الثاني : النهي عن المخاصمة والمراء . 15= قوله : " ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ : اُصْبُبْ " فيه جواز خدمة أهل الفضل في مثل ذلك ، وإن استغنى الإنسان عن ذلك فهو أفضل . قال النووي في فوائد هذا الحديث : جَوَاز الاسْتِعَانَة فِي الطَّهَارَة ، وَلَكِنْ الأَوْلَى تَرْكهَا إِلاَّ لِحَاجَةٍ . اهـ . 16= موافقة عمر لأبي أيوب رضي الله عنهم . روى الإمام مالك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ مُنْيةَ وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً ، وَهُوَ يَغْتَسِلُ : اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي ، فَقَالَ يَعْلَى : أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي ؟ إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اصْبُبْ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلاَّ شَعَثًا . قال ابن بطال : يعنى : إذا لم يغسل بغير الماء ؛ ألا ترى فعل أبى أيوب حين صب على رأسه الماء حَرَّكه بيديه ، ولم يَرَ ذلك مما يُذهب الشَّعث ، ومثله قوله عليه السلام لعائشة : " انقضى رأسك في غسلك وامتشطى " أي : امشطيه بأصابعك . اهـ . 17= لا يُلتفت إلى ما يتساقط من الشَّعْر عند الغُسل وكذلك عند الامتشاط وحكّ الرأس ؛ لأن ما يتساقط من الشعر إنما هو الشعر الميت . قال عليه الصلاة والسلام لعائشة في حجة الوداع : انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي . رواه البخاري ومسلم . ولا يُمكن حَمْله على الاضطرار ، كَحَال كعب بن عُجرة رضي الله عنه حينما آذته هوامّ رأسه . وبذلك يُعلَم أنه لا أصل لِمَا يفعله بعض الناس ، مِن ضَرْب رَأسه ضربًا خفيفا إذا أراد حَكّ رأسه ! قال النووي : نَقْض الرَّأْس وَالامْتِشَاط جَائِزَانِ عِنْدنَا فِي الإِحْرَام بِحَيْثُ لا يَنْتِف شَعْرًا ، وَلَكِنْ يُكْرَه الامْتِشَاط إِلاَّ لِعُذْرٍ . اهـ . 18= قوله : " فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ " أي : صبّ الماء على رأسه . 19= وقوله : " ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ , فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ " هذا زيادة على مُجرّد صبّ الماء ، وهو مَدْعاة لتساقط الشعر . وفيه ردّ على مَن منع الْمُحْرِم مِن غَسل الرأس لئلا يتساقط القمل أو يتسبب في قَتْله ! 20= فيه من الفقه أن الصحابة إذا اختلفوا لم تكن في قول واحد منهم حجة على غيره إلاّ بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة ، ألا ترى أن ابن عباس والمسوَر لَمَّا اختلفا لم يكن لواحد منهما حُجة على صاحبه حتى أدلى ابن عباس بالحجة بالسُّـنَّة ، فَفَلَج . قاله ابن عبد البر . 21= " ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ " القائل : هو أبو أيوب رضي الله عنه ، ولذلك جُعِل الحديث مِن مُسند أبي أيوب كما تقدّم . وكان الصحابة رضي الله عنهم يَكْتَفُون بالقول بأن هذا مِن السنة ، أو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، أو : هكذا رأيته يفعل ، ونحو ذلك ، وكانوا يُقابلون ذلك بالتسليم والانقياد والإذعان ، ولا يَرون لأحدٍ قولا مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . 22= فَقَالَ الْمِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ : لا أُمَارِيكَ أَبَداً . قال العيني : أي : لا أجَادِلُك . قال : وفيه اعتراف للفاضِل بِفضله ، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضا . 23= رجوع العَالِم للحق إذا استبان له ، وأنه لا غضاضة في ذلك ولا حرج ، فالْحَقّ أحقّ أن يُتّبَع . واشتهر عن ابن عمر رضي الله عنهما تراجعه عن غير مسألة . قيل لابن عمر : إن أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَن تَبع جنازة فله قيراط من الأجر . فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة ، فبعث إلى عائشة فسألها فصدّقت أبا هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . رواه البخاري ومسلم . ومثله هنا تراجع المسور رضي الله عنه ورجوعه إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما . والله أعلم .