شرح أحاديث عمدة الأحكام الحديث الـ 235 في حُرمة مكة

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : عبد الرحمن بن عبد الله السحيم | المصدر : saaid.net


ح 235

بابُ حرمة مكةَ


عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ , حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ . فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً , وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ , وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ .
فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ ، إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً , وَلا فَارَّاً بِدَمٍ ، وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ .
الخَرَبَة : بالخاء المعجمة والراء المهملة . قيل: الخيانة ، وقيل: البليَّة ، وقيل : التهمة . وأصله من سرقة الإبل. قال الشاعر :
الخارِب اللِّصّ يُحِبّ الخارِبا .

في الحديث مسائل :


1
= قوله : " باب حُرمة مكة " أي تحريمها وتعظيم حُرمتها ، وذلك لوجود الْحَرم فيها ، وهذا تشريف لهذا البلد الأمين .
فإن الله أقسَم به (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) ، وحَرَّمَـه ، كما في حديث الباب .
وإن كان تحريم مكة يوم خَلَق الله السماوات والأرض تعظيما لها ، وتنبيها لشأنها .

2=
تعظيم الحرم ، فالسيئة تَعظُم فيه ، بل نصّ العلماء على أن نيَّـة المعصية فيه تُكتب معصية ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
قال القرطبي في التفسير :
والإلحاد في اللغة الميل ، إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد .
واخْتُلِف في الظلم ؛ فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : الشرك .
وقال عطاء : الشرك والقتل .
وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شَجَرِه ، ودخول غير مُحْرِم .
وقال ابن عمر : كُنا نَتَحَدَّث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله ، وبلى والله ، وكَلاّ والله . ولذلك كان له فُسطاطان أحدهما في الْحِلّ والآخر في الْحَرَم ، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الْحِلّ ، صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله، حين عَظَّم الله الذنب فيه .
وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يُعَاتِبَ أهله عاتبهم في الْحِلّ ، وإذا أراد أن يُصلي صَلّى في الحرم . فقيل له في ذلك ، فقال : إنْ كُنا لنتحدث إن من الإلحاد في الحرم أن نقول : كلا والله ، وبلى والله .
والمعاصي تُضَاعَف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما بِنَفْس المخالفة ، والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام . وهكذا الأشهر الحرم سواء ..
وقال : ذَهَبَ قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يُعَاقَب على ما ينويه من المعاصي بمكة ، وإن لم يعمله ، وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا : لو هَمَّ رجل بِقَتْلِ رجل بهذا البيت وهو بِعَدَنِ أبْيَن لَعَذَّبَه الله . قلت : هذا صحيح . اهـ .
وفي قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) قال أيضا : في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ، لأنهم عَزَمُوا على أن يَفْعَلُوا فَعُوقِبوا قبل فِعلهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) . اهـ .

3=
إثبات صُحبة أبي شُريح العَدوي رضي الله عنه ، لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وسَمِع منه .
لأنه قال : فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ , حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ .

4=
عمرو بن سعيد بن العاص :
قال العيني : عمرو بن سعيد بن العاص ابن أمية القرشي الأموي ، يُعْرَف بالأشدق ، ليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان !
وقال : كان قَتْله سنة سبعين من الهجرة .
وقال : المعروف بالأشدق ، لَطِيم الشيطان ، ليست له صُحبة ، وعُرِف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شَتْم عليّ رضي الله تعالى عنه ، فأصابه لقوة ، ولاّه يزيد بن معاوية المدينة ، وكان أحب الناس إلى أهل الشام ، وكانوا يسمعون له ويطيعونه ، وكتب إليه يزيد أن يُوجّه إلى عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه جيشا فوجهه واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن العوام .
وقال الطبري : كان قدوم عمرو بن سعيد واليا على المدينة من قِبَلِ يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين . وقيل : قَدِمَها في رمضان منها ، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة فامتنع ابن الزبير من بيعته ، وأقام بمكة ، فجهز إليه عمرو بن سعيد جيشا وأمَّـر عليهم عمرو بن الزبير ، وكان معاديا لأخيه عبد الله ، وكان عمرو بن سعيد قد ولاَّه شُرطته ، ثم أرسله إلى قتال أخيه ، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه ، فامتنع ، وجاءه أبو شريح فذكر القصة ، فلما نزل الجيش ذا طوى خَرَج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم ، وأُسِرَ عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارِم . انتهى مِن عمدة القارئ .

5=
قوله : وهو يبعث البعوث إلى مكة . يعنى لِقتال ابن الزبير . قاله النووي .
وقد كان عمرو بن سعيد بن العاص والياً على المدينة .
والبُعُوث هم القوم الْمُرْسَلُون للقِتال ونحوه . قاله ابن الملقِّن .

6=
قوله : ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ . فيه التلطّف مع المخاطَب خاصة إذا كان له أمرٌ ونَهي ، لأنه أدْعَى للقبول .
قال ابن حجر : فيه حسن التلطّف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدْعى لقبولهم . اهـ .

7=
قوله : قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ .
أي أنه خَطَبَ في اليوم الثاني من فتح مكة . قاله ابن حجر .
قوله : " من يوم الفتح " المراد فتح مكة ، وكان في عشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة . قاله ابن الملقِّن .

8= قوله : سَمِعَتْه أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي . أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه وتيقنه زمانه ومكانه ولفظه . قاله النووي .
أي أنه ليس بِمُتَوَهِّم في سماع الحديث ، ولا هو مُجرّد ظَنّ ، بل هو يقين وحق وصِدق .

9=
قوله : حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يَفتَتِح الْخُطب بذلك ، سواء خُطب الجمعة أو مواعظه عليه الصلاة والسلام ، أو خُطبه في المناسبات ، كما هنا .
وعادة الرّواة يَطوون المقدِّمات اختصاراً ، للوصول إلى الفائدة والخلاصة .

10=
قوله : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ " المقصود : بعض الناس ، أو كثير من الناس .
لأن أهل الجاهلية كانوا يُعظِّمون الْحَرَم ، فإنه لما أرادوا قَتْل خبيب رضي الله عنه خَرَجوا به خارج حدود الْحَرَم !
قال ابن حجر : والمراد بِقوله : " ولم يُحَرّمها الناس " أن تحريمها ثابت بالشَّرْع لا مَدْخَل للعقل فيه ، أو المراد أنها من مُحَرَّمات الله ، فيجب امتثال ذلك ، وليس مِن مُحَرَّمات الناس ، يعني في الجاهلية ، كما حَرَّمُوا أشياء من عند أنفسهم ، فلا يَسُوغ الاجتهاد في تَرْكِه . وقيل : معناه أنّ حُرْمَتها مستمرة من أول الْخَلْق وليس مما اخْتَصَّتْ به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم .

11= قوله : " فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ "
سَبَقت الإشارة إلى تكرار هذا التذكير في الكتاب والسنة ، وذلك أن الذي يُؤمِن بالله واليوم الآخر يَعلَم أنه صائر إليه ، مَجْزيّ بِعمَلِه ، مُحاسَب عليه .
فيَحْمِله ذلك على الكَفّ والانتهاء عما أراد مما هو من معصية الله ، ومُخالَفة أمره أو أمر نبيِّـه صلى الله عليه وسلم . فـ

12=
قوله : " لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً "
ليس له مفهوم ، فلا يَحِلّ سَفك الدم بمكة لا لِمن يؤمن بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، ولا لِمن لا يُؤمِن بالله وَلا بالْيَوْمِ الآخِرِ .

13=
قوله : " أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً "
فالذي يُؤمِن بالله واليوم الآخِر لا يَحِلّ له أن يسفِك بِمكةّ دماً .
وما المقصود بالدَّم ؟
هو الدم الحرام ، وهو ما يَكون في قِتال أو اعتداء ، ونحو ذلك .
واخْتُلِف في إقامة الحدود في مكة .
هل يُقَتل القاتِل ويُقام عليه الحدّ في الْحَرَم ؟
جوابه في المسألة التالية :

14=
إذا قَتَلَ قاتِل في الْحَرَم . هل يُقتَل ، أو يُضيّق عليه ليَخْرَج من الحرم ؟
قال القرطبي في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) :
استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الْحَرَم على الْمُحْصَن ، والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا) ، كأنه قال آمِنُوا مَن دَخَلَ البيت ، والصحيح إقامة الحدود في الحرم ، وأن ذلك من المنسوخ ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يُقْتَل في البيت ويُقْتَل خارج البيت ، وإنما الخلاف هل يُقْتَل في الْحَرَم أم لا ؟
والْحَرَم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة .
وقد أجمعوا أنه لو قَتَلَ في الحرم قُتِلَ به ، ولو أتَى حَدًّا أُقِيد منه فيه ، ولو حارَب فيه حُورِب وقُتِل مكانه .
وقال أبو حنيفة : من لجأ إلى الحرم لا يُقْتَل فيه ولا يُتَابَع ، ولا يزال يُضيّق عليه حتى يموت ، أو يَخْرُج ، فنحن نقتله بالسيف ، وهو يقتله بالجوع .

15=
قوله : " وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً "
سيأتي بيان هذا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو بعد هذا الحديث .

16=
قوله : " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ , وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ "
فيه التنبيه على إزالة الشُّبْهَة إذا تَوقّع العالم تعلّقها بالأذهان .
وفَرْق بين إزالة الشُّبْهَة وبين تلقين الناس إياها !
فالأول مطلوب والثاني ممنوع .

17=
إنما أُذِن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال عام الفتح ، وذلك لما تَرتّب على ذلك القِتال من مصالح عظيمة ، مِن فتح مكة ، وإعادتها إلى من هو أولى بها وأهلها ، وكونها أصبحت بعد ذلك دار إسلام ، وأمْن الناس فيها ، إلى غير ذلك من المصالِح .
أما قِتال غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيه مثل هذه المصالح التي تُحتَمَل لأجلها المفسدة ، وهي القِتال في مكة .
وتَقَدَّم قول القرطبي ونَقْله للإجماع ، حيث قال : " وقد أجمعوا أنه لو قَتَلَ في الحرم قُتِلَ به ، ولو أتَى حَدًّا أُقِيد منه فيه ، ولو حارَب فيه حُورِب وقُتِل مكانه " .
فعلى هذا يكون مَنْع القِتال فيها ابتداءً لا لِمن حارَب فيها .
وهذا المنع مُنطَبِق على حال عمرو بن سعيد بن العاص ، لأنه ابتدأ القِتال ، لا أنه حارَب مُحارِباً . فابن الزبير رضي الله عنه عَاذَ بالبيت ، ولم يبدأ بِقِتال .

18=
قوله : " فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "
فأبو شُريح رضي الله عنه كان شَاهِداً حاضِراً ، وقد بَلَّغَ ما سَمِع إلى منَ غاب ، وهو عمرو بن سعيد بن العاص ، إلا أنه لم يَنتَفِع به !
بل أعْمَل عَقِلَه مُقابِل النصّ !
وقد ردّ عليه أبو شُريح رضي الله عنه ، كما في رواية الإمام أحمد أنه قال : قد كنتُ شاهدا وكنتَ غائبا ، وقد بَلّغت ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبَلِّغ شاهدنا غائبنا ، وقد بَلّغْتك ، فأنت وشأنك !

19=
قوله : " إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً , وَلا فَارَّاً بِدَمٍ ، وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ "
وهو قَول مردود على قائله ، أعني في حقّ ابن الزبير رضي الله عنه ، كما تقدَّم .
قال ابن حجر :
وقد تَشَدَّق عمرو في الجواب ! وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل ، فإن الصحابي أنكر عليه نَصْبَ الْحَرْب على مكة ، فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص ، وهو صحيح ، إلا أنّ ابن الزبير لم يرتكب أمراً يَجِب عليه فيه شيء من ذلك . اهـ .
وقال : وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الْحُكم مَساق الدليل ، وفي تخصيصه العموم بلا مستند . اهـ .

20=
قوله : فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ أي ما قال الأمير في ردّه عليك .

21=
قوله : " ولا فارًّا " بالفاء والراء المشددة ، أي هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يُقْتَصّ منه . قاله ابن حجر .

22=
قوله : " بِخَرْبَة " بفتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة ، يعنى السرقة ، كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي . قال ابن بطال الخربة بالضم الفساد ، وبالفتح السرقة . أفاده ابن حجر .

23=
غَيْرة الله على مَحارِمـه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ بالبيت فيُبعث إليه بَعْث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم . رواه مسلم – وسيأتي بتمامه – .
وقد قُتِل ذلك الأمير الذي سَيَّر الجيش وبَعَث البعوث للقتال في مكة . وقد تقدّمت الإشارة إليه .
قال العيني: كان قَتْله سنة سبعين من الهجرة .
وذُكِر في كيفية قَتْلِه أن عبد الملك هو الذي قَتَلَه ، وهذه سُنّة ربانية أن من أعان ظالما سلّطه الله عليه .

24=
جُرأة الأمير على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم !
حيث ردّ عليه . وهو ردّ لِحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما أن فيه تقديم العقل على النقل !
ثم هو استدلال في غير مَحلِّه .
فإن ابن الزبير رضي الله عنه لا تنطبق عليه تلك الأوصاف ، فإنه لم يَكن عاصيا ، ولا فارا بِدَم ، ولا فارا بخربة.
بل كان ابن الزبير خليفة المسلمين .

قال ابن كثير رحمه الله تحت عنوان : إمارة عبد الله بن الزبير . وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك .
ثم قال تحت هذا العنوان : قَد قَدّمْنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة ، وهم الذين كانوا يُحاصِرون ابن الزبير ، وهو عائذ بالبيت ، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام واستفحل أمْرُ ابن الزبير بالحجاز وما والاها ، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك ، واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير ... ثم بَعَث أهلُ البصرة إلى ابن الزبير - بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها - غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحوا من أربعة أمراء من بينهم ، ثم اضطربتْ أمورهم ، ثم بعثوا إلى ابن الزبير ... وبَعَث ابنُ الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري على الصلاة ، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الْخَراج ، واسْتَوثَق له الْمِصْران جميعا ، وأرسل إلى أهل مصر فبايعوه ، واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر ، وأطاعت له الجزيرة ، وبَعَث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة ، وبَعَث إلى اليمن فبايعوه ، وإلى خراسان فبايعوه ، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع . اهـ .
قال ابن بطال : وابن الزبير رضي الله عنهما عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك لأنه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء ، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم . وقد قال مالك : ابن الزبير أولى من عبد الملك نَقَله العيني .

فأنت ترى أن ولاية ابن الزبير لم تكن خروجا على الحجاج ، بل هي بيعة عامة ، وخلافة شملتْ الحجاز واليمن ومصر ، وأغلب بلاد الشام .
وقد خَشِي الناس أن يُخسَف بذلك الجيش الذي غَزا ابن الزبير .
روى مسلم من طريق عبيد الله بن القبطية قال : دَخَل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة - أم المؤمنين - فسألاها عن الجيش الذي يُخْسَف به ، وكان ذلك في أيام ابن الزبير ، فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ بالبيت فيُبعث إليه بَعْث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم. فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارِها ؟ قال : يُخْسَف به معهم ، ولكنه يبعث يوم القيامة على نِيَتِه . وقال أبو جعفر : هي بيداء المدينة .

25=
إعجاب ذلك الأمير بنفسه وبما عنده من العلم ، حيث ادّعى أنه أعلم من الصحابي بقوله : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ !
وقد ذمّ الله أقواماً بإعجابهم بأنفسهم وبما عندهم من العلم ، فقال : (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)

والله تعالى أعلم .