قال تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ" [البقرة:158]. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: لقد كثر الكلام عن حكم زيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله في توسعة المسعى، حتى وصلت الحال بالبعض إلى الفتوى بعدم جواز العمرة، أو يتحلل المحرم باعتباره محصراً، أو إلزامه بفدية لسعيه في غير مكان السعي –في نظرهم- فأردت أن أدلي بدلوي بشيء من التفصيل لوجهة المجيزين، ومناقشة رأي المانعين، وهذا تفصيل لما سبق أن نشرته موجزاً في موقع (الإسلام اليوم) قبل موسم الحج الفائت، ويتلخص هذا البحث بالنقاط الآتية:
تعريفات للصفا –المروة-المسعى-الفرق بين الطوافين. المسعى مشعر من مشاعر الله. لمحة موجزة عن توسعة الحرم عامة، والمسعى خاصة. المسعى هل يأخذ أحكام المسجد؟ منشأ الخلاف. أدلة المجيزين والمانعين لتوسعة المسعى. المناقشة. الخلاصة.
التعريفات: الصفا: قال الأزهري في تهذيب اللغة: (الصفا والمروة جبلان بين بطحاء مكة والمسجد). وكذا قال ابن منظور في لسان العرب، وقال ابن الأثير في النهاية: (الصفا أحد جبلي المسعى)، وقال الشاعر (الأعشى) يهجو عمير بن عبد الله بن المنذر: فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا *** ولا لك حق الشرب من ماء زمزم وذكر أبو إسحاق الحربي في كتابه المناسك أن الصفا يمتد (من طرف باب الصفا إلى منعرج باب الوادي.. وأن طرفاً من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا)، وهذا يدل على أن جبل الصفا ملتصق بجبل أبي قبيس، وأنه جزء منه، وتمتد مساحته في التوسعة الشرقية إلى موضع قصر الضيافة، وكانت تغطي هذا الجبل على قاعدته وجوانبه وعلوه وأسفله إلى موضع السعي دور وبيوت وأسواق. ويمتد شمالاً إلى منعطفه نحو البطحاء في أصله وقاعدته الغربية جنوباً إلى منعرجه نحو أجياد الصغير (موقع قصر الضيافة). المروة: قال ابن منظور في اللسان: (المروة حجارة بيض براقة، وجبل بمكة شرفها الله تعالى) وعامة كتب الفقه والمعاجم تنص على أن الصفا جبل صغير يقع في سفح جبل أبي قبيس والمروة جبل صغير يقع تحت جبل قعيقعان باتجاه باب الفتح اليوم- موضع سبيل ماء زمزم. المسعى: اسم مكان للسعي بين جبلي الصفا والمروة الذي نص عليه قوله تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ..." [البقرة:158]. ويطلق لفظ المسعى على (بطن الوادي-المسيل). مكان الرمل بين الميلين- وهذا من باب تسمية الجزء وإرادة الكل، وإلا فهذه الآية وفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقوله: "... اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" تنص على وجوب استيعاب السعي مسافة ما بين الجبلين. الفرق بين الطوافين: لقد سمَّى الله المسعى طوافًا (... فلا جناح عليه أن يطوف بهما) غير أن الطواف بالمسعى غير الطواف بالبيت، يقول ابن الهمام الحنفي المتوفى (681هـ) في كتابه (فتح القدير) (2/460): والفرق بين الطواف بـ(البيت) والسعي أن الطواف دوران لا يتأتى إلا بحركة دائرية، فيكون المبدأ والمنتهى واحداً بالضرورة. أما المسعى فهو قطع مسافة بحركة مستقيمة، وذلك لا يقتضي العودة إلى بدئه. المسعى مشعر من مشاعر الله: إن الله سبحانه حدَّد المشاعر لخليله إبراهيم عليه السلام، وسماها الله مقاما، وأمر الأنبياء باتباعها والوقوف عند حدودها، فقال: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ومقام إبراهيم فُسِّر بأنه موضع القدمين له حينما كان يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل، كما قال تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [البقرة:127]. وموضع القدمين اليوم موضوعة داخل زجاج بلوري مقابل باب الكعبة. والمراد باتخاذه مصلى: أداء ركعتي الطواف خلفه وهذا قول جمهور المفسرين. وفسر بعض العلماء (مقام إبراهيم) بالحرم كله، أي ما بين الأميال مما يحرم فيه قتل الصيد وقطع الشجر والظلم والقتال، وليس المسجد فقط الذي في جوفه الكعبة ومحاط بالجدران، وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه: (باب من صلى ركعتي الطواف خارج المسجد)، وطاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد صلاة الصبح، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى (الأبطح)، وأخرج البخاري بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهو بمكة لما أراد الخروج: "إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون، ففعلت ذلك فلم تُصلِّ حتى خرجت" ومن هذا الحديث أخذ جمهور العلماء أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكرهما في حل أو حرم. وقال ابن المنذر: احتملت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لآية "واتخذوا مقام إبراهيم مصلى" حين صلى ركعتي الطواف خلف المقام أن تكون صلاة الركعتين خلفه فرضاً، ولكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئة ركعتي الطواف حيث شاء. وليس ذلك أكثر من صلاة مكتوبة، ولعل الخلاف مبني على ما هو المراد بـ(المسجد الحرام)، فتبين أن (مقام إبراهيم) و(المسجد الحرام) فيهما قولان: الأول: أن المسجد الحرام هو الذي وسطه الكعبة، والمحاط بالجدران ومقام إبراهيم: موضع القدمين لخليل الله إبراهيم عليه السلام. الثاني: أن المسجد الحرام ومقام إبراهيم هو الحرم كله الذي يحرم فيه قتل الصيد وقطع الشجر، فمعظم مساكن ومساجد مكة في هذا القول داخلة في المسجد الحرام تضاعف فيها الحسنات. لمحة موجزة عن توسعة الحرم عامة والمسعى خاصة: كان المسجد الحرام منذ أن بناه خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام لم يجرؤ أحد على السكنى بجواره، وإنما اتخذ الناس منازلهم في الشعاب ورؤوس الجبال تعظيماً له حتى جاء الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم (قصي بن كلاب)، فأذن للناس البناء حوله وأمرهم أن يبنوا منازلهم على شكل دائرة تحيط به من جميع الجهات، وأن يتركوا بين كل بيتين طريقاً يوصل إلى الكعبة، وهكذا كانت العرب تجعل بيوتها مدورة حتى لا تشبه بناء الكعبة، ولم يزيدوا ارتفاعها عن سبعة أذرع، حتى لا تعلو بيوتهم الكعبة تعظيماً لها. وكان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر صغيراً لا تتجاوز مساحته (2126م2) ولم يكن له جدار يحميه، وكانت الدور محيطة به وأبوابها مشرعة عليه، وبقي كذلك إلى زمن عمر بن الخطاب سنة 17هـ لما جاء (سيل أم نهشل) ودهم الكعبة، وأزاح المقام عن مكانه، وانهدمت بعض جدران المسجد، فأخذ الناس (المقام) وألصقوه بباب الكعبة، فذعر الخليفة بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء فسأل الناس من يعرف مكان مقام إبراهيم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن أبي وداعة: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين لقد قسته بمقاط (حبال) عندي، ثم قال له: اجلس عندي، وأرسل من يأتي بها. فلما جيء بها قاسوا ما بين الكعبة وموضعه قبل السيل فوضعوه في مكانه اليوم، ثم أمر الخليفة أن تشترى دور يوسع بها المسجد، فاشتريت فأدخلت فيه، ومن لم يرضَ من أصحاب تلك الدور أخذ ثمن داره فجعل في خزانة الكعبة يأخذه هو أو ورثته متى شاء وقال لهم: (إنما نزلتم على الكعبة فبنيتم في فنائها ولم تنزل عليكم. ثم أمر أن يحاط المسجد ببناء قصير، وبلغت مساحة توسعة عمر بن الخطاب هذه (3613م2). وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 26هـ قام بشراء عدد من الدور المجاورة للمسجد، واتخذ له أروقة مسقوفة بعد أن كان فضاء مكشوفا، وبلغت مساحة المسجد في عهده (4482م2). وفي عهد عبد الله بن الزبير بعد أن احترقت الكعبة عام 65 من الهجرة لما رماها الحجاج بالمنجنيق، فزاد ابن الزبير من مساحة المسجد زيادة، كبيرة حيث بلغت مساحتة في عهد (7465م2). وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وسع في المسجد حتى بلغت مساحته (10270م2) وأتى بأساطين (أعمدة) الرخام من الشام ومصر، وسقفه بخشب الساج المزخرف، وجعل على رؤوس الأساطين صفائح الذهب، وفرش أرضية الحرم بالرخام. وفي عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عام 137هـ زاد في المسجد زيادتين كبيرتين من الجهتين الشمالية والغربية حتى بلغت مساحته (12512م2). وفي عهد الخليفة المهدي العباسي جرى توسعتان كبيرتان للمسجد والمسعى الأولى، هدم فيها دور ألحقت في المسجد أعلاه وأسفله وشقه الشامي الذي يلي دار الندوة، وضاق شقه اليماني الذي يلي الصفا، وكانت الكعبة في شق المسجد غير متوسطة، وذلك أن الوادي كان داخلاً بالمسجد، وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه، وكان الطريق من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم يمر بزقاق ضيق حتى يخرج إلى الصفا، وكان المسعى في موضع المسجد الحرام، وفي محل السعي بيوت مسكونة، فلما حج المهدي ورأى ذلك قال: لابد لي أن أوسعه حتى أوسط الكعبة في المسجد على كل حال، ولو أنفقت فيه جميع أموال بيت المال فأمر المهندسين فقدّروا ذلك وهو حاضر، فصرفوا الوادي عن المسجد، ثم نصبت الرماح على الدور من أول موضع الوادي (محل الرمل بالمسعى) إلى آخره، ثم ذرعوه من فوق الرماح حتى عرفوا ما يدخل بالمسجد من ذلك وما يكون بالوادي فيه، فلما نصبوا الرماح جنبي الوادي وزنوه مرة بعد مرة ثم قدروه. وبلغت مساحة المسجد والمسعى في عهده (15491م2). وفي عهد الخليفة المعتضد العباسي عام 281هـ أضيفت دار الندوة، وهي تمثل مساحة مربعة، وأصبحت رواقا من أروقة المسجد يتوسطها فناء صغير، وجعل لها باب يشرع إلى (سويقة) مسمى باب الزيادة. وفي خلافة المقتدر العباسي أضيفت إلى المسجد الحرام داران للسيدة زبيدة، وأصبحت رواقا من أروقة المسجد يتوسطهما فناء صغير، وجعل لها باب يقال له (باب إبراهيم)، وكانت هذه آخر زيادة في مساحة المسجد الحرام، وبقي المسجد لا تغيير في مساحته تلك إلى بداية التوسعة السعودية الأولى عام 1375هـ ولم يشهد أي توسعة طوال حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وإنما اقتصر العمل خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة على الترميم والإصلاح والنظافة. وفي عهد الملك عبد العزيز رحمه الله أمر في عام 1344هـ بإجراء ترميمات شاملة، وإعادة دهان الأبواب والشبابيك والأروقة، ووضع مظلات تقي الناس الحر والشمس في المطاف والمسعى، وأمر بتسوية أرض المسعى وفرشها بالحصباء. وفي عهد الملك سعود رحمه الله جرت توسعة كبيرة استمرت قرابة عشرين عاماً مرت بأربع مراحل، وهي أكبر توسعة مبنية للحرم مشاهدة معلومة. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز رحمه الله جرت توسعة في الجهة الغربية من المسجد، وثلاث ساحات محيطة به من الشرق والجنوب والغرب، وأصبحت مساحة الحرم حتى الآن –أي قبل التوسعة الجديدة للمسعى- هي (356000م2). المسعى هل يأخذ أحكام المسجد؟ اختلف العلماء في هذه المسألة وناقشها مجلس المجمع الفقهي في الرابطة في دورته الرابعة في شعبان عام 1415هـ وقرروا بالأغلبية أن المسعى عند التوسعة لا يأخذ حكم المسجد حيث يجوز فيه المكث والسعي للحائض والجنب. والذي يظهر لي -والله أعلم- أن التوسعة تأخذ حكم المسجد للقاعدة الشرعية (الزيادة لها حكم المزيد) ثم إن المسعى واقع بالوسط بين الساحة الشرقية وبين الحرم، وحكم الساحات من حيث الأجر ومضاعفة الحسنات والصدقات والصلاة ونحوها مضاعف كداخل المسجد، والسعي بين الصفا والمروة هو طواف كالطواف بالكعبة، وإنما له حكم خاص في جواز السعي على غير طهارة، كما خص الطواف بالبيت بأنه صلاة، وهو لا يأخذ حكم الصلاة من كل وجه. ثم إن القول بإخراجه من المسجد فيه مشقة وحرج على الناس –وخاصة النساء أثناء العادة الشهرية، فإذا جاز الطواف للحائض للضرورة فإن دخولها المسجد عامة بما فيه المسعى من باب أولى. منشأ الخلاف في المسألة: لعل منشأ الخلاف: هل جبلا الصفا والمروة المشاهدان داخل المسعى الحالي ممتدان من جهة الشرق أو لا؟ فالمانعون يقولون لا امتداد لهما. والمجيزون يثبتون ذلك، وعند كلا الطرفين إنما يكون السعي بمسامته عرض الجبلين الصفا والمروة ذهاباً وإياباً أدلة المجيزين والمانعين لتوسعة المسعى: أدلة المانعين: 1- الأخذ بقرار اللجنة المشكلة بأمر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأسبق للمملكة رحمه الله (لمتابعة إدخال ما هو من المسعى، وإخراج ما ليس منصوصاً في كتب أهل العلم من محدثين وفقهاء مؤرخين). 2- والمسعى بعرضه يحكمه عمل القرون المتتالية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وهذا رأي الأغلبية لهيئة كبار العلماء في قرارها رقم (227) وتاريخ 22/2/1427هـ. أدلة المجيزين: 1- ورد في مصنف أبي شيبة صـ260 للإمام مجاهد بن جبر المتوفى سنة (104هـ) تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، يقول فيما بين العلمين: (هذا بطن المسيل الذي رمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الناس انتقصوا منه). 2- وذكر الإمام ابن كثير المتوفى سنة (774هـ) في كتابه البداية والنهاية (5/180) (وقال بعض العلماء ما بين هذه الأميال أوسع من بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم). 3- لم يثبت نص من الشارع، ولا قول عن أحد من العلماء بتحديد عرض المسعى، وإنما المتعين السعي طولاً مسافة ما بين الجبلين الصفا والمروة. 4- وجد في سجل المحكمة الشرعية تحديد دار آل شيبي ومحل الأغوات عند إرادة ضمها في التوسعة في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، وفي سجل المحكمة بعدد (75) وتاريخ 25 محرم 1371هـ ما نصه (لم يظهر ما يدل على حدود المسعى، كما جرى سؤال أغوات الحرم المكي عن تاريخ حدود دارهم التي أضيفت إلى ما هناك، فذكروا أن دارهم في أيديهم من نحو (800هـ) وليس لها صكوك ولا وثائق. وفي عهد الملك سعود أمر بإدخال بيت آل الشيبي (سدنة الكعبة) ومحل الأغوات الواقعين في موضع المسعى، وشُكِّلت لجنة ضمَّت كلًّا. من: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والسيد علوي مالكي، والشيخ يحي آمان. وجاء في قرار هذه اللجنة ما نصه: (حيث إن الأصل في المسعى عدم وجود بناء، وأن البناء حادث قديماً وحديثاً، وأن مكان السعي تعبدي، وأن الالتواء اليسير لا يضر، ولأن التحديد المذكور –لعرض المسعى- تقريبي فلا بأس بخلاف الالتواء الكثير- فلا بأس في بقاء العلم الأخضر -موضوع البحث- ولا بأس من السعي في موضع دار آل شيبي؛ لأنها مسامتة بطن الوادي بين الصفا والمروة، على أن لا يتجاوز الساعي -حين يسعى- الشارع العام، وذلك للاحتياط والتقريب). 5- ما قاله المؤرخ ابن فهد المتوفى 885هـ في (إتحاف الورى لأخبار أم القرى) 2/216 في حوادث سنة 167هـ، ومحمد النهرواني المتوفى (990هـ) صـ(142هـ) في كتابه (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام): وفيها (سنة167هـ): هدمت الدور التي اشتريت لتوسعة المسجد للزيادة الثانية في عهد الخليفة المهدي، حيث هدموا أكثر دور ابن عباد، وجعلوا المسعى والوادي فيها، وهدموا ما بين الصفا والوادي والدور، وحرثوا الوادي من موضع الدور حتى وصلوا إلى مجرى الوادي القديم في أجياد الكبير.. وقال في موضع آخر: (وكان السعي في موضع المسجد الحرام). 6- وقال أبو الوليد الأزرقي المتوفى (340هـ) في كتابه (أخبار مكة) (2/95): (وذرع ما بين الصفا والمروة سبع مائة وست وستون ذراعاً ونصف ذراع (766.5) وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار ابن العباس ابن عبد المطلب –ما بينهما هو عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف (35.5)، ومن العلم الذي على دار ابن العباس إلى العلم الذي عند دار ابن العباد (في الطول) بينهما مائة ذراع وواحد وعشرون ذراعاً (121). 7- وذكر البكري المتوفى (487هـ) في كتابه (المسالك والممالك) (1/309): (أن طول المسافة بين العلمين في المسعى هي (112)، أي أنه يقل عن تحديد الأزرقي بـ(9) أذرع. واختلف المؤرخون في تقدير نصف الذراع، فحمد بن إسحاق الفاكهي المتوفى (255هـ) يقدر نصف الذراع بـ(20) إصبعا، ويقدره البكري بـ(12) إصبعا، في حين أن الأزرقي اكتفى بذكر نصف الذراع مجملا دون تحديده بالأصابع. وذكر القاسم السبتي المتوفى (730هـ) في كتابه (مستفاد الرحلة والاغتراب) صـ228 بسنده عن أبي زكريا يحيى بن محمد أبي وهب المالكي في ذي القعدة سنة 369هـ قال: (ذرعت من الصفا إلى المروة فوجدتها (255) باعاً، منها إلى الميل الأخضر (35) باعا، ومن الميل إلى الميل الثاني -وهو بطن المسيل الذي فيه الهرولة- (40) باعاً، وما بين المروة والعلم الأخضر وهو الذي يسمى الميل (170) باعا. 8- وذكر النهرواني القطبي المتوفى (990هـ) في كتابه (الإعلام في أعلام بيت الله الحرام) (صـ140، 137) في وصف المسعى قبل توسعة الخليفة المهدي الثانية قال: (... ومن عجيب ما نقل في التعدي على المسعى الشريف واغتصابه في أيام سلطنة الملك الأشرف قايتباي المحمودي، حيث كان له تاجر يستخدمه، وأرسله إلى مكة ليتعاطى له تجارة اسمه: الخوجا شمس الدين محمد بن عمر بن الزمن، فاستأجر الخوجا ميضأة موقوفة في المسعى فهدمها وهدم المسعى مقدار ثلاثة أذرع، وبنى عليه داراً، فمنعه القاضي برهان الدين ابن ظهيرة الشافعي، والشيخ علاء الدين الزواوي الحنبلي فلم يمتنع، ومن الغريب أن الملك الأشرف قايتباي لما جاء إلى مكة عزل القاضي لمنعه الخوجا!!). 9- ما رواه الأزرقي أيضاً في موضعين من كتابه (أخبار مكة) قال: (وقف أبو سفيان بن حرب فضرب برجله فقال: سنام الأرض إن لها سناماً.. يزعم ابن فرقد أني لا أعرف حقي من حقه، له سواد المروة ولي بياضها، ولي ما بين مقامي هذا إلى تجني) فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: إن أبا سفيان لقديم الظلم ليس لأحد حق إلا ما أحاطه عليه جداراته وابن فرقد هذا الذي يخاصم أبا سفيان هو عتبة بن أبي فرقد السلمي حليف بني عبد المطلب بن عبد مناف، وكانت داره برباع حلفاء ابن عبد المطلب بشق المروة السوداء التي أقر أبو سفيان بملك ابن فرقد لها. - قال الدكتور عويد المطرفي تعليقاً على هذه الواقعة –والدكتور عويد له عناية خاصة بالسنة النبوية، ومعرفة وإلمام بدور مكة وجبالها، وهو أحد الشهود الذين أدلوا بشهادتهم في المحكمة العامة بمكة في موضوع امتداد جبلي الصفا والمروة شرقا-: (مما يؤيد وجود كل من المروتين هاتين البيضاء والسوداء (هما جبل المروة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم ينف ملك ولا وجود أي واحدة من المروتين، وإنما ذم توسع إنشاء أبي سفيان في ملك ما ليس يملكه هذه واحدة. والأخرى أن أبا سفيان عربي اللسان، والأرومة، يحتج بكلامه في تفسير معاني الألفاظ، وتعيين المسميات، وتحديد المعاني والأمكنة في ديارهم.. كما يدل أيضاً على اتساع مسمى (المروة) وواقعهما، وأن المروة البيضاء امتدادها شرقا تصل إلى دار أبي سفيان الواقعة على يسار النازل اليوم من شارع المدعى إلى ساحة المسعى، وأن المروة السوداء تمتد غرب المروة المعروفة اليوم... وإن الواجهة الجنوبية الشرقية لجبل المروة كانت مغطاة بالبيوت السكنية منقادة متراصة بعضها جانب بعض على طول متن الجبل، إلى الطريق الصاعد من شرقي الطرف الشمالي للمسعى إلى (المدعى)، وكانت بيوت (السادة المراعنة) التي كان يستأجرها صالح محمد سابق على جبل المروة ملاصقة جدرانها جدار المروة الشرقي، وعرض بيته الملاصق لجدار المروة الشرقي ممتد حوالي خمسة عشر متراً، كما يتصل به ملاصقة من الشرق أيضاً (حوش المحناطة) الذين يبيعون الحبوب بـ(المدعى) وامتداده من دار المراعنة إلى الشرق على جبل المروة باتجاه طريق (المدعى) خمسة وعشرون مترا، ويتصل به من الجنوب على نفس الوصف (بيت الجاوه) على يسار النازل من المروة إلى الصفا، ثم يلاصقه من الجنوب (بيت عبد الرحمن سمباواه)، ويلاصقه من الجنوب أيضاً (بيت المندر) ثم (بيت الغفوري). المناقشة: - أخذ المانعون بقرار اللجنة السابق تشكيلها بأمر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم لا ينطبق على وضع المسعى في توسعته الثانية؛ لاختلاف الموضوع المنظور في الحالين؛ لأن قرار اللجنة التي شكلت للنظر في بناء المصعدين المؤديين إلى الصفا والمروة لمعرفة ما إذا كان في ذلك مخالفة شرعية؟ وجاء في قرار اللجنة تلك ما نصه: (بالنظر بكون الصفا شرعا هو الصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس، ولكون الصخرات المذكورة لا تزال موجودة الآن وبادية للعيان، ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضا فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعاً من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا) ففي هذه العبارة دلالة على أن عرض جبل الصفا أكبر مما هو مشاهد الآن. - إنه من الغرابة بمكان أن تصدر هيئة كبار العلماء رأيها بالأكثرية دون أن تشكل لجنة من العلماء وأهل الخبرة وكبار السن، ودون أن تستعين بالخرائط وآراء المهندسين المعماريين للمسجد الحرام، كما فعل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله بتشكيل لجنة عند النظر بتوسعة المسعى، وما أحدث فيه –في عهده-. - وقولهم عرض المسعى يحكمه عمر القرون المتتالية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الحاضر. أقول ليس للقرون عمل مجمع عليه، لا سيما وأن تحديد عرض المسعى لم يأت به نص من الشارع، ولم ينص عليه أحد من الفقهاء، بل كان المسعى يضيق ويتسع على مدار العصور بالبيوت والدور المبنية على جنباته وفي بطن الوادي منه، وكثيرا ما يضطر الناس إلى أن يسعوا داخل المسجد لزحف الدور والبيوت على المسعى. - وفي التوسعتين الأولى والثانية في عهد الخليفة المهدي العباسي عاصر هاتين التوسعتين جمع من العلماء والفقهاء والمجتهدين، كالإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة (93-179هـ)، وأبو حنيفة (80-150هـ)، وتلميذه أبو يوسف (113-182هـ)، ومحمد بن الحسن (132-189هـ) ومن جاء بعدهم كالإمام الشافعي، والإمام ابن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن دقيق العيد، والحافظ ابن الحجر العسقلاني، وعامة العلماء على مدار القرون لم ينقل عنهم نكير لسعى الساعين على مدار التاريخ. - وكل ما نقل عن الفقهاء إنما هو وجوب استيعاب الساعي لأرض المسعى طولا، ومسامتته جبلي الصفا والمروة في الذهاب والإياب. وقال ابن مفلح المتوفى (885هـ) في (كتاب الفروع) 6/43: (ويجب استيعاب ما بينهما فقط)، وقال البهوتي المتوفى (1051هـ) في (كشاف القناع) 2/486 (الصفا طرف جبل أبي قبيس، والمروة أنف جبل قعيقعان، ويجب استيعاب ما بينهما) وقال ابن تيمية المتوفى (728هـ) في (شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة) 2/464: (وقد حدد الناس بطن الوادي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى فيه بأن نصبوا في أوله وآخره أعلاماً وتسمى أميالاً.. وقد ذكر القاضي وأبو الخطاب وجماعة من أصحابنا أن أول السعي –الهرولة- قبل أن يصل إلى الميل بنحو ستة أذرع، وآخره محاذاة الميلين الآخرين) وقال الكتاني المالكي المتوفى (767هـ) في (هدية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 2/880): (أول السعي الشديد إذ بقي بينه وبين الميل الأخضر نحو ستة أذرع، لأنه محل الانصباب محل الوادي، والميل كان موضوعاً على بناء على الأرض في الموضع الذي شرع منه ابتداء السعي –الهرولة- فكان السيل يهدمه ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السنن أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخراً عن مبتدأ السعي)، وهذا يتعلق بطول المسعى لافي عرضه. ويقول شمس الدين الرملي الشافعي المتوفى (1004هـ) في كتابه (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) 3/291: (ويشترط قطع المسافة بين الصفا والمروة، ولابد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي وهو المسعى المعروف الآن.. ولم أر في كلامهم –أصحابنا- ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة ما بين الصفا والمروة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيرا لم يضر كما نص عليه الشافعي رحمه الله). وذكر الرملي أيضاً في فتواه المطبوعة على هامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي المتوفى (974هـ) 2/86 (سئل هل ضُبط عرض المسعى؟ فأجاب: لم أر من ضبطه، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة بأن يلصق عقبه بما يذهب منه، ورؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته). الخلاصة: وتبين مما سبق أن عرض المسعى عند المؤرخين هو: - عند أبي الوليد الأزرقي (35.5) ذراعاً ونصف ذراع. - وعند الفاكهي (35) ذراعاً واثنا عشر إصبعا. وتبعه تقي الدين الفاسي. - وذكر بإِسلامة أن عرضه (36.5) ذراعا ونصفا. - وذكر الشيخ محمد كردي أن عرضه (20) متراً. أما عرضه عند الفقهاء: - فلم أجد من حدد عرضه، بل كل العلماء اقتصر قولهم على وجوب استيعاب المسافة ما بين الصفا والمروة لا غير، وبعضهم يذكر المسامتة للجبلين الصفا والمروة. - ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد بن جبر أن المسعى في زمنه أضيق مما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد سبعمائة سنة تقريباً قال ابن كثير في البداية إن المسيل (بطن الوادي) هو أوسع مما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الاختلاف في عرض المسعى ضيقاً وسعة عند المؤرخين، وعدم تحديده عند الفقهاء يدل دلالة واضحة على أن المسعى لم يحدد عرضه، بل كان داخلاً في بناء المسجد الحرام في بعض الأزمان، ولم يكن محاطاً بجدران، بل كان وادياً فيه أسواق البيع والشراء، وكان الناس يسعون خارجه، وربما سعوا داخل المسجد، ولم يقع من العلماء نكير لما يفعله الناس. - لقد شهد الشهود في المحكمة الشرعية بمكة من أهل الخبرة وكبار السن على أن جبلي الصفا والمروة أعرض مما يشاهد من جهتي الشرق والغرب. - وإذا كان قد سمى الله السعي طوافا، فقياس التوسعة فيه للناس على توسعة المطاف بالبيت ظاهر جلي للناظر المتأمل. - ثم إن من القواعد الفقهية المعتبرة ما يقضي جواز توسعة المسعى ومنها: * الزيادة لها حكم المزيد. * الزيادة المتصلة تتبع أصلها. * المشقة تجلب التيسير. * إذا ضاق الأمر اتسع. ولو قيل إن توسعة المسعى من قبيل الضرورة لدفع الحرج عن الناس فالسعي بالتوسعة الجديدة من باب الرخصة الشرعية – لكان في ذلك وجه. المراجع: 1- إخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام. تأليف أحمد بن محمد المكي تحقيق الحافظ غلام مصطفى – دار الصحوة. 2- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار. لأبي الوليد الأزرقي. تحقيق: رشدي ملحس – مطابع دار الثقافة بمكة. 3- أخبار مكة في قديم الزمان وحديثه. لمحمد بن إسحاق الفاكهي. تحقيق: عبد الملك بن دهيش/ مكتبة النهضة بمكة. 4- إعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام. تأليف: عبد الملك القطبي –دار الرفاعي بالرياض. 5- تاريخ عمارة المسجد الحرام. تأليف حسين عبد الله باسلامه. 6- توسعة المسعى. للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (بحث لم يطبع). 7- حاشية العلامة ابن حجر الهيثمي شرح الإيضاح في مناسك الحج – مكتبة السلفية بمكة. 8- شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام. تأليف: محمد بن أحمد المكي القطبي – مكتبة النهضة الحديثة بمكة. 9- شرح العمدة لأحكام الحج والعمرة لابن تيمية. تحقيق: صالح الحسن – مكتبة الحرمين. 10- الصفا والمروة تاريخها مقترحات في توسعة عرض المسعى د/ عبد الملك بن دهيش (بحث لم يطبع). 11- كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام. تأليف: محمد بن أحمد النهرواني تحقيق: هشام عطار – المكتبة التجارية بمكة. 12- كتاب الفروع. لمحمد بن مفلح المقدسي – مؤسسة الرسالة ببيروت. 13- كشاف القناع. لمنصور البهوتي – عالم الكتب ببيروت. 14- كتاب المناسك. لأبي إسحاق الحربي، تحقيق: حمد الجاسر. 15- لسان العرب. لابن منظور الأفريقي – دار صادر بيروت. 16- مستفاد الرحلة والاغتراب. للقاسم بن يوسف السبتي، تحقيق: عبد الحفيظ منصور – الدار العربية للكتاب. 17- مصابيح السنة. لأبي محمد الحسن البغوي – دار المعرفة بيروت. 18- المسالك والممالك. تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري، تحقيق: جمال طلبة – دار الكتب العلمية. 19- نهاية المحتاج في شرح المنهاج للرملي – مكتبة البابي الحلبي وأولاده بمصر. 20- النهاية في غريب الحديث. لابن الأثير الجزري – مكتبة البابي الحلبي وأولاده بمصر. 21- هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك. لعز الدين بن جماعة الكتاني – تحقيق: نور الدين عتر – دار البشائر الإسلامية. 22- رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام للدكتور: عويد بن المطرقي (بحث لم يطبع). المصدر : الإسلام اليوم