المواسم المباركة منةٌ من الله سبحانه على عباده ليزدادَ المحسن ويتوب ويعود المسيء ويؤوب ، وهي زادٌ لكل سائرٍ إلى الله والدار الآخرة – وكلنا ذاك الإنسان - ، والمحروم من تنكب الصراط فيها والسعيد من شكر الله على إدراكها وبالغ في التأله والتعبد والنفع العام . ومع أن هذه المواسم كما وصفتُ وأكثر إلا أن الأمة الإسلامية بُليت بمن ينغص عليها قداسةَ هذه الأزمنة وحرمتها ؛ وليس ببعيدٍ عنا ما يفعله الغلاة في البلدان الإسلامية من استحلال الدم الحرام والتخريب الذي لا يوافقون عليه ؛ ولسنا نغمض أعيننا عما يتهوك فيه الجفاة من جرائم مسكوتٍ عنها أو عن أكثرها . ومن هذه الجرائم الشنيعة التي يشترك فيها الغلاة مع الجفاة : الهجوم على الفتوى بلا حق ولا دليل أو آثارة من علم .ولأننا نستقبل هذه الأيام موسماً عظيماً وأياماً فاضلة بعد أن فرغنا من توديع رمضان ؛ فلا بد من النظر إلى " الفتاوى " التي يطلقها عدد من الإعلاميين والمتحدثين والكتاب حول رمضان والحج ؛ وسيكون الحديث عن مسألتين ، أولاهما : رؤية الهلال والأخرى : رمي الجمرات. ومختصر رأي من خاض في هاتين المسألتين من فئة الكتاب وأضرابهم يدور حول ما يلي : 1. الدعوة إلى توحيد رؤية هلال دخول الشهور وخروجها في جميع البلدان الإسلامية . 2. اعتماد الحسابات الفلكية في دخول وخروج شهري رمضان وذي الحجة . 3. الإفتاء " رسمياً " بجواز الرمي قبل الزوال خاصة في اليوم الثاني عشر . وهذه الأقوال المعتدلة وأما الآراء الشاذة فسقوطها يغني عن إسقاطها . وقبل التأمل في أقوالهم أشير إلى ما يلي : • اختلاف رؤية الهلال في البلدان الإسلامية ليست مسألة حادثة بل هي قديمة ومع ذلك فلم تشغل حيزاً كبيراً من التراث الفقهي . • أن الفلكيين غير متفقين في حساباتهم ولذلك نشاهد اختلافهم في تحديد بدايات الشهور ومواسم المطر والبرد وغيرها . • أن الحج محدود الزمان والمكان ؛ ولا بد من اعتبار ذلك في كل مقترح لحل إشكالاته . • ومن العدل أن أقول أن قدم المسائل ليس حجة في ترك إعادة بحثها شرط أن يكون الباحث من أهل الشأن وأن يراد من البحث مصالح شرعية . وحين نتأمل في " فتاوى الرؤية والرمي " عند الصحفيين وأمثالهم نرى ما يلي : 1. في هذه الفتاوى تعدٍ على سلطان الدولة وتجاوزٌ صريح لنظامها ؛ فمنذ زمن بعيد تُعرض مسائلُ الحج على هيئاتٍ ولجانٍ ومجامعَ علمية رسمية أو شبه رسمية ولا زال العرض مستمراً والتدوال فيها مثاراً ، فكأن هؤلاء لا يرون كفاية هذه اللجان أو يطعنون في أهليتها وربما تجاوزَ الأمر هذه الجهات إلى مُنشئها والآمرِ بها ! 2. أنَّ هؤلاءِ الخائضينَ ليسوا من أهل التخصص ؛ فليس منهم طالبُ علمٍ أو فلكي أو مهندس وأقصى مالدى بعضهم سماعٌ متحيز أو قراءةٌ غير مكتملة أو شغفٌ ب" طبوليات " المسائل بغيةَ صنع البطولات القرطاسية والانتصارات الصوتية . 3. يشتملُ جلُّ اعتراضِ الكتبة على لمزٍ قريب أو بعيد للعلماء ومنهم مَنْ قال بحق الجهات العلمية والقضائية كلاماً بذيئاً لا يُروى ؛ وليس عُجاباً أمرهم إنما الذي لا يُسوَّغ أنًّ أحداً لم يحاكم جرأتهم وأنَّ مَنْ بيده الأمر لم يغضب لحق علمائه ولجانه . وقد أحال بعضهم مسؤولية كل أقدار الحج المؤلمة على العلماء دون النظر إلى تشابك عواملَ مختلفةٍ في أحداث الحج ؛ وليست الفتيا أهمها ! 4. في التركيز على رؤية الهلال صرفٌ متعمد لأنظار الناس عمَّا يحدث في المواسم الكريمة من إفساد إعلامي وانتهاك حرمة الصيام و تجافٍ عن أي فكرة إيجابية قد يُنتفع منها . وفي التركيز على الرمي إغضاءٌ عن قضايا أهم كما يحدث من مظاهر شركية ومن غياب الوعي بين الحجاج . 5. لم يتحدث غالب هؤلاء عن المعاني الإيمانية للصوم والحج ولم يتطرق أحدٌ منهم للسؤال عن الوحدة الإسلامية أو عن أحوال المسلمين وبلدانهم ومايمور بها من أحداث إبَّان الصيام أو الحج . 6. إن مطالبتهم بتعميم فتوى الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر لا تغير من مشكلة الزحام شيئاً ألبتة . فبدلاً من تزاحم الناس بعد الزوال سيتزاحمون بعد الشروق مع بقاء متعلقات الزحام كماهي دون تغيير سوى التبكير في نتائجها . 7. يُشار إلى أنه بتتبع مقالات وأحاديث هذه الفئة لم نجد منهم من ندب نفسه للحديث عن تحقيق معنى الشهادتين أو الشرك حول القبور أو التهاون في الصلاة إلى غير ذلك . ويستبين من هذا التتبع أن الرمي والرؤية مستغلان من قبل " الأقزام والدمى " كمادةٍ للهجوم على دين الله وعلى علماء الشريعة ومشايخ البلاد والفقه الحنبلي . ولم يخط أحدٌ من هؤلاء المتباكين على الصيام والفطر خلال ثلاثة أيامٍ متفرقة حرفاً واحداً في استنكار خلافات الشيعة العقدية أو جرائمهم بحق مواطنيهم من أهل السنة . 8. أخشى أن تستغل أحاديثهم وأقوالهم كجسر من قبل أي شخص معتوه أو مشبوه وينفذ من خلالها لدعوات مريبة حول الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة . 9. أن هذه الأقوال الكيدية الآثمة تنسف كل منجزات الدولة وجهودها وما صرفته من أموال ضخمة وأوقات ثمينة في سبيل خدمة الحرمين والمشاعر وزوارهما ؛ وهي إنجازات جديرة بالتباهي والفخر من ناحية وبالتسديد والمقترحات العملية المناسبة من ناحية أخرى . ولإتمام القول أقترح ما يلي : 1. تعاون جميع الجهات الحكومية لرفع مستوى الوعي بأحكام الحج وسبل التيسير فيه ومبادئ السلامة في المشاعر ؛ ومن هذا الباب ألا تمنح التأشيرة إلا بعد التحاق طالب الحج ببرنامج تعليمي معتمد حسب مذهب بلده ؛ ومنها توزيع الأدلة المصورة على الحجاج القادمين من جميع المنافذ ، ومن أهمها توجيه كل وسائل الثقافة الإعلام لخدمة هدف صحة الحج وسلامة الحجاج بالبرامج الهادفة المُحكَّمة ؛ ولاننسى التأكيد على أهمية نشاطات الأمانة العامة للتوعية والإفتاء في الحج . 2. إخراج جميع الإدارات الحكومية من أرض منى بحيث لايبق فيها إلا ماليس بدٌ من بقائه في أضيق الحدود وأنسب الأماكن الجغرافية موقعاً ومساحة . 3. تنظيم حج الوفود الرسمية والمواكب ؛ بحيث يلزمون برخص الحج جميعها ويلتزمون بكل مالا يضيق على الناس ؛ ومن هذا الباب التوكيل بالحج جملة واحدة أو التأخر في الرمي والشروع في أداء بعض المناسك حين يخف الزحام . 4. إعادة هندسة طرق المشاعر ومداخلها بما يجعل الحركة انسيابية سلسة للراكب والراجل . 5. إشاعة فتاوى الحج المختلفة ما لم تكن شاذة أو منكرة دون إلزام ؛ وقمين بالمفتي أن يذكر الأقوال المعتبرة في المسألة ثم يبين اختياره . 6. تأليف لجنة دائمة مشتركة لتحري الأهلَّة كل شهر بما يحقق الضبط والإطمئنان وإعلان نتيجة عمل اللجنة شهرياً . ونسألُ الله في الختام أن ييسر للحجاج مناسكهم وأن يتقبل منهم ويردهم جميعهم لديارهم وأهليهم سالمين مأجورين ؛ كما ندعو للقائمين على شؤون الحج والحجاج بالعون والتوفيق والمثوبة فنحن – أهل الحرمين- شركاء معهم في الخدمة والهم . أحمد بن عبد المحسن العساف- الرياض الخميس 23 من ذي القعدة الحرام 1427 ahm_assaf@yahoo.com