بسم الله الرحمن الرحيم (يا حجاج الداخل: هل تعلمون أن الإفراد أفضل من التمتع؟)
في شهر ذي القعدة من عام 1412هـ كتبت مقالاً في مجلة اليمامة موجهاً لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله, بعنوان: (الحج بالإفراد قد يقلل الطائفين نصف مليون). وعلمت فيما بعد أن سماحته قد اهتم بالموضوع وأحاله إلى لجنة لدراسته, وقد تكون هذه اللجنة أعدت الدراسة المطلوبة, لكني لم أر شيئاً عن نتيجة هذه الدراسة, ولذا فقد رأيت بعث الموضوع من جديد؛ لأن أموراً جديدة ظهرت تستدعي طرح هذا الموضوع وغيره من الموضوعات التي تصب في خدمة توجه الدولة الجاد إلى تخفيف الزحام وتيسير سبل الحج, وآخر الخطوات المتخذة في هذا الصدد والتي لجأت إليها الدولة - وفقها الله- مضطرة,وكانت تتحاشى اللجوء إليها, هي تقنين الحج للسعوديين وضرورة حصولهم على التصريح الذي يسمح لهم بالحج ويمنعهم من تكراره قبل مضي خمسة أعوام, ولا شك في أن إقدام الدولة على هذا القرار يعني أنها قد استنفدت آخر سهم في الجعبة وأن الأمر عندها قد وصل مرحلة الضرورة, وهذا ليس بمستغرب على هذه البلاد المباركة التي جعلت خدمة الحجاج والسعي على راحتهم شغلها الشاغل وهمها الأول, ويجدر بنا نحن المواطنين أن نقف مع الدولة وندعمها في هذا التوجه الخيّر والهدف النبيل, وذلك بالتعاون والسمع والطاعة وتقبّل هذه التنظيمات بصدر رحب؛ لأنها تصب في خدمة أجهزة الدولة وتيسير مهماتها وخدمة المسلمين وراحتهم وإيثارهم, كما يجدر بنا أن نسهم مع الدولة في اقتراح ما نراه من الحلول التي تيسر الحج وتخفف الزحام وتريح الحجاج حتى ولو كانت حلولاً جزئية. وأحسب أن هذا الموضوع الذي سبق أن طرحته ورأيت تجديد طرحه الآن على إلحاح من عدد من الزملاء وطلاب العلم الذين أظهروا اهتماماُ به منذ طرحته في المرة الأولى وما زالوا, وهو الدعوة إلى اختيار نسك الإفراد من قبل حجاج الداخل الذين يصل عددهم – عادة- إلى حدود المليون, بدل نسك التمتع الذي دأبوا على اختياره بناءً على الرأي المشهور في المذهب والذي يفتي به غالباً مشايخ المملكة وهو أن أفضل الأنساك الثلاثة هو التمتع. ولست أعني جميع حجاج الداخل, وإنما أخص منهم من أدوا مناسك العمرة في رمضان أو غيره من أشهر العام نفسه الذي ينوون الحج فيه, فإن الإفراد في حق هؤلاء أفضل من التمتع. وقبل أن يقول قائل: كيف تفتي في مثل هذه الأمور الشرعية الحساسة بناءً على رغبة أو استحسان؟ فإني أقول: إن مثلي لا يجرؤ على ذلك قبل أن يبحث المسألة ويستند فيها على رأي قاطع ممن يعتد به من العلماء, فقد رجعت إلى عدد كبير من كتب الفقه المعتبرة, وخرجت بنتيجة طيبة, وأود أن أطلع القراء على خلاصتها, ثم أدعمها ببعض النصوص, على النحو التالي: أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الحاج مخير بين الأنساك الثلاثة, وهي التمتع والإفراد والقران, وإنما الخلاف بينهم في الأفضل منها. ثانياً: مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي تفضيل الإفراد مطلقاً, ومذهب الإمام أبي حنيفة تفضيل القران, ومذهب الإمام أحمد تفضيل التمتع بصفة عامة. ثالثاُ: هناك صور وحالات معينة يتفق فيها الأئمة الأربعة وجمهور الصحابة على تفضيل (الإفراد) على بقية الأنساك, وهذه الصور والحالات هي محل الشاهد, وهي التي حملتني على طرح هذا الموضوع من أجل إبرازها وإظهارها وعرضها على سماحة المفتي وغيره من طلاب العلم للنظر فيها وتوجيه الناس إلى الرأي الصحيح, وخلاصتها: أن الشخص إن كان قد جاء بعمرة في عامه هذا ثم رجع إلى بلاده وأنشأ الحج بعد ذلك في العام نفسه فالإفراد أفضل في حقه من التمتع أو القران. وهذه بعض النصوص التي توضح هذا الأمر وتؤيده: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الحج وهو المجلد السادس والعشرون من مجموع الفتاوى في صــ85ـــ عند حديثه عن الأنساك الثلاثة والمفاضلة بينها: ((وأما قول القائل: أيّما أفضل؟ فالتحقيق في هذه المسألة أنه إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة, وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة مع مالك والشافعي وغيرهم, وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي رضي الله عنهم, وقال عمر وعلي في قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) قالا: إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك, وإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله فأنشأ منها العمرة, أو اعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج, أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج فهذا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله, وهذا أتى بهما على الكمال فهو أفضل من غيره)). وورد في صــ101ـــ مايلي: (( فصل في الأفضل من ذلك: فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج, فإن كان يسافر سفرة للعمرة, وللحج سفرة أخرى, أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج, فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة)) وورد في صــ37ــ مايلي: ((ومذهب الإمام أحمد أيضاً أنه إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة, فهذا الإفراد أفضل له من التمتع, نص على ذلك في غير موضع وذكره أصحابه كالقاضي أبي يعلى في تعليقه وغيره)). وقال في صــ45-46ــ : ((فالصحابة الذين استحبوا الإفراد كعمر بن الخطاب وغيره إنما استحبوا أن يسافر سفراً آخر للعمرة, ليكون للحج سفر على حدة وللعمرة سفر على حدة, وأحمد وأبو حنيفة وغيرهما اتبعوا الصحابة في ذلك, واستحبوا هذا الإفراد على التمتع والقران, قال أبو بكر الأثرم: قيل لأبي عبدالله - يعني أحمد بن حنبل- فأي العمرة عندك أفضل؟ قال: أفضل العمرة عندي أن تكون في غير أشهر الحج كما قال عمر, فإن ذلك أتم لحجكم وأتم لعمرتكم أن تجعلوها في غير أشهر الحج, قيل لأبي عبدالله: فأنت تأمر بالمتعة - يعني التمتع- وتقول: العمرة في غير أشهر الحج أفضل؟ فقال: إنما سئلت عن أتم العمرة, فقلت: في غير أشهر الحج, وقلت:المتعة تجزيه عن عمرته, فأتم العمرة أن تكون في غير أشهر الحج)). وقال في صــ48-49ـــ: ((وأما من قال من الفقهاء: الإفراد أن يحج ويعتمر عقب ذلك من مكة, فهذا غالط بإجماع العلماء فإنه لا نزاع بينهم في أن من اعتمر قبل أشهر الحج ورجع إلى بلده ثم حج, أو أقام بمكة حتى يحج من عامه أنه مفرد للحج, وكذلك لو اعتمر بعد الحج في سفرة أخرى فإنه مفرد بالاتفاق, وهذا الإفراد هو الذي استحبه الصحابة وهو مستحب أيضا عند أحمد وغيره, فإن الاعتمار في رمضان والإقامة إلى أن يحج أفضل من التمتع, وإن كان الرجوع إلى بلده ثم السفر للحج أفضل منها)). وفي صــ92ــ: تحدث رحمه الله عن العمرة في رمضان وفضلها وأنها تعادل حجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن رمضان هو شهر الصيام وهو قبل أشهر الحج, ثم قال: ((ومن حج من عامه كان أفضل من التمتع)). انتهى النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وكلامه الأخير الذي نص فيه على أن العمرة في رمضان ثم العودة والسفر للحج مرة أخرى أفضل من التمتع, ينطبق على نسبة 90% من حجاج الداخل تقريباً من السعوديين والمقيمين فأكثرهم قد أدوا العمرة في رمضان أو قبله بشهر أو شهرين أو أكثر خلال العام نفسه. وقد عرض الشيخ الشنقيطي رحمه الله لهذه المسألة, وهي المفاضلة بين الأنساك الثلاثة في الجزء الخامس من تفسيره ( أضواء البيان) في ست وأربعين صفحة, تبدأ من صــ126ــ , وتنتهي بنهاية صــ171ــ , وفصّل فيها أدلة المالكية والشافعية على تفضيل الإفراد, وأدلة الأحناف على تفضيل القران, وأدلة الحنابلة على تفضيل التمتع, ثم ختم ذلك بترجيح ما ظهر له, فقال في صــ171ــ: ((قال مُقيّده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في هذه المسألة هو ما اختاره العلامة أبو العباس بن تيمية رحمه الله في منسكه وهو إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلاً وإنشاء سفر أخر مستقل للعمرة, فقد قال رحمه الله في منسكه إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة ألبتة, وإنما قال: إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما. فاختار لهم عمر أفضل الأمور وهو إفراد كل واحد بسفر ينشئه له من بلده, وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى. وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم, وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي..... )). وقد استمر الشنقيطي في نقل كلام ابن تيمية المتقدم, ثم قال في النهاية: ((فترى هذا العلامة المحقق صرح بإن إفراد كل منهما بسفر أفضل من التمتع والقران, وأن الأئمة الأربعة متفقون على ذلك, وأن عمر وعلياً يجريان ذلك عملاً بنص القرآن العظيم)). انتهى كلامه رحمه الله, وأكتفي بهذه النصوص, ففيها ما يحقق المراد, وهناك نصوص أخرى غيرها, وكلما كثرت قراءتي في هذا الموضوع ازداد تعلقي به واشتدت الرغبة عندي في إثارته أملاً في أن يتصدى له المختصون لتجليته وبيانه للناس وتوجيه الفتوى إليه إن حصل الاقتناع به. واهتمامي به جعلني أتابع أحوال الحجاج من المعارف والأصدقاء وأسأل عن الأنساك التي يختارونها, وقد عجبت حينما ذكر لي أحد الإخوة ممن حجوا مع إحدى الحملات أن عدد حجاج حملتهم يزيد عن الخمسمائة وكلهم متمتعون ماعدا ثلاثة كانوا مفردين, وأن هؤلاء الثلاثة ندموا ندماً شديداً على اختيار الإفراد وترك التمتع, بسبب ما واجهوه من العتاب واللوم والتأنيب من بقية رفاقهم بالحملة؛ لأنهم في رأيهم قد عدلوا عن النسك الفاضل إلى نسك مفضول, بل إنهم واجهوا من البعض اتهاماً قاسياً بالبخل والتهرب من شراء الهدي, وهذه النظرة السائدة عند الغالبية, وهذا الفهم القاصر لأنساك الحج والمفاضلة بينها – على الرغم من وضوح النصوص السابقة وصراحتها- يعطيان القضية مزيداً من الاهتمام ويجعلانها جديرة بإن ينتدب لها المختصون. وقد سألني أحد الإخوة وهو من قضاة المحكمة الكبرى – عندما أثير هذا الموضوع في منزل أحد الأصدقاء- فقال: لا شك في أن ما ذكرته أمر محمود وطيب وهو كون الإفراد يفضل بقية الأنساك في بعض الصور بالإجماع, ولكن ما قولك في الدليل الذي بُني عليه تفضيل التمتع وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي.....) ثم أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يتحللوا بعمرة ويصيروا متمتعين. فقد تمنّى الرسول صلى الله عليه وسلم التمتع وأمر به أصحابه. فقلت لهذا الأخ الكريم: لقد طرحت هذا السؤال على نفسي منذ مدة, ورأيت أنه يلزمني قبل الإجابة عنه البحثُ في العُمر التي اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان قد اعتمر في عامه هذا الذي حج فيه وهو العام التاسع قبل أن يقدم للحج في أي شهر من أشهره فإن دليلنا سيضعف. وبعد البحث تبيّن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في عامه هذا, وإنما اعتمر في ذي القعدة من العام الذي قبله وهو الثامن, وفي ذي القعدة من العام السابع, وفي ذي القعدة من العام السادس, فهي ثلاث عُمر فقط, تضاف إليها عمرته التي قرن بها الحج في العام التاسع وهي حجته الوحيدة المعروفة بحجة الوداع. وقد نص على ذلك العلامة ابن القيّم في كتابه: زاد المعاد 1/171 , والشيخ الشنقيطي في أضواء البيان 5/659 وغيرهما. وبهذا يتبيّن – استناداً على ما رجحه الإمام ابن تيمية والشيخ الشنقيطي فيما سبق- أن الأفضل في حقه صلى الله عليه وسلم هو التمتع؛ لأنه لم يعتمر في عامه الذي حج فيه. هذا ما ظهر لي والله أعلم بالصواب. وقد يقول قائل: إن القضية أقل أهمية من هذا الحجم الذي وضعتها فيه!!, فما الفرق بين أن يختار الحجاج الإفراد أو التمتع؟ وأقول: إن هناك فرقاً كبيراً بينهما, وبخاصة في هذه السنوات الأخيرة التي بدا الازدحام فيها شديداً, واشتدت المشقة والنصب على الحجاج من جراء هذا الزحام, وصارت الحكومة تستنفر وتبذل جهوداً مضنية للتيسير على الحجاج وتخفيف معاناتهم, وتبحث جاهدة عن الوسائل والأساليب المعينة على ذلك, ومن أخر ذلك التنظيم الجديد للحجاج السعوديين الذي بدأ منذ سنوات, وصار العلماء يجتهدون في الفتاوى التي تيسر على الحجاج ولا تخل بشيء من أعمال الحج, وقد قرأت لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فتوى قديمة نشرتها جريدة البلاد في عدد يوم الاثنين 5/12/1411هـ ينص فيها سماحته على أن التبرع والصدقة بنفقة الحج أفضل من حج التطوع. وقرأت فتوى حديثة مماثلة لفضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء نشرتها صحيفة الجزيرة يوم الجمعة 27/11/1428هـ ينص فيها على: (أن من أدى فرضه، فالأولى أن لا يكرر الحج في هذه الظروف الصعبة، ويترك المجال لغيره ممن لم يحج، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، مشيرا إلى أن هناك مجالات واسعة لفعل الخير غير الحج النافلة، بإمكان المسلم أن يساهم فيها، وقد يكون أجرها أعظم من حج النافلة، هذا لو كان الحج متيسرا، فكيف إذا كان الحج متعسرا كما عليه الحال في هذه الأزمان) إلى آخر ما نقلته عنه الصحيفة. ومسألتنا التي نحن بصددها تخدم هذا الاتجاه وهو الرغبة في التيسير على الحجاج وتخفيف الزحام, حيث إن الإفراد يسقط فيه عن الحجاج طواف وسعي. فإذا زاد عدد الحجاج المفردين عن نصف مليون تبين لك مدى الأثر الذي سيحدثه هذا العدد على المطاف والمسعى من السعة والراحة, وكلما زاد عدد المفردين زاد هذا الأثر العظيم وحصل التخفيف عن الحجاج ولئن كان التمتع أرفق بالحاج الذي يصل إلى مكة مبكراً في ذي القعدة, ويشق عليه البقاء في إحرامه مدة طويلة, والتمتع يتيح له فسخ الإحرام بعد العمرة ولا يعود إليه إلا في اليوم الثامن, فإن الإفراد أرفق بحجاج الداخل الذين لا يصلون إلى مكة في هذه السنوات الأخيرة إلا في اليوم السابع أو الثامن من ذي الحجة فيشق عليهم التمتع لأنه يلزمهم الإتيان بعمرة ثم فسخ الإحرام والعودة إليه في هذا الوقت الضيق. وقد سمعت فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله المطلق يفتي به الحجاج الذين لا يصلون إلى مكة إلا قبل يوم التروية بيوم أو يومين ويرى أنه الأفضل في حقهم لأنه أرفق بهم, دون أن يسألهم هل اعتمروا في عامهم أو لا؟. يضاف إلى ذلك كله مسألة مهمة جداً وهي مسألة الهدي, فإن الحاج المفرد لا هدي عليه, ومعلوم أن سقوط الهدي عن هذا العدد الكبير من المفردين سيقلل من كمية اللحوم التي تتعرض للتلف والفساد في مسالخ منى, على الرغم من جهود الحكومة العظيمة في الاستفادة من لحوم الهدي والأضاحي ممثلة في البنك الإسلامي, حيث إن ما يذبح في منى خلال يوم العيد وأيام التشريق من الهدي والأضاحي والفدي الذي يجبر به النسك ممن وقع في محظور من المحظورات كل ذلك يفوق طاقة البنك, فإن المذبوح قد يصل إلى مليوني رأس, وطاقة البنك لم تصل إلى المليون بعد. ومن خلال ما تقدم من الفوائد المترتبة على اختيار الإفراد من تخفيف الزحام والجهد على الحاج نفسه وعلى غيره من الحجاج والعاملين في أجهزة الدولة, ومن الإسهام في تقليل كميات اللحوم المتلفة أظن أن الحاج الذي قد اعتمر في العام نفسه صار لديه اقتناع باختيار الإفراد حتى ولو كان نسكاً مفضولاً, فما بالك بعد ما تبيّن أنه هو الأفضل ويحقق كل هذه الفوائد. أخيراً, ومع كل ما تقدم فلست أزعم أن ما كتبته حول هذا الموضوع يعد قولاً فصلاً فيه, فلست من أرباب هذا الفن ولا من فرسانه, وإنما من محبيه, وقد حملني على العناية بهذا الأمر والاهتمام به استشعار المسؤولية تجاه ضيوف الرحمن والرغبة في الإسهام مع الدولة ببعض الحلول الناجعة – ولو كانت يسيرة- لتخفيف هذه المعاناة العظيمة والضغط الكبير الذي يعاني منه العاملون والحجاج, وخير الحلول في نظري ما حقق فائدة ظاهرة ولم يخل بشيء من أحكام الحج, ولم يحتج إلى تكاليف وأعباء مالية إضافية, ومقترحنا هذا – بحمد الله – من هذا النوع. ومازلت شديد الأمل بأن يحظى هذا الموضوع بما يستحقه من الاهتمام لدى سماحة المفتي العام حفظه الله وبقية العلماء وطلاب العلم الأفاضل وغيرهم من المسؤولين المعنييّن وسائر المسلمين العازمين على تأدية هذا النسك العظيم, ومن بوادر الاستجابة المشجعة لهذا الاقتراح أنه جمعني لقاء في منزل الشيخ الدكتور صالح السدلان بفضيلة الشيخ/ عبدالله بن جبرين/ رحمه الله, وأثار أحد الزملاء هذا الموضوع, وذكر للشيخ أنني قد كتبت فيه شيئاً, وعندما عرضت الموضوع على فضيلته بتفاصيله, علق بتعليق علمي نفيس فيه تفصيل جيد, وختمه بالقول إنه من المؤيدين لهذا الرأي وأنه يعمل به ويفتي به, وقد استأذنت فضيلته في نشر ذلك ونسبته إليه فأذن رحمه الله بذلك. كما أن مضيفنا الشيخ السدلان قد أظهر تأييده لذلك وإعجابه بالموضوع. أسأل الله أن يزيدنا فقهاً في دينه وأن يتقبل من الحجاج حجهم ويثيب الساهرين على خدمتهم وراحتهم.
د. محمد بن خالد الفاضل جامعة الأمير سلطان بالرياض 5/12/1430هـ