حينما يجتمع الناس، ويكثر احتكاك بعضهم ببعض؛ يبرز أصحاب معالي الأخلاق، ومحاسن الآداب، ودماثة النفوس.
ونحن نعيش في وسط ذلك الزحام الذي جاء من كل فج عميق، ونرى ذلك الجمع العجيب الذي يذكرنا بيوم الدين، نتذاكر ما ينبغي أن يكون عليه الحاج وما يحسن أن يتحلى به من خلق العون والمساعدة لإخوانه الحجاج.
إن ديننا الإسلامي يدعو إلى كل فضيلة، ويحب فعل كل خير، ومن أجلِّ ما يدعو إليه تقديم العون للآخرين، فكثيراً ما تأتي النصوص تحث على ذلك، فمن ذلك قول الله جل في علاه: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[1]، إنك تعين من؟ تعين حاجاً من حجاج بيت الله الحرام، إنك تعين ضيفاً من ضيوف الرحمن، يقول السعدي عند هذه الآية: "أي: ليعن بعضكم بعضاً على البر، وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين، والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة، وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها وينشط لها، وبكل فعل كذلك"
[2].
فمساعدة الحجيج تعاون على البر والتقوى، وهذا فعل النبيين الذين رباهم الله جل في علاه من فوق سبع سماوات، فهذا موسى عليه السلام مع ما كان فيه من مشقة سفر، وهلع وفزع إلا أنه قام بواجب المعاونة والمساعدة، يقول الله جل وعلا: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[3]، وقد كانت حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير مثال يحتذى به في كل شيء، ولاسيما إغاثة الملهوف، وتقديم العون لكل من يحتاج إليه، حتى لقد عرف بذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، فعند نزول الوحي عليه أول مرة رجع إلى خديجة فأخبرها الخبر ثم قال: "((أي خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي)) فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"[4]، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..))[5]، ويقول أيضاً صلوات الله وسلام عليه: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته))[6].
ولم أر كالمعروف أما مذاقه * * * فحلو وأما وجهه فجميل
والحج هو موسم المعروف الأكبر، وموسم التعاون العظيم، إنه مجال واسع لفعل الخيرات، وتقديم الإحسان للغير، فالحجاج منهم الكبير العاجز، ومنهم المرأة الضعيفة، ومنهم الطفل الصغير، وغيرهم ممن يكثرون في تلك البقاع الطيبة، وهنا تبرز معالم هذا الدين الإسلامي، هنا تظهر الشهامة، والكرم، هنا تظهر محاسن الأخلاقية، والإبداع السلوكي ..
اقض الحوائج ما استطعت *** وكن لهمِّ أخيك فارج
فلخير أيام الفتى *** يوم قضى فيه الحوائج
جوانب مساعدة الحجاج:
في جانب مساعدة الحجاج تعمل مؤسسات كبيرة تهيؤها الجهات المنظمة للحج، ولهم في ذلك بإذن الله الأجر الكبير.
لكن ما يجدر أن نذكر به أنفسنا هو خدمة الحاج للحاج، إذ قد يحتاج مسلم إلى مساعدة أخيه في أمر ما فيبخل عليه به مع استطاعته، وقد يقول أنه مشغول بالعبادة، والتفرغ للعبادة أمر مهم وجميل، لكن قد يكون فعل الخير للغير في وقت من الأوقات أفضل من العبادة، يقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: ((.. ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد "يعني مسجد المدينة" شهراً))[7].
وحاجة الحاج للحاج تتمثل في أمور عديدة منها:
- حاجته إلى الإرشاد والتوجيه، وبذل النصيحة والتعليم، وهذا من أجل النفع الذي قد يقدمه المسلم لأخيه المسلم، وكم من أخطاء يقع فيها الحجاج ولا تجد من يصحح مع وجود من يعلم الصحيح لكن أين بذل الخير، وهنا فرصة لمن أراد الأجر من الله عز وجل، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحج، فها هو ذا يمر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: ((قده بيده))[8].
- كثيراً ما يسأل الحجاج عن أماكن المناسك، أو أماكن الإقامة، فيحتاجون من يعاونهم في ذلك، وهذا من هداية الضال، وتعليم الجاهل، وإعانة المحتاج.
- قد تقل المؤونة عند بعض الحجاج الفقراء -ولا أعني من اتخذ موسم الحج فرصة لسؤال الناس- فتجد من أهل العفة من يحتاج إلى أقل مساعدة أو عطاء، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[9].
- مساعدة من قد يصيبه الضرر من الحجاج، وذلك بإسعافه، وإبلاغ الجهات الطبية المتواجدة في ذلك المكان، وأثناء الزحام عند أداء النسك قد يحصل مثل ذلك، فيقدم المسلم لأخيه كل ما يستطيع لإنقاذ حياته.
.. هذه بعض الأمور التي قد يحتاجها المسلم، وهي أمور متجددة، والمهم في ذلك هو وجود روح المساعدة والتعاون بين المسلمين وهم يتجهون إلى بيت واحد، ويعبدون رباً واحداً، ويقفون في موقف واحد..: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[10].
والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة المائدة (2).
[2] تفسير السعدي (1/218).
[3] سورة القصص (23-24).
[4] رواه البخاري (4572)، ومسلم (231).
[5] رواه مسلم برقم (4867).
[6] رواه البخاري (2262)، ومسلم (4677).
[7] المعجم الكبير (12/453)، حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/574).
[8] رواه البخاري (1515).
[9] سورة الإنسان (8).
[10] رواه البخاري (5552)، ومسلم (4685)بلفظه.