الإحرام بالنسك هو رحلة تعبدية معمورة بالذكر، مغمورة بالدعاء من حين أن يضع الحاج رجله في الغرز مسافراً، وحتى موعد إيابه بدخوله قريته التي سافر منها.
والواقع أن مشاهد الابتهال والضراعة متكررة يعيشها الحاج في مواقف عديدة: عند الصفا والمروة، ويوم عرفة، وبعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى، وحين شرب ماء زمزم، وهذا يؤكد متانة الصلة بين الدعاء وبين سائر العبادات بما في ذلك الحج، فلا تكاد عبادة تخلو من دعاء وذكر. وتأمل ما كتبته أنامل العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله مؤكداً أثر هذا الملمح يقول: "إنّ وَضْع كلمة ((الدين)) في قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (سورة غافر:14)، موضع كلمة العبادة (وهو في القرآن كثير جداً) يدل على أن الدعاء هو لبُّ الدين، وروح العبادة"
[1].
ولعلك تلمس هذا الارتباط أيضاً في قول سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، يقول الإمام الشوكاني موضحاً مراد الحديث: "أي: أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة، وأرفعها، وأشرفها"
[2].
وهنا نود الإشارة إلى موطن من مواطن الدعاء في الحج ينبغي للعبد أن يقف فيه بقلبه قبل أن تمسه جارحة رجله، وأن يعيش فيه موقف الانكسار والافتقار بين يدي العظيم جل جلاله؛ يسأله من فضله، ويرجوه من خيره، وهذا الموطن هو "مشعر مزدلفة" (المشعر الحرام) كما قال ابن عمر رضي الله عنه: "المشعر الحرام المزدلفة كلها"
[3].
فبعد أن يقضي الحجاج لحظات الإنابة والإخبات بقلوب مرتاعة، ودموع رقراقة على صعيد عرفات؛ إذا بهم يفيضون إلى مزدلفة بعد غروب شمس يوم عرفة، فيبيتون ليلتهم فيها، حتى إذا صلوا الفجر وقفوا عند المشعر الحرام إلى أن يسفر الصبح جداً؛ يدعون ربهم بأكباد محترقة، ودموع مستبقة، كم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه.
يقفون بالمشعر الحرام مستشعرين هيبة المشعر، وجلالة الموقف، معلنين افتقارهم، قد رفعوا أكفَّ الضراعة إلى بارئهم امتثالاً لأمره يوم أن قال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (سورة البقرة:198)؛ قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه، {فَاذْكُرُواْ اللّهَ} يعني بذلك: الصلاة، والدعاء عند المشعر الحرام"
[4].
ويشير الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" إلى هذا المعنى بقوله: "{فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِِ أي: اذكروه بالدعاء، والتلبية عند المشعر الحرام"، ثم قال: "وسمي المشعر مشعراً من الشعار وهو العلامة؛ لأنه معلم للحج والصلاة، والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج"
[5].
يحتذون في ذلك بصفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه أن وقف في المشعر، ودعا ربه عنده. يقول جابر بن عبد الله واصفاً حجته عليه الصلاة والسلام: "ثم ركب القصواء، حتى إذا أتى المشعر الحرام؛ فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً" رواه مسلم برقم (3009).
يقول العلامة ابن باز رحمه الله: "ويسن رفع اليدين مع الدعاء في مزدلفة مستقبلاً القبلة كما فعل في عرفة"
[6].
وقد يغفل كثير من الحجاج عن الدعاء في هذا الموطن، فتجدهم بمجرد أن يصلُّوا الفجر يشرعون في النفر من مزدلفة، وهذا فيه تفويت لهذه الفرصة العظيمة لمناجاة المولى سبحانه وتعالى ودعائه، وفيه أيضاً تقصير في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ويحسن الإشارة إلى مسألتين متعلقتين بالدعاء في مزدلفة:
الأولى: أشار إليها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه "الشرح الممتع"، وهي: "إذا انصرف الحاج من مزدلفة قبل الفجر فهل يشرع له أن يدعو عند المشعر الحرام؟ فأجاب رحمه الله: أن نعم، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يرسل أهله فيذكرون الله عند المشعر الحرام، ثم يأمرهم بالانصراف قبل الفجر"
[7].
والثانية: اعتبار محل الوقوف للدعاء في مزدلفة يقول العلامة ابن بار رحمه الله: "وحيثما وقفوا (أي: الحجاج) من مزدلفة أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم القرب من المشعر ولا صعوده لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((وقفت هاهنا (يعني: على المشعر)، وجمع كلها موقف)) رواه مسلم برقم (3009)، وجمع: هي مزدلفة"[8]، ولما سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يلزم أن يكون الدعاء عند المشعر الحرام؟ قال رحمه الله: "الذي يظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف)) أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلف ويتحمل مشقة من أجل الوصول إلى المشعر، بل يقف في مكانه الذي هو فيه، وإذا صلى الفجر فيدعو الله عز وجل إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع إلى منى"
[9].
فيا أيها المبارك: انثر العبرات، واسكب الدمعات في هذه العرصات، عساك أن تُرحم مع المرحومين، وتُكتب من التائبين، وتزجُّ في المقبولين، وليكن لسان حالك:
أمولاي إني عبد ضعيــف أتيـتك أرغب فيما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب وهل يُشتكى الضر إلا إليك
فمنَّ بعفوك يا سيـــدي فليـس اعتمادي إلا عليك
أيها الموفق:
الله الله بالدعاء فإنك في موطن إجابة، ومحل ضراعة، وموقف التجاء، وقد اجتمع لك شرف المكان، وفضيلة الزمان، فأظهر الفقر والفاقة، وألح على ربك جهدك والطاقة، وتيقن أن الدعاء سلاحك أيها المؤمن فخذ بمجامعه تغنم أعظم الغنم قال الحسن بن عمران بن عيينة: أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: "قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: "اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة"
[10].
اللهم وفقنا لدعائك على الوجه الذي يرضيك عنا، وأعذنا من دعوة لا يستجاب لها، وألهمنا صالح الدعاء، وامنن علينا بالإجابة والأخذ بأسبابها، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
[1] القواعد الحسان في تفسير القرآن (109).
[2] تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني (29).
[3] الاستذكار لابن عبد البر (4/291).
[4] تفسير الطبري (4/175).
[5] تفسير القرطبي (2/421).
[6] تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام (298).
[7] الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/314).
[8] التحقيق والإيضاح (31).
[9] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (23/89).
[10] تهذيب التهذيب لابن حجر (4/106).