رمي الجمرات
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
في يوم النحر وبقية أيام الحج على الحاج أن يقوم بواجب من واجبات الحج وهو رمي الجمرات، وهي ثلاث: جمرة العقبة، والجمرة الوسطى، والجمرة الصغرى.
حكم الرمي:
اختلف أهل العلم في حكم رمي الجمرات على أقوال:
القول الأول: أنه واجب من واجبات الحج، فيجب بتركه دم، وهذا هو المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة
1، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخَّر إلا قال: افعل ولا حرج) رواه البخاري: (83) ومسلم (1306), فأمر صلى الله عليه وسلم بالرمي، والأصل في الأمر الوجوب، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قد قال: (لتأخذوا مناسككم) مسلم (1297)، واللام لام الأمر أي خذوا.
حتى إن الكاساني بالغ في ذلك فقال: "الأمة أجمعت على وجوبه
2" ، والتحقيق أن عامة الأمة على القول بالوجوب إلا أن الإجماع غير متحقق في هذه المسألة لوجود المخالف.
القول الثاني: أنه ركن من أركان الحج، وبه قال داود وأصحابه، وروي مثله عن الزهري، وابن الماجشون من المالكية
3.
القول الثالث: أنه سنة مؤكدة، قاله عياض من المالكية
4.
وقت الرمي:
- أما يوم النحر فالرمي لجمرة العقبة فقط، ويكون بعد طلوع الشمس وقت الضحى، والعلماء قد "أجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم النحر - في حجته - جمرة العقبة بمنى يوم النحر بعد طلوع الشمس، وأجمعوا على أن من رماها ذلك اليوم بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها، وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها"
5، وهذا الوقت متفق على صحة الرمي فيه، وهو وقت الفضيلة.
- وإنما وقع الخلاف بين العلماء في وقت الإجزاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يبدأ من نصف الليل من ليلة النحر، ذهب إلى هذا القول عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد، والشافعي
6، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعني عندها)) رواه أبو داود برقم (1942) وضعفه الألباني.
القول الثاني: أنه يجزئ بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، وهو قول مالك7 وأصحاب الرأي8، وإسحاق وابن المنذر، وروي عن أحمد
9.
القول الثالث: لا يجزئ إلا بعد طلوع الشمس وبهذا قال مجاهد والثوري والنخعي
10.
- وأما أيام التشريق فيكون الرمي بعد الزوال قال جابر رضي الله عنه: (رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال) رواه البخاري في باب رمي الجمار، وعن وبَرَةَ بن عبد الرحمن قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحَيَّنُ، فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري برقم (1659).
فقوله: متى أرمي الجمار؟ يعني في غير يوم الأضحى، وفيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقاً، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه
11.
فتلخص في المسألة ثلاثة أقوال:
- جواز الرمي قبل الزوال مطلقاً.
- منع الرمي قبل الزوال مطلقاً.
- جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثالث.
أما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق لا نزاع نعلمه، بل على من تركها دم، ولا يجزئ رميُها بعد ذلك
12.
وجمرة العقبة هي الجمرة الكبرى، وليست من منى، بل هي حد منى من جهة مكة، وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة اسم لمجتمع الحصى، وسميت بذلك لاجتماع الناس به13، ويبدأ بها في الرمي في أول يوم، ثم تصير أخيرة في كل يوم بعد ذلك14، وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحباب
15.
مكان الرمي:
"يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات رافعاً يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات، ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويستبطن الوادي، ويستقبل القبلة ولا يقف عندها"
16.
فيرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وتكون مكة عن يساره لما ورد عن عبد الله رضي الله عنه أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري برقم (1661) واللفظ له، ومسلم برقم (1296)، لكن "هذا في الوقت الحاضر قد يكون صعباً قال العلامة العثيمين رحمه الله: "وقد ذكرنا قاعدة نافعة: أن مراعاة ذات العبادة أولى من مراعاة مكانها، فإذا أتاها من الشمال كان أيسر؛ لعدم المانع من جبل أو عقبة، المهم أن ترميها من مكان يكون أيسر لك، وأن يقع الحصا في المرمى"
17.
ترتيب رمي الجمار:
على قولين عند العلماء:
- أنه سنة، وإلى هذا ذهب الأحناف
18.
- وذهب الجمهور إلى أنه واجب لما ورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) رواه مسلم برقم (1297)، ولأنه نسك متكرر؛ فاشترط الترتيب فيه كالسعي"
19.
"فيرمون الجمار الثلاث في كل يوم من الأيام الثلاثة بعد زوال الشمس، ويجب الترتيب في رميها، فيبدأ بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده عند كل حصاة، ويسن أن يتأخر عنها ويجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويكثر من الدعاء والتضرع، ثم يرمي الجمرة الثانية كالأولى، ويسن أن يتقدم قليلاً بعد رميها، ويجعلها عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيدعو كثيراً، ثم يرمي الجمرة الثالثة ولا يقف عندها.
ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال كما رماها في اليوم الأول، ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والرمي في اليومين الأولين من أيام التشريق واجب من واجبات الحج، وكذا المبيت بمنى في الليلة الأولى والثانية واجب إلا على السقاة والرعاة ونحوهم فلا يجب.
ثم بعد الرمي في اليومين المذكورين من أحب أن يتعجل من منى جاز له ذلك، ويخرج قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة:203)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للناس في التعجل ولم يتعجل هو بل أقام بمنى حتى رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يصلي الظهر"
20.
التوكيل في الرمي:
يجوز لولي الصبي العاجز عن مباشرة الرمي أن يرمي عنه جمرة العقبة، وسائر الجمار بعد أن يرمي عن نفسه، وهكذا البنت الصغيرة العاجزة عن الرمي يرمي عنها وليها لحديث جابر قال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم" أخرجه ابن ماجة برقم (3038).
ويجوز للعاجز عن الرمي لمرض أو كبر سن أو حمل أن يوكل من يرمي عنه لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16)، وهؤلاء لا يستطيعون مزاحمة الناس عند الجمرات، وزمن الرمي يفوت، ولا يشرع قضاؤه لهم؛ فجاز لهم أن يوكلوا بخلاف غيره من المناسك، فلا ينبغي للمحرم أن يستنيب من يؤديه عنه، ولو كان حجه نافلة؛ لأن من أحرم بالحج أو العمرة ولو كانا نفلين لزمه إتمامهما لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}(البقرة:196)، وزمن الطواف والسعي لا يفوت بخلاف زمن الرمي
21.
و"من توكل عن غيره في الرمي فلا بد أن يرمي أولاً سبعاً عن نفسه، ثم عن واحد ممن وكله، ثم الثاني، ثم الثالث، بمعنى أن يميز كل واحد بالسبع، وكان بعض الفقهاء يقولون: لا بد أن يرمي الجمرات الثلاث عن نفسه، ثم يعود ويرمي الثلاث عن موكله الأول، ثم يعود ويرمي الثلاث عن موكله الثاني، وهذا ليس عليه دليل واضح، فلا نلزم الناس به إذ لو ألزمنا الناس به لحصل مشقة عظيمة"
22.
والله تعالى أعلم.
1 انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني (2/133) دار الكتاب العربي (1982م) بيروت، والبحر الرائق لابن نجيم الحنفي (2/332) دار المعرفة - بيروت، والمجموع للنووي (8/132) دار الفكر (1997م) بيروت، والإقناع للشربيني (1/257) تحقيق مكتب البحوث والدراسات - دار الفكر (1415هـ) بيروت، والمغني (3/500) دار الفكر - بيروت، ط. الأولى (1405هـ)، والمدخل لابن الحاج (4/219) دار الفكر (1401هـ-1981م)، والفقه على المذاهب الأربعة (1/1058) دار الكتب العلمية - لبنان - بيروت (1423هـ-2002م) ط. الأولى.
2 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني (2/136) دار الكتاب العربي (1982م) بيروت.
3 التلقين لأبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي (1/209)، المدخل لابن الحاج (4/219) - دار الفكر (1401هـ-1981م) واختلاف الأئمة العلماء لابن هبيرة (1/289).
4 التاج والإكليل لمختصر خليل (3/495).
5 الاستذكار (4/293)، والإجماع لابن المنذر (57).
6 المغني (3/456)، والأم: (2/213) دار المعرفة (1393هـ) بيروت، والمجموع (7/186) و(8/132).
7 المدونة (3/94)، والشرح الكبير للشيخ الدردير (2/52).
8 تحفة الفقهاء للسمرقندي (1/408) دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، ط. الثانية (1414هـ-1994م).
9 المغني (3/456).
10 المغني (3/456)، وبدائع الصنائع (2/137).
11 فتح الباري لابن حجر (5/435)، وانظر: بدائع الصنائع (2/137)، والمغني (3/483-484)، والمدونة (3/95)، والمجموع (8/166).
12 نقد مراتب الإجماع (1/293).
13 فتح الباري لابن حجر (5/441).
14 فتح الباري لابن حجر (5/443).
15 فتح الباري لابن حجر (5/437).
16 المغني (3/483).
17 الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/325).
18 البحر الرائق (2/375).
19 المغني (3/485)، وانظر: المجموع (8/169)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (6/17)، وشرح مختصر خليل للخرشي (8/28).
20 التحقيق والإيضاح (36).
21 التحقيق والإيضاح (36).
22 الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/326).